بعد دسترة الأمازيغية: الدولة تأكل نفسها


يبدو أن الدولة المغربية لا تملك رؤية واضحة تجاه مسلسل تدبير التعدد اللغوي والثقافي بالمغرب، والذي تأتي الأمازيغية كقضية محورية وأساسية فيه، على اعتبار أنها عانت عقودا كثيرة من الاقبار والاقصاء، نتيجية تبني الدولة بعد الاستقلال للنهج الأحادي الاقصائي المتمثل في التعريب، كآلية رهيبة لتصفية الأمازيغية كلغة وثقافة وحضارة وتاريخ وهوية.

وبعد نضال مرير وتضحيات جسام، وصراع قوي مع الدولة واحزابها وكل من يسبح معهما داخل مسبح العروبة، من اليسار واليمين ومن ماركسيين وإسلاميين، ضحت أجيال امازيغية طيلة عقود سنوات القمع والرصاص، ( وبعد كل ذلك) بدأ مسلسل انصاف الأمازيغية بخطاب ملكي سنة 2001 في منطقة أجدير. ودخلت بذلك الأمازيغية مرحلة جديدة، مرحلة الانصاف داخل الدولة. أو ما يسميه البعض بالعمل المؤسساتي لصالح الامازيغية بتمويل من ميزانية الدولة ووفق استراتجيتها، مقابل العمل المدني الجمعوي الذي كان سائدا والمبني على التطوع والتضحيات التي كان يقوم بها المناضلون والمهتمون بالأمازيغية.

وإذا عدنا إلى سياقات سنة 2001 بعد خطاب أجدير، سنلاحظ أن تدخل الدولة في شأن الأمازيغية أربك كثيرا حسابات الحركة الامازيغية والفاعلين داخلها، بل نقول بصراحة، إن تدخل الدولة في الأمازيغية احدث شرخا كبيرا ومفزعا داخل الحركة، وقسمها على شطرين غير متكافئين :

الأول : هو قطب المستفيدين من هذا التدخل، هو القطب القوي والكبير، لأن الدولة استقطبت تقريبا جل الوجوه المناضلة والفاعلة داخل الحقل الجمعوي والجامعي والمدني…وتقوى هذا القطب ماليا واجتماعيا نتيجة التعويضات المالية الضخمة والاجور الكبيرة التي كان المعينون والملتحقون إلى المعهد يحصلون عليها، وبدأ زخم من الأنشطة والانتاج والندوات، وكان التهليل بهذا العمل في مختلف الجهات والاقاليم، واتذكر ندوة لاحمد عصيد في بلدية أݣادير سنة 2003 هلل ونفخ كثيرا في حجم الانتاج الادبي والاكاديمي والعمل الذي يقوم به المعهد، وتكلم عنه كأنه فتح مبين للامازبغية، خاصة أن تلك السنة بدأ مسلسل إدماج الأمازيغية في التعليم الابتدائي، وكان عصيد حمل معه إلى منصة الندوة الكتاب المدرسي تيفاوين، مما جعل الاستاذ مبارك بولݣيد ينتقده بشدة وحذره من الإفراط في التفائل، وفسر له وللحضور بكون المعهد الملكي لا يعدو أن يكون مؤسسة عادية تروم احتواء الأمازيغية كمثلتها من المؤسسات والمعاهد ذات الطابع الاستشاري. ويكون قطب العمل المؤسساتي يشتغل من داخل المعهد بمقاربة الدولة، ويكتفي بالانتاج الادبي وبالاشتغال على اللغة والعمل والاكاديمي، مع فتح نافذة على الجمعيات الأمازيغية بتمويلها لتنظيم بعض الأنشطة وفق اتفاقيات وشراكات بين المعهد والجمعيات وفق ما ينسجم مع توجهات المعهد، بفصيح العبارة هو تمويل مشروط ومراقب.

الثاني : هو قطب الرافض لتدخل الدولة في شأن الأمازيغية في صيغة المعهد الملكي للثقافة الامازيغية، واختار الاستمرار في العمل باستقلالية، ومن الطبيعي أن تكون المواجهة بين الطرفين، لأن تدخل الدولة دائما يخلق مثل هذه الرجات وسط الحركات الاجتماعية التي تتمسك بالضغط والنضال خارج المؤسسات والتشبث بالاستقلالية. لكن هذا القطب كان ضعيفا ماديا ومتشتت وعانى من قوة القطب الأول المدعوم ماليا. وكان يقود هذا التيار الرافض الاستاذ احمد الدغرني الذي كان منسقا وطنيا سابقا للتنسيق الوطني ومدير نشر جريدة تامزيغت، والذي نشر أطروحة سياسية بعد مؤتمر بوزنيقة الممنوع تحت عنوان “البديل الأمازيغي” بالإضافة إلى مناضلي جمعية تيليلي بݣلميمة ومناضلين آخرين ينتشرون في مختلف المناطق والمدن المغربية ويشتغلون على مقاربات مختلفة، ثم الحركة الثقافية الأمازيغية داخل الجامعات المغربية. هؤلاء كلهم كانوا يتوجسون من تأسيس المعهد ومن أهدافه، لأنهم يرون أنه يسعى الى احتواء القضية الأمازيغية والمناضلين، ويعتبر الدغرني في أطروحته أن المدخل الاساسي في معالجة الأمازيغية وانصافها هو مدخل سياسي، وليس أكاديمي محض.

وبعد أربع سنوات فقط على تأسيس المعهد الملكي للثقافة الامازيغية، نجح الاستاذ احمد الدغرني بمعية مناضلين وفعاليات امازيغية من مختلف مناطق المغرب في تأسيس الحزب الديموقراطي الامازيغي في يوم 29 يوليوز 2005 بالرباط. وكانت هذه المجموعة مؤمنة بضرورة بناء مشروع مجتمعي مبني على مرجعية أمازيغية في بعدها الحضاري والثقافي، ومفتح على الحداثة والافكار الكونية المؤطرة لمنظومة حقوق الإنسان، ولكن في نفس الوقت مستقل عن السلطة، لأن الأمازيغية هي رديفة الحرية. لكن الحزب اصطدم بالنسق السلطوي، وحرم من الوصل القانوني كما تمنعت السلطة في الجهات والاقاليم التعامل مع فروع الحزب، وحاصرت انشطته، وفي سنة 2007 رفعت وزارة الداخلية دعوى قضائية ضده، انتهت بالحكم عليه بالبطلان سنة 2008 واستأنف الحكم وأيدت المحكمة الإدارية الحكم الابتدائي سنة 2010.

وفي 20 فبراير إثر اندلاع موجة من الاحتجاجات الشعبية في جل المدن والبوادي بالمغرب مطالبة بالتغيير والمزيد من الحريات، انضم المناضلين والجمعويين والطلبة والشباب الامازيغي، إلى هذه الاحتجاجات وشارك فيها بقوة، تنظيما، وتعبئة وميدانا، وجعل مطلب ترسيم اللغة الأمازيغية في الدستور على قائمة مطالب حركة 20 فبراير.
وفعلا بعد شهور من الاحتجاجات، طرح دستور جديد وحظي باستفتاء شعبي، متضمنا دسترة الأمازيغية كلغة رسمية مشروطة بقانون تنظيمي، ونفس الدستور جاء بمؤسسة جديدة تعنى باللغات والثقافة، وهي المجلس الوطني للغات والثقافة الوطنية. وفي نفس الدستور نجد منعا كليا لتأسيس أحزاب بأساس عرقي أو جهوي أو ديني.

بعد كل هذا؛ نعود إلى أن الدولة المغربية بتأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بظهير ملكي، كانت لها مقاربة معينة وخصصت لها ميزانية ضخمة، نتج عنها تراكم علمي وأدبي هائل هذه المقاربة، قادت إلى إدماج الامازيغي في المدرسة العمومية والاعلام العمومي، وهي مقاربة عمرت حوالي 20 سنة. لكن حاولت هدمها اليوم بقانون تأسيس المجلس الوطني للغات والثقافة الوطنية.
ونسجل أن الحكومة تأخرت كثيرا في اخراج القوانين التنظيمية لتفعيل الطابع الرسمي للامازبغية، وتبين أنها تتقاعس كثيرا في احترام الدستور بسن سياسات عمومية جدية وسريعة لفائدة الأمازيغية وصيانتها من الاندثار. وهو ما يفصح عن النوايا الحقيقية للاحزاب والفرق البرلمانية وللحكومة بشكل عام.

مجمل القول، أن الدولة حكمت بالحل والبطلان على الحزب الديموقراطي الامازيغي بعد ثلاث سنوات على تأسيسه، وحكمت بالحل والذوبان على المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بعد 18 سنة على تأسيسه. فسواء كانت المقاربة سياسية ومستقلة عن الدولة، أو كانت مقاربة أكاديمية من داخل الدولة، فمصيرهما هو الحل.
فهل ندمت الدولة على ترسيم اللغة الرسمية في الدستور


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments