عندما يسيء لساني إلى اللسان


نشر الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري بجريدة المساء، ليومي 30 أبريل وفاتح ماي 2012، مقالا بعنوان “التعدد اللساني والتحرر أولا”، تطرق فيه، مرة أخرى، ومن وجهة نظره، إلى إشكالية التعدد اللساني بالمغرب.

وفي ما يلي مناقشة لآراء ومواقف الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري التي عبر عنها في المقال المذكور.

هل المفردات المعجمية هي اللغة؟

في دفاعه عن اللغة العربية، وردّا على الداعين إلى استعمال الدارجة المغربية، يقول الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري: «ليس صحيحا، كما ادعى السيد عيوش، أن السيد بنكيران، رئيس الحكومة، قاد حملته الانتخابية بما أسماه السيد عيوش لغة المغاربة، يقصد الدارجة»، «بل إن هذا غير ممكن، لأن الحملة الانتخابية تحدثت عن الديمقراطية والعدالة واقتسام الثروات والتوازنات الاقتصادية والاستبداد واقتصاد الريع ومحاربة الفساد، إلخ. فهلا زودنا السيد عيوش بمفردات ومصطلحات خاصة بالعامية الشعبية تعبر عن هذه المفاهيم؟».

هنا يقع السيد الفهري في خلط “عامّي” بين اللغة وبين الكلمات المعجمية التي تستعملها هذه اللغة. فإذا كانت الدارجة المغربية تستعمل مفردات من معجم العربية الفصحى، فلا يعني ذلك أن هذه الدارجة تنتمي إلى اللغة العربية وتشكل جزءا منها. وإلا لكانت اللغة الفارسية أحد “تنوعات” اللسان العربي ـ حسب تعبير السيد الفهري ـ ما دام أن أزيد من نصف معجمها عربي، فضلا عن الحرف العربي الذي تكتب به. ومع ذلك فالفارسية لغة قائمة بذاتها ذات أصول هند وأوروبية وليست سامية مثل العربية. بل إن العربية نفسها، عندما تستعمل مفردات مثل “صولجان”، “مهرجان”، “برنامج”، “دستور”، “ديموقراطية”، “إيديولوجيا”، “برلمان”، “فلسفة”…، ستصبح، إذا اعتمدنا هذا المنطق “العامّي”، لغة “غير عربية” تلحق باللغات الأخرى التي تستعمل ألفاظا من معجمها اللغوي. وحسب هذا المنطق “العامّي” دائما، ستكون لغة القرآن، الذي نزل بلسان عربي، “غير عربية” لأن جزءا غير يسير من مفرداته غير عربي مثل (“زمهرير”، “سلسبيل”، “فردوس”، “جهنم”، “آمين”، “ماعون”،”مكة” ـ نعم اسم مكة المكرمة ـ، “أباريق”، “سجيل”، “اليم”، “التنور”…). فهل سنتحدى القرآن ونطرح نفس السؤال الذي تحدى به الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري السيد عيوش لنقول: « فهلا زودنا القرآن بمفردات ومصطلحات عربية تعبر عن (“زمهرير”، “سلسبيل”، “فردوس”، “جهنم”، “آمين”…)؟

ألسنا هنا أمام عبث حقيقي لا علاقة له بالعلم ولا بالمعرفة ولا باللسانيات؟

هذا هو المأزق، والعبث، اللذان يؤدي إليهما الاستدلال “العامّي” الذي اعتمده الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري.

نريد بهذه الأسئلة والأمثلة والملاحظات أن نبيّن أن الدارجة المغربية لغة لا تربطها بالعربية إلا علاقة معجمية محدودة. والألفاظ المعجمية لا تخلق اللغة، كما يعرف ذلك جيدا السيد الفهري، وإنما طريقة استعمال تلك الألفاظ في تراكيب نحوية خاصة هي التي تشكّل روح اللغة وجوهرها. فالتعبير الدراج “حل الباب”، ليس تعبيرا عربيا رغم أن اللفظين (حل، والباب) عربيان، لأن “الحل” في اللغة العربية لا يكون للباب، وإنما للمشكل، أو بالمكان (الحلول). فهذه العبارة لا معنى لها إذن في اللغة العربية، وبالتالي فهي ليست عربية، لأنها ترجمة حرفية للعبارة الأمازيغية (رزم تاوورت) مع الاحتفاظ بنفس المعنى الذي لا يفهم خارج هذه اللغة الأمازيغية. فالدارجة المغربية، التي تسمى خطأ وعامّيا “العربية”، هي في الحقيقة لغة أمازيغية، أولا في روحها وتركيبها ونحوها ومعانيها، وثانيا في نشأتها بالبلاد الأمازيغية بشمال إفريقيا إذ لم تأت إليها من شبه الجزيرة العربية مثل اللغة العربية الحقيقية، أي ما نسميه العربية الفصحى. أما علاقتها بهذه الأخيرة فتقتصر، كما سبقت الإشارة، على جزء من المعجم العربي الذي تستعمله الدارجة كما هو حال جميع اللغات التي تستعمل مفردات أجنبية عنها، وضمنها العربية التي هي نفسها تستعمل ألفاظا من لغات أخرى كما سبق أن أوضحنا.

لا قياس مع وجود الفارق:

وارتباطا بنفس الموضوع، الذي هو “لغة المغاربة”، الذي يناقشه الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري، يقول: «لغة الشعب هي اللسان العربي بصيغه وتلويناته»، «حيث إن حوالي 95 في المائة ناطق باللسان العربي بتنوعاته».

بعد الخلط بين اللغة والمفردات التي تستعملها هذه اللغة، يقع السيد الفهري، في الخلط الثاني، المرتبط بالأول، والخاطئ طبعا لأنه مجرد فكرة “عامّية” وليس حقيقة علمية، وهو الخلط بين اللغة العربية والدارجة المغربية التي ليست، حسب السيد الفهري، سوى إحدى “صيغ” وأحد “تلوينات” وتنوعات” اللسان العربي الذي يستعمله حوالي 95 في المائة من المغاربة. مع أن اللغة العربية ليست لها “صيغ” ولا “تلوينات” ولا “تنوعات” تجعل منها لسانا متعددا في مستويات استعماله، ما عدا ما يتعلق بتنوع الأسلوب والاختلاف في اختيار الألفاظ وصيغ التعبير، التي قد تتباين من شخص لآخر كما في أية لغة واحدة موحدة. خطأ القول بأن اللغة العربية لسان متعدد في “تلويناته” وتنوعاته” ناتج عن خطأ اعتبار الدارجة المغربية لسانا عربيا لأنها ـ وفقط لأنها ـ تستعمل ألفاظا تنتمي إلى القاموس العربي، كما سبقت الإشارة. وهو ما يقيسه السيد الفهري، كما يفعل كثيرون غيره، على حالة التعدد الحقيقي لمستويات استعمال اللغة الواحدة كما في الفرنسية مثلا أو الإسبانية أو الألمانية أو أية لغة أخرى لا زالت تحتفظ بوظيفة التخاطب الشفوي بجانب وظيفتها الكتابية. فكما أن استعمال الفرنسية مثلا يتضمن مستوى أكاديميا ومستوى وسيطا ومستوى عاميا، يخلص السيد الفهري، بناء على آلية القياس، إلى أننا «نجد العربية الفصيحة والوسيطة» كذلك في المغرب، فضلا عن الدارجة التي ليست، كما قال لنا، إلا أحد “تنوعات” اللسان العربي.

الأستاذ الفهري ينطلق إذن، حتى وإن لم يصرّح بذلك، من قياس اللغة العربية على لغات أخرى تعرف حقا تعددا في مستويات استعمالها، متناسيا ومتجاهلا القاعدة الفقهية المشهورة التي تقول “لا قياس مع وجود الفارق”. أين هو هذا الفارق بين العربية ولغات أخرى على صعيد تعدد مستويات الاستعمال؟ الفارق هو أن العربية فقدت وظيفة التخاطب الشفوي ولم تعد لغة تستعمل في الحياة اليومية، خلافا للغات أخرى كالفرنسية أو الإسبانية أو الألمانية أو الإيطالية… وأين هو المشكل في هذا الفارق؟ المشكل هو أن أنه يستحيل أن تكون للعربية مستويات متعددة لاستعمالها، كما في الفرنسية أو الإنجليزية، لسبب بسيط وهو أن تعدد مستويات استعمال اللغة، تبعا للوضع الطبقي أو الاقتصادي أو الثقافي أو المهني للمستعمل، مقصور فقط على حالات التخاطب الشفوي لا غير. والحال أن اللغة العربية فقدت منذ قرون، كما سبق أن قلنا، وظيفتها كلغة تخاطب في الحياة اليومية. وبالتالي فلا يمكن الحديث عن «عربية فصيحة وعربية وسيطة»، ولا عن الدارجة كأحد “تنوعات” اللسان العربي، لأن السبب المنتج لهذه المستويات من استعمال اللغة منتفٍ ومنعدم. وإذا انتفت الأسباب انتفت معها نتائجها. فالعربية لا تعرف إذن إلا مستوى واحدا من الاستعمال، وهو المستوى المدرسي الفصيح، أي مستوى اللغة المعيارية المرتبط بما هو كتابي. ولهذا يمكن القول بأن العربية، ولأنها لغة كتابة أكثر مما هي لغة تخاطب شفوي، هي أبعد اللغات عن التعدد في مستويات و”صيغ” و”تلوينات” و”تنوعات” استعمالها، إذ هي ذات وحدة كاملة وبصيغة واحدة هي صيغة العربية الفصحى المعيارية المستخدمة في الكتابة. أما اعتبار الدارجة المغربية، كما يعتقد العامّة، صيغة للغة العربية أو أحد تنوعاتها، على شاكلة “لاركو” (L’argot) في الفرنسية، فذلك جزء من الأفكار العامية الشائعة حول اللغة العربية، والتي تنطلق من قياس فاسد للغة العربية، التي فقدت وظيفة التخاطب في الحياة اليومية، على لغات كالفرنسية أو الإنجليزية أو الإسبانية لا زالت تستعمل كلغة تخاطب يومي، كما سبق أن شرحنا.

ولهذا فإنه من الخطأ غير المقبول القول بأن الدارجة المغربية هي أحد “تنوعات” اللسان العربي. نعم الأمازيغية، ولأنها تستعمل في التخاطب، تعرف صيغا وتلوينات وتنوعات كالريفية والزيانية والسوسية والقبايلية…

فالواقع إذن ـ وكيف ينكره السيد الفهري؟ ـ هو أن اللغة العربية، ولأنها فقدت وظيفة التخاطب الشفوي كما سبقت الإشارة، ليست لسان أحد، ليس في المغرب فحسب، وإنما في العالم بأسره. أما أن تكون لغة 95 في المائة من المغاربة، فهذا كلام العامّة وليس كلام العلماء والمتخصصين. بل يمكن القول إن العربية لم تعد “لسانا” بل هي لغة فقط، إذا اعتبرنا أن اللسان يرتبط بالنطق والتخاطب الشفوي.

وحتى يقنعنا السيد الفهري بهذه النسبة من 95 في المائة، يقول: «والشعب منذ صغره يتصل بالعربية بتنوعاتها عبر الفضائيات المغربية والعربية، فيكتسب جزءا من اللغة الفصيحة قبل دخوله المدرسة». فحتى على فرض أن هذا الأمر صحيح، مع أنه ليس كذلك، فلن يكون ذلك مبررا لأن تكون «لغة الشعب هي اللسان العربي بصيغه وتلويناته»، يكتسبها حتى قبل المدرسة، وإلا لكانت الفرنسية هي كذلك “لغة الشعب” “لأنه منذ صغره يتصل بالفرنسية عبر الفضائيات المغربية والفرنسية، فيكتسب جزءا من اللغة الفرنسية قبل دخوله المدرسة”.

ويضيف السيد الفهري: «والشعب يولد من أب وأم وفي بيت يمثل البيئة الأولى لاكتساب اللغة، والوالدان (إذا لم يكونا أمازيغيي اللسان حصريا) ينشئانه على لغة المتمدرس عادة، أي لغة يمتزج فيها العامي والوسيط وبعض الفصيح».

هكذا يواصل الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري توظيف نظرته الخاطئة إلى اللغة التي يختزلها في الألفاظ، حتى نفهم لماذا يستعمل 95 في المائة من المغاربة “اللسان العربي”. فإذا كان الطفل يكتسب ألفاظا فصيحة مثل “افتح”، “سيارة”، “حصان”، “عطلة”، “منزل”، “شكرا”… فلا يعني ذلك أنه يكتسب العربية الفصيحة، وإلا لكان جميع المغاربة يكتسبون منذ صغرهم الفرنسية لأنهم يسمعون ويستعلمون منذ طفولتهم ألفاظا وعبارات فرنسية من قبيل «ça va», «Bonjour», «Vacances»,«Gâteau», «Merci», «Voiture», «Café», «La vache qui rit», «Papa, … …

لغة برِجل واحدة:

ويتساءل السيد الفهري: «هل اللغة العربية لغة القرآن، حصريا، كما تزعم السيدة هند التعارجي، في أسبوعية الحياة الاقتصادية، أم أنها غير هذا؟» ليخلص إلى أن «اللسان العربي مهيأ لأن يتحدث عن الغزل وعن العري والفسق، والعلم والفن وأجناس الأدب، والاقتصاد والاجتماع والسياسة». هذا صحيح، وصحيح جدا. فاللغة العربية تستطيع أن تقتحم كل المجالات وتتناول كل القضايا والموضوعات، وليست لسانا مقصورا على القرآن والعلوم الدينية. لكن ما تفتقر إليه العربية، ولا تستطيع إليه سبيلا، هو أن تكون لغة للتخاطب الشفوي بين الناس مثل الصينية والكورية والفرنسية والإسبانية والألمانية… وفقدانها، لأسباب تاريخية، لهذه الوظيفة التخاطبية الحيوية، يجعلها تفقد أحد رِجليها، فتضطر إلى الوقوف على رِجل واحدة كمعاقة وعاجزة عن التحرك بسهولة كما تفعل اللغات التي تقف على رِجلين اثنتين: رِجل التخاطب الشفوي ورِجل الاستعمال الكتابي.

وهذا هو العجز الوحيد الذي أصاب اللغة العربية، ولكنه أصل كل الأعجاز الأخرى التي تعاني منها هذه اللغة الجميلة، والتي تجعلها دائما في موقع دفاع تجاه لغات عالمية أخرى.

وعادة ما يتركز الدفاع عن اللغة العربية على استعراض محاسنها ومزاياها، والتذكير بعبقريتها وعظمتها وأمجادها. لكن ذلك كله مجرد إنشاء خارج الموضوع. لأنه لا يفيد العربيةَ في استعادة وظيفتها التخاطبية. يجب الاعتراف حقا أن العربية تتميز بخصائص تجعل منها لغة عبقرية وعظيمة بنظامها النحوي والاشتقاقي والمعجمي. لكن كل هذه العبقرية وهذه والعظمة لا ترجعان لها وظيفتها التخاطبية التي أصبحت بفقدانها لغة تعاني من عجز وإعاقة كما قلت.

فعندما يقول الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري: «وليست العربية المعيار بأقل جاهزية من اللغات التي تدرّس بها العلوم والرياضيات، في كوريا وأندونيسيا وفنلندا وإسرائيل»، فإن ما ينساه، رغم أن ذلك هو بيت القصيد، هو أن هذه اللغات لا تزال تحتفظ بوظيفتها التخاطبية بجانب وظيفة الكتابة، وهو ما لا ينطبق على العربية التي أصبحت لغة كتابة أو قراءة لما هو مكتوب أصلا.

“التخطيط اللغوي” بناء على وظائف وقدرات كل لغة:

فالعناية بالعربية والدفاع عنها والرفع من مكانتها ليس مسألة إرادة ورغبة، ولا حتى مسألة أموال وميزانيات. إنها مسألة واقع لا يرتفع، ولا تغيره الإرادات ولا الرغبات ولا «التخطيط اللغوي» الذي يتحدث عنه السيد الفهري. هذا الواقع هو أن العربية لم تعد لغة تخاطب شفوي. فكل “تخطيط لغوي” يرمي إلى تنمية العربية والعناية بها والنهوض بها لا يأخذ هذا الواقع بعين الاعتبار، يساهم في الحقيقية في الإساءة إلى هذه اللغة والتنقيص من قدرها. لماذا؟

لأن الذين يريدون أن يجعلوها في مصاف لغات كالإنجليزية والصينية والفرنسية والإسبانية والكورية واليابانية…، مثل الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري، لتقوم بنفس الأدوار والوظائف التي تقوم بها هذا اللغات، يضعون العربية في المستوى والمكان غير المناسبين لها، أي حيث ينكشف عجزها وقصورها مقارنة بهذه اللغات، بسبب افتقارها إلى الوظيفة الأولى لحياة اللغة، وهي وظيفة التخاطب الشفوي. فهنا، عندما نقحم العربية مع اللغات الأخرى التامة الوظائف، نتعامل معها كما نفعل مع معاق من رِجله اليمنى لكن نقحمه في سباق للعدو الريفي مع عدّائين سليمي الأرجل التي هي أداة العدو. فالنتيجة الأكيدة أن هذا المتسابق المعاق سيكون في مؤخرة المتسابقين. فتشجيع هذا المعاق والعناية به لا تكون بإشراكه في سباق للعدو الريفي، بل بإشراكه في مسابقات تمكّنه من إظهار مواهبه وتفوقه، وليس إعاقته وعجزه.

الفرق، على مستوى الأداء والنجاحة، بين لغة تستعمل كلتا وظيفيتيها (التخاطبية والكتابية)، ولغة لا تستعمل إلا الوظيفة الكتابية كالعربية، يظهر في مسألة التعليم والتدريس والتكوين وتلقين المعارف. فالتكوين الذي يتلقاه تلميذ بلغة الأم أو بلغة تحتفظ بكلتا وظيفيتها، يكون أجود وأفضل وأفيد، وأقل كلفة في الوقت والجهد والمال من التكوين الذي يتلقاه بلغة لا تستعمل في التخاطب.

وهنا، على مستوى المدرسة، تبرز المشكلة الحقيقية الكبيرة للغة العربية، وأثرها على تكوين المواطنين والأطر ورجال الغد، وعلاقة كل ذلك بالتنمية والتقدم. أما لو لم تكن هناك مدرسة ولا تعليم ولا تدريس ولا تكوين ولا تلقين للمعارف والعلوم، لبقيت العربية أجمل اللغات وأفضلها وأعظمها بلا منازع.

“فالتخطيط اللغوي” الواقعي الذي يأخذ بعين الاعتبار التنمية وجودة التكوين والتدريس، وليس الذي تحركه أهداف إيديولوجية لا تنفع البلاد، يقتضي التعامل مع المشكل اللغوي بالمغرب بناء على وظائف وقدرات اللغات المستعملة كالعربية والأمازيغية والفرنسية والدارجة.

فالأفضل أن تستعمل العربية، نظرا لأنها لغة كتابة وليست لغة تخاطب، في مجال العلوم الشرعية والدينية، ومجال الثقافة العربية الإسلامية. ولا يعني “تخصص” اللسان العربي في هذه المجالات «دون العلوم الدقيقة والتقنيات» أننا «نقتله تدريجيا» كما كتب الأستاذ الفهري. بل إن قتله هو تكليفه بأدوار ووظائف هو ليس مؤهلا لها، لأنه فقد وظيفة التخاطب الشفوي كما سبق أن شرحنا. أما عندما نكلّفه بما هو قادر عليه، ففي ذلك حفاظ على حياته وصيانة لها.

فنحن جميعا نحب ونتمنى أن تكون العربية لغة «العلوم الدقيقة والتقنيات». لكن الإرادة والرغبة والتمني لا يمكن أن تغير من الواقع شيئا كما كتبت: فالعربية لغة كتابة ويستحيل استحالة مطلقة أن تعود لغة تخاطب.

وفشل سياسة التعريب بالمغرب خير شاهد على ما نقول. فكل الأموال الطائلة والمجهودات الكبيرة والوقت الكثير الذي أنفق من أجل القضاء على الفرنسية وإحلال محلها العربية، كل ذلك ذهب سدى وبدون جدوى، مع تدنٍّ فضيع لمستوى تعليمنا، في حين أن الفرنسية لا تزال هي اللغة المهيمنة بالمغرب.

فهذه المجهودات التي تبذل لجعل العربية في مستوى لغات العلوم الدقيقة والتقنيات ليست سوى ما يسمى (Acharnement thérapeutique)، أي الإصرار على إبقاء الميؤوس من حياته حيا بطريقة اصطناعية، مع أن العربية يمكن أن تحيا عزيزة مكرمة وبلا حاجة إلى علاج اصطناعي إذا أسندت إليها الوظائف التي هي أهل لها وقادرة على أدائها، كما سبق بيان ذلك.

والتعامل الواقعي مع اللغة الفرنسية يقتضي الاعتراف بها كلغة وطنية، نعم كلغة وطنية لأنها هي كذلك. بل إذا استحضرنا وظيفة التخاطب التي تتوفر عليها الفرنسية وتفتقر إليها العربية، فستكون الفرنسية لغة وطنية بالمغرب أكثر من العربية، لأن عددا كبيرا من المغاربة يتخاطبون بها عكس العربية، علما أن اللغة الوطنية هي اللغة التي يتخاطب بها المواطنون في بلد ما. فالفرنسية، حتى إذا كان الاستعمار هو الذي غرسها بالمغرب، إلا أنها أصبحت غنيمة حرب نافعة كما قال كاتب ياسين.

أما الأمازيغية فيجب التعامل معها كلغة الهوية، أي لغة الأرض والجغرافيا والانتماء. وهي قادرة بحكم وظيفتها التخاطبية أن تقوم بكل الأدوار والوظائف بشكل ناجح إذا تم تأهيلها بشكل جدي موفق لتكون لغة كتابة وتدريس. وفي هذه الحالة ستكون هي المنتظر منها منافسة الفرنسية وزحزحتها من عرشها بالمغرب، لأنها ستكون قادرة على القيام بنفس الوظائف (التخاطب والكتابة) التي تقوم بها الفرنسية.

لا أحد ينكر أن الدارجة لغة وطنية. ويجب هي كذلك تأهيلها لأن تكون صنوة للأمازيغية، التي هي في الحقيقة أمها التي أنجبتها واحتضنتها وربتها.

اللغة العربية والتحرر:

عنوان مقال الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري هو «التعدد اللساني والتحرر أولا». فحسب رأيه، «اللسان العربي اليوم هو لسان التحرر والثورة». وهذا ما يفسر اختياره للعنوان المذكور.

من يسمع هذا الكلام يخيّل إليه أن هذا اللسان العربي هو لسان عربي آخر جديد، لم يسبق له أن كان هو نفسه لسان القمع والطغيان والاستبداد. ألم يكن هذا اللسان هو نفسه لسان النظام القمعي لصدام حسين؟ ألم يكن هو نفسه لسان النظام الديكتاتوري للقذافي؟ أليس هو نفسه لسان نظام بشار الأسد الذي لا زال (5 ماي 2012) يحصد يوميا العشرات من السوريين؟

فهل صحيح إذن أن اللسان العربي هو لسان التحرر والثورة؟

لقد قامت ثورات الربيع الديموقراطي ضد القمع والطغيان والاستبداد. وأحد مظاهر هذا القمع والطغيان والاستبداد هو أن يحرم الشعب من استعمال لغته، التي يتخاطب بها، في مرافق ومؤسسات الدولة، مع فرض لغة لا يستعملها أحد في الحياة وهي اللغة العربية. فالشعب يبدو في هذه الحالة مقطوع اللسان (لسانه الذي يستعمله في التخاطب)، يصعب عليه التعبير بتلقائية عن رغبته في الحرية والثورة. مع أن الحرية تبدأ بتملك اللسان الذي به يعبر المواطن عن هذه الحرية. أما عندما يكون هذا المواطن سجين لغة لا يستعملها ولا يتخاطب بها فهو في الحقيقة فاقد للسان، أي فاقد لأداة التعبير عن الحرية. هكذا تكون العربية جزءا من أنظمة الاستبداد في ما يسمى العالم العربي. لهذا نجد كل الأنظمة الاستبدادية العربية، رغم أنها تستعمل اللغات الأجنبية عندما يتعلق الأمر بالمصالح الاقتصادية والمالية لحكامها، تدافع عن العربية وتنفق عليها الملايير، لأن هذه اللغة تقوم هي نفسها بوظيفة أداة للقمع (قمع حرية التعبير بلغة الحياة) ينضاف إلى قمع أجهزة الأمن. فاللغة التي لا تستعملها إلا نخبة محدودة هي بالتأكيد لغة قمع وليست لغة تحرر.

وعندما يقول الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري: «وقامت الأمم-الدول تاريخيا عبر اللغة، كما حدث لفرنسا أو إيطاليا أو ألمانيا، وحدتها اللغة قبل أن يوحدها الدين أو العرق»، فإنه لا يريد أن يشرح لنا كيف ظهرت هذه اللغات التي كانت منشئة للدول والأمم. ألم تظهر اللغة الإيطالية والفرنسية كتحرر للغة الحياة من قمع اللغة اللاتينية، وكثورة على لغة النخبة والسلطة والاستبداد التي كانت تمثلها هذه اللغة اللاتينية؟ ألم يكن استقلال اللغات الشعبية عن اللغة اللاتينية، التي كانت لغة الدين والسلطة المستبدة، أحد أسباب وشروط النهضة الأوروبية؟

هنا يصح الكلام عن لغة التحرر والثورة، لأنه كانت هناك بالفعل ثورة على اللغة اللاتينية التي كانت لغة سلطوية ونخبوية لا يستعملها الشعب، تماما كحال اللغة العربية اليوم.

“الريع اللغوي:”

رغم التطور الإيجابي الحاصل في مواقف الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري تجاه الأمازيغية والتعدد اللغوي بصفة عامة، والذي أصبح يعترف به بعد أن كان يعتبره “تلوّثا لغويا” يجب تطهير اللغة العربية منه، إلا أنه لا زال في الحقيقة يدافع عن هذا التطهير من خلال دفاعه المهووس عن العربية وسياسة التعريب الخاسرة والفاشلة، والمفشلة للنظام التعليمي للمغرب، مع يرتبط بذلك من فشل للتنمية وتأهيل للإنسان المغربي.

وعندما يكون هناك إصرار على الدفاع عن مشاريع ثبت أنها خاسرة وفاشلة، فذلك قد يعني أن وراء هذه المشارع، الخاسرة والفاشلة بالنسبة للوطن والمواطنين، مصلحة وربحا للمدافعين عن هذه المشاريع.

ذلك أن الدفاع ـ أو بالأحرى التظاهر بالدفاع ـ عن التعريب وعن اللغة العربية بالمغرب، لا تحركه مجرد مواقف وقناعات إيديولوجية ودينية فحسب، بل هو دفاع عن “ريع لغوي” حقيقي يدرّ على المستفيدين منه ربحا سياسا (لغة السلطة) واقتصاديا (مؤسسات لخدمة العربية والتعريب يتقاضى أصحابها رواتب سمينة) ليس من السهل تركه والتنازل عنه. ولهذا إذا كان المتظاهرون بحب العربية والدفاع عنها يتهمون المدافعين عن الدارجة والأمازيغية بأنهم يعادون العربية ويحاربونها، فذلك لأن هؤلاء المدافعين عن الدارجة والأمازيغية، إنما يحاربون في الحقيقة “الريع اللغوي”، الذي هو مصدر رزق سياسي واقتصادي لهؤلاء المهووسين بالتعريب والعربية، رغم فقدان هذه الأخيرة لأهم وظيفة في اللغة كما سبق شرح ذلك. وهذا “الريع اللغوي” هو ما يفسر (Acharnement thérapeutique) الذي تحدثت عنه، والذي تخضع له اللغة العربية بالمغرب. فهو إصرار على إبقاء العربية حية بطريقة اصطناعية حتى تستمر الاستفادة من “الريع اللغوي” لهذه اللغة. ولم يفت الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري أن ينوّه ضمنيا ببعض مؤسسات هذا “الريع اللغوي” حيث كتب يقول: «ويسهر المجلس الوطني للغات والثقافات على العمل على التوازنات بين التنوعات اللغوية والثقافية المغربية، بعد أن تفعّل أكاديمية اللغة العربية من أجل النهوض باللغة العربية وتطويرها وتيسير تعلمها».

إن محاربة الفساد، التي كثر الحديث عنها مع الحكومة الجديدة، يجب أن تكون عامة تشمل كل أنواع الريع بما فيها “الريع اللغوي”، مع إقامة عدالة لغوية حقيقية تحترم لغات الشعب وتعاملها بمساواة وتوليها نفس العناية والاهتمام.

شواهد طبية بالأمازيغية؟:

على ذكر العدالة اللغوية، نتوقف عند القرار الأخرق لوزير العلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني السيد الحبيب الشوباني، الذي فرض فيه على الموظفين التابعين لقطاعه الإدلاء، في حالة مرضهم، بشواهد طبية مكتوبة بالعربية أو الأمازيغية، مع رفض الشواهد المحررة بغير هاتين اللغتين، تفعيلا للفصل الخامس من الدستور الذي ينص على رسمية العربية والأمازيغية.

إن الذين ينظرون إلى ظاهر الأشياء وقشورها، رحبوا بالقرار وصفقوا له لأنه ينصف الأمازيغية ويفعّل تريسمها. لكن هل توجد لغة في الدنيا، وحتى من اللغات العالمية مثل الإنجليزية والصينية والإسبانية، يمكن أن يحرر بها طبيب شهادة طبية إن لم يكن قد سبق له أن تعلمها في المدرسة لعدد من السنوات؟ فاللغة الحية يمكن تعلمها في البيت أو الشارع. لكن لا يمكن تعلم كتابتها دون مدرسة أو ما يقوم مقامها. فمن هو هذا الطبيب الذي درس الأمازيغية وتعلم كتابتها في المدرسة، كما فعل مع العربية والفرنسية، حتى يُطالب بتحرير شهادة بهذه اللغة؟

مذكرة السيد الوزير، لا تنصف في الحقيقة اللغة الأمازيغية بقدر ما تستخف منها وتهينها وتظلمها. تظلمها لأنها ستبرزها كلغة عاجزة عن الاستعمال في الكتابة وتحرير الشواهد الطبية، ليبقى هناك إمكان واحد وحيد هو تحرير هذه الشواهد بالعربية فقط وليس بالعربية أو الأمازيغية، وهو ما يكون فيه إقصاء للأمازيغية، لكن بطريقة ماكرة و”ديموقراطية”.
فإذا أراد السيد الوزير إنصاف الأمازيغية وتفعيل ترسيمها صدقا وحقا، فليس الواجب عليه المطالبة بشواهد طبية محررة بالأمازيغية، بل مطالبة حكومته بتعميم تدريس الأمازيغية، وبشكل جدي وحقيقي وصادق، حتى يصبح الأطباء قادرين في المستقبل على تحرير الشواهد الطبية بالأمازيغية التي يكونون قد تعلموا كتابتها بقواعدها الإملائية والنحوية في المدرسة، كما يجري العمل مع كل لغات العالم.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments