التعريب نجح أولا بالفرنسية قبل العربية


عندما تعلن الحركة الأمازيغية عن رفضها لسياسة التعريب المقيتة، يردّ التعريبيون، قصد التحريض على هذه الحركة، بأن هذا الرفض هو رفض للغة القرآن والإسلام، موهمين ـ ومضللين ـ أن الهدف من التعريب هو نشر واستعمال العربية. إذن لماذا لم يبق المغاربة أمازيغيين في هويتهم مع استعمال العربية لغة كتابية لهم؟ بل لماذا تحوّل المغاربة الأميون إلى “عرب” مع أنهم لا يعرفون اللغة العربية؟

يبيّن هذان السؤلان أن العربية تستعمل فقط كـ”ملاذ” (Alibi) لتبرير الأهداف الحقيقية للتعريب، والتي هي تحويل الجنس الأمازيغي إلى جنس عربي (بالمعنى الأصلي لكلمة جنس التي تعني القوم)، وطمس الهوية الأمازيغية للمغرب وإحلال محلها الهوية العربية المنتَحلة. والدليل أن هذا هو الهدف الحقيقي والعملي من سياسة التعريب، والذي لا علاقة له بتنمية وخدمة العربية، هو أنه يمكن تحقيق هذا الهدف التعريبي في غياب تام للغة العربية. وهذا ما حصل فعلا:

ـ أولا، تحقق هذا التعريب، وبلا لغة عربية، لمّا أنجزت فرنسا مرحلته السياسية بدءا من 1912، عندما أضفت على دولتها المحمية بالمغرب طابعا عربيا، وبدأت تتعامل مع المغرب كبلد عربي ذي انتماء عربي. وواضح أن هذا التعريب، بمضمونه السياسي الذي يخصّ تعريب الدولة وسلطتها السياسية وليس تعريب الشعب ولا لغة الشعب، طُبّق باللغة الفرنسية لأن المسؤول عنه كان هو الحماية الفرنسية التي كانت تصدر كل قراراتها، التي تصبّ في التعريب السياسي للدولة، بلغتها الفرنسية.

النتيجة أن المغرب أصبح دولة عربية وبسلطة عربية دون أن يكون للغة العربية أي دور في هذا التعريب، السياسي، الذي نُفّذ باستعمال اللغة الفرنسية.

ـ ثانيا، لم يسبق للأمازيغية أن عرفت إقصاء شاملا وكليا كالذي عاشته منذ الاستقلال (1956) حتى تسعينيات القرن الماضي. مع أن اللغة الفرنسية هي التي كانت مهيمنة بالمغرب كلغة لتدريس المواد العلمية، وحتى الأدبية، وبجميع الأسلاك، قبل أن تحل محلها العربية تدريجيا مع أواخر الثمانينيات.

النتيجة، كذلك، أن إقصاء الأمازيغية، المرتبط بالتعريب، عرف أوجه في عزّ الفرنسية، ودون أن يكون للغة العربية دور في ذلك، لأنها لم تكن هي لغة التدريس.

ـ ثالثا، معظم المعادين للأمازيغية من رجال “الحركة الوطنية” كانوا يجيدون الفرنسية ومتمكّنين منها، وبها تلقى جلهم تكوينهم في المدارس والجامعات الفرنسية. وهو ما ينتج عنه، كذلك، أن العداء للأمازيغية، نتيجة للإيديولوجية التعريبية، مرتبط باللغة الفرنسية وليس باللغة العربية.

ـ رابعا، لم يُشرع في الرفع الجزئي للإقصاء عن الأمازيغية، الذي تؤدي إليه سياسية التعريب، إلا مع الألفية الثالثة، أي بعد التعريب الكلي للتعليم في مستوييه الابتدائي والثانوي، وانتقال الفرنسية من لغة للتدريس إلى لغة تُدرّس.

ماذا تبيّن هذه المعطيات؟ تبيّن أن التعريب، كسياسة عرقية وعنصرية استيعابية مقيتة، إجرامية وجاهلية لأنها مخالفة لتعاليم الإسلام الذي لا يدعو إطلاقا إلى تعريب الشعوب غير العربية، والذي (التعريب) يرمي إلى تحويل الجنس الأمازيغي إلى جنس عربي، وطمس الهوية الأمازيغية الجماعية للمغرب وللشعب المغربي وللدولة المغربية، واستبدالها بهوية عروبية منتحلة ومفروضة، هو إيديولوجية قائمة بذاتها ومستقلة عن اللغة التي قد تعتمد عليها هذه الإيديولوجية، حسب الحاجة والسياق، لإنجاح وتبرير التعريب، كما رأينا ذلك في اعتمادها أصلا على الفرنسية في الجزء السياسي والأساسي من تعريب الدولة المغربية، ثم مواصلة دولة الاستقلال تعريب المغرب بنفس اللغة الفرنسية قبل أن تلجأ، في الربع الأخير من القرن العشرين، إلى اعتماد العربية لنفس الغرض، الذي هو تعريب المغرب والمغاربة.

ما أريد تبيانه بهذه المناقشة هو أن الحركة الأمازيغية، عندما ترفض التعريب وتستنكره، فهي لا تعادي العربية كلغة، وإنما تعادي إيديولوجية التعريب العرقية والعنصرية والجاهلية الشِّرْكية، كما قلت، التي تستعمل العربية كوسيلة فقط ـ وليس كغاية ـ لتبرير وتسويغ هذا المخطط التعريبي العنصري والجاهلي والِّشِّرْكي. إلا أن التعريبيين، وبهدف التأليب ضد الحركة الأمازيغية، يروّجون أن هذه الحركة ترفض العربية وتعاديها. لهذا نحن نواجههم بالتحدي التالي: إذا كانت العربية هي التي تهمّكم، وليس محاربة الهوية الأمازيغية للمغرب وللشعب المغربي، فلنضع يدا في يد من أجل الدفاع عن اللغة العربية، والدفاع في نفس الوقت عن الهوية الأمازيغية للمغرب وللدولة المغربية، التي تستمدها من موطنها بشمال إفريقيا. وإذا كنتم لا تحبّون عبارة “الهوية الأمازيغية”، فسنكتفي بعبارة “الهوية الشمال إفريقية” للمغرب وللدولة المغربية، أو اختاروا أنتم أية عبارة أخرى تدل على الانتماء الشمال الإفريقي للمغرب وللدولة المغربية.

أنتم لا تكفّون عن تذكيرنا بـ”المشترك الجمعي” للمغاربة. فما هو هذا “المشترك الجمعي” ياترى؟ أو ما هو الشيء الذي يشترك فيه المغاربة جميعا، ودائما وعبر كل العصور؟ أليس هو هذه الأرض الشمال إفريقية التي تمنحهم خصوصيتهم وتميزهم، أي هويتهم الجماعية المشتركة؟ فالمغاربة قد يختلفون في أعراقهم، ولهجاتهم، وحتى أديانهم، لكنهم يشتركون جميعا في الانتماء إلى هذه الأرض، وبالتالي يشتركون جميعا في الانتماء إلى نفس الهوية الجماعية التي هي نفس هوية هذه الأرض.

إذن، إذا كان هدفكم هو اللغة العربية، فلماذا لا تدافعون عن دولة بهوية شمال إفريقية، وهي الهوية الجماعية للمغرب والمغاربة بغض النظر عن أصولهم العرقية، تكون لغتها هي العربية والأمازيغية، كما ينص الدستور؟

أتخوف أن تفضّلوا العروبة العرقية، التي يبدو أنها غاية الغايات لديكم، أنتم التعريبيين، على اللغة العربية عندما يتعلق الأمر بالهوية الشمال إفريقية للمغرب، بدل الهوية العروبية التي صنعتها فرنسا لهذا الوطن منذ 1912. وارتباطا بهذه الهوية العرقية ذات الأصل الفرنسي، يكون التعريب، بمضمونه السياسي والعرقي والهوياتي والإيديولوجي، كما بدأته فرنسا في 1912، هو سياسة فرنسية وفرنكوفونية أصلا. ولهذا ليس صدفة إن كان جلّ المثقفين المعادين للأمازيغية هم ذوو تكوين فرنسي. إذن ما دمتم تدّعون أنكم تحاربون الفرنسية من أجل رد الاعتبار للعربية، فلتبدؤوا من الأصل قبل الفرع، أي ابدؤوا بمحاربة العروبة العرقية التي جعلت منها فرنسا هوية للدولة. وبذلك ستحاربون في نفس الوقت الشِّرْك بالله تعالى، والذي تمارسونه أنتم عندما تعملون على تغيير خلق الله (انظر موضوع: “دعاة التعريب أو المشركون الجدد” ) بما تبذلونه من مجهود ومن مال عامّ لتحويل الجنس الأمازيغي إلى جنس عربي، حالّين محل الله تعالى الذي خلق الأجناس البشرية مختلفة حسب مواطنها، فخص الجنس الأمازيغي بشمال إفريقيا، والجنس العربي بشبه الجزيرة العربية.

مرة أخرى، أكرر لكم: إذا كان هدفكم هو العربية وليس العروبة العرقية، فمن يمنعكم من الدفاع عن هذه العربية في إطار الهوية الشمال إفريقية للمغرب ولدولة المغرب، مع رفض العروبة العرقية التي ليست ضرورية لتنمية ونشر العربية، كما يشهد على ذلك أن دولا عربية حقيقية، مثل دول الخليج، لم تفعل من أجل العربية حتى نصف ما فعله من أجلها المغرب منذ الاستقلال؟


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments