رُهابُ الأمازيغية


ألقى السيد مصطفى الكثيري، المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، مؤخَّرا، محاضرة بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، الرباط- أكدال. وقد بثت جريدة هسبريس الإلكترونية تسجيلا للمحاضرة تحت عنوان “الكثيري: المستعمر مهّد لتفريق الأمازيغ والعرب في الكتاب المدرسي”.

تعلمنا نظريتا التلفظ أو القول (Théorie de l’énonciation) وتحليل الخطاب (Analyse du discours) أن دلالة الملفوظ أو المَقول (l’énoncé) لا تَتَحصَّل إلاّ إذا أخذنا في الاعتبار ملابساتِ القول، أي ظروفه التي تتعين بالإجابة عن الأسئلة: من القائل؟ ومتى قال؟ وأين قال؟ ومن نافل القول إن مضمون هذه الأسئلة، كأجوبتها، مضمون أيديولوجي: إنه هو الذي يحدد شروط إمكان الخطاب وانسجامه الداخلي، وكذلك تَمَفْصُلَه مع الواقع، تاريخيا كان أم آنيّا. إن تلك الأسئلة هي التي تفسر اختيار موضوع الخطاب وزمانه ومكانه. كما أنها هي التي تتحكم في بنية الخطاب داخليا: من حيث المعجم المستَعمَل، بمعانيه وإيحاءاته؛ ومن حيثُ الكلماتُ التي يقع تنبيرُها أو التبئيرُ عليها، إلى غير ذلك من الألاعيب البلاغية التي يكشف عنها تحليل الخطاب.

لقد ألف المشاهد المغربي للقنوات العمومية المغربية وجه السيد مصطفى الكثيري وهو يتحدث في المناسبات ذات الصلة بمهامه الوظيفية، مُذكِّرا بتاريخ المقاومة، بتضحياته وبطولاته، ومقدِّما قراءةً لتاريخ المغرب الحديث قد لا يتفق عليها الجميع، لكن تبقى لها وَجاهتُها من حيث إنها تتوخى صيانة اللحمة الوطنية من خلال تخييل للتاريخ يجعله ينسجم مع رؤية ما للحاضر والمستقبل…

لكن الجديد، هذه المرة، هو كونُ السيد الكثيري تدخل في إطار أكاديمي، وجعل جُلَّ مداخلته يدور حول ما سُمي بـ”الظهير البربري”. وكلا اختيار موضوع الخطاب ونبرة الخطيب يدلان على أن موضوع المداخلة هو مغرب اليوم لا مغرب الأمس.

استهل المحاضر محاضرته بمقدمة يفصح فيها بوضوح عن أن “سبب نزولها” ليس هو الذكرى المحتفى بها (ذكرى تقديم “وثيقة المطالبة بالاستقلال”) والسياق التاريخي الذي تندرج فيه، وإنما هو واقع مغرب اليوم وفق قراءته وتشخيصه. يقول المحاضر: “مغرب الزمن الراهن، مغرب الألفية الثالثة، يواجه تحديات وإشكالات ليست اقتصادية أو اجتماعية بقدر ما هي أساسا ثقافية” [كذا]. إن قراءة بين سطور المحاضرة (بل وفي سطورها أيضا) لابد أن تفضي بالقارئ الى استنتاج مفاده أن السيد الكثيري يقيم معادلة ضمنية بين سياق “الظهير البربري” وبين السياق الراهن المتمثل في الحَراك الهوياتي الأمازيغي. وإلاّ كيف نفهم انتقال المحاضر مباشرة من تشخيصه “الثقافوي” لإشكالات المغرب الراهن، ذلك التشخيص الذي أتى بنبرة التحذير والانذار، الى التوسع في شرح مرامي “السياسة البربرية” لفرنسا كما يجسدها “الظهير البربري” من منظور “الحركة الوطنية”؟ ولا يكتفي السيد الكثيري بنسبة إرادة التفريق بين الأمازيغ و”العرب” الى سلطة الحماية، بل يعتبر أن “النزعة الانعزالية” متأصلة في الأوائل. يقول: “نحيل على الثورة التي عمت ربوع الوطن ابان فترة الحماية غداة الإعلان عن صدور ما سمي “الظهير البربري” (…) والذي كان من أهدافه فتح المدارس الفرنكو-أمازيغية في مناطق الأطلس لتشجيع النزعة الانعزالية” [كذا]. ويتوسع المحاضر فلا يقتصر على التذكير بمقتضيات “الظهير” بل يعرج على دروس التاريخ، حيث “كان التركيز في الكتاب المدرسي ديال المستعمر (على) أن العرب كانوا غزاة، وأن البربر كما سماهم المستعمر قريبون من الحضارة اليونانية، في أفق الفرقة القسرية للأمازيغ عن العرب ومحاولة تقريبهم من المستعمر…”. أما “نشاطات التبشير” فقد كانت تتنامى “في الأوساط المغربية عموما والأمازيغية بالأخص” (لنلاحظ تخصيص “الأوساط الأمازيغية”، مع أن السيد الكثيري يعلم أن من تنصر من المغاربة كان من نخبة فاس والرباط وليس من أمازيغ أزرو ولا ميدلت …).

فهل يسعى السيد الكثيري الى إعادة انتاج أجواء التعبئة، على غرار ما فعلته “الحركة الوطنية” بالأمس، لكن هذه المرة ضد الأمازيغية نفسها وبالتذرُّع بذكرى “الظهير البربري” إياه؟ وإلاّ فما الغرض هنا والآن، في مغرب العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، وقريبا من قرن من الزمان بعد صدور ما سمي ب”الظهير البربري” – ما الغرض من الخوض بكل ذلك التوسع وبتلك النبرة المشحونة في “السياسة البربرية” لفرنسا، التي، مهما كانت دواعيها، لم يكن لإيمازيغن ولا لِـ”العرب” يد فيها؛ والتي من المفروض أنها قد صارت في خبر كان، بعد استقلال المغرب بما يزيد عن ستين سنة؟

الجواب هو أن التيار العروبي يرعبه ما يلاحظه من انتشار الوعي الهوياتي عند المغاربة بجميع فئاتهم: وعي لا يفتؤون يعبرون عنه بمختلف الصيغ والأشكال عبر كل أنحاء البلاد وفي المَهاجر؛ حتى ان الثقافة المغربية أصبحت، هناك، مرادفا للثقافة الأمازيغية (أتحدث عن الثقافة الحية لا ثقافة الكتب التي لا تكاد تباع…). وتكفي للتحقق من ذلك مظاهرُ الاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة عاما بعد عام؛ حيث صار الاحتفال بها تعبيرا عن وعي بالانتماء، لا مجرد طقس عائلي مرتبط بدورة الطبيعة، ولا محض نشاط ثقافي تحييه الجمعيات الأمازيغية في “مقراتها” المتواضعة. لقد أصبح الاحتفال بالسنة الأمازيغية ظاهرة شعبية تشارك فيها مختلف فئات المجتمع: من جمعيات مهنية وطلبة وتلاميذ وجاليات مغربية في القارات الخمس. ومما ينبغي الإشادة به أن الجمعيات الأمازيغية في الداخل والخارج تمكنت من توسيع دائرة المشاركين في الاحتفالات لتشمل المغاربة من غير الناطقين بالأمازيغية. يقع هذا على الرغم من كل السدود التي تقيمها الدولة للتحكم في تيار الامازيغية الجارف عبر تقنين صبيبه بقوانين مجحفة وممارسات تمييزية.

لا شك أن ما تحققه الأمازيغية من اختراقات على المستوى المجتمعي هو الذي يفسر حالة الهلع التي استبدت بحراس المعبد، فهرعوا إلى أدراجهم يخرجون منها رفات خطاب “الظهير البربري” وينصبونها فزّاعة يخيفون بها المغاربة. لكن هيهات: فقد تخدع بعضَ الناس كلَّ الوقت، أو كلَّ الناس بعضَ الوقت، لكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت (حسب المقولة المنسوبة إلى أبراهام لنكولن، من رؤساء أمريكا السابقين).


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments