من معركة الحرف إلى معركة الدستور


تخوض الحركة الأمازيغية، منذ ظهورها، سلسلة من المعارك المتواصلة. فما أن تنتصر في إحداها حتى تستعد للتي تليها إلى أن تربح الحرب كلها. وعندما تحارب الأمازيغيةُ وتخوض المعارك، فهي لا تفعل ذلك من أجل احتلال أرض الغير أو غزو البلدان الأخرى، أو التمزيغ اللغوي لأمم أخرى، أو فرض الهوية الأمازيغية على الشعوب الأخرى. وإنما تحارب من أجل البقاء، نعم من أجل البقاء، أي أنها تمارس حق الدفاع الشرعي عن النفس المهددة بالإبادة والاغتيال.

من بين هذه المعارك التي خاضتها الأمازيغية منذ سنتين، معركة الحرف. لقد كانت غالبية الحركة الأمازيغية تدافع عن الحرف اللاتيني لكتابة وتدريس الأمازيغية، كما عبرت عن ذلك في بيان مكناس التاريخي، إلى جانب أقلية كانت تفضل الحرف الأمازيغي (تيفيناغ). أما المخزن فقد حرّك مثقفيه وأحزابه وجمعياته، وأصولييه على الخصوص، للدفاع عن تبني الحرف العربي لكتابة الأمازيغية. لقد انتصرت الأمازيغية في هذه المعركة باستبعاد الحرف العربي وإقرار الحرف الأمازيغي. ولا يهم أن الأغلبية من الحركة الأمازيغية كانت تفضل الحرف اللاتيني، بل المهم أن جميع فعاليات هذه الحركة كانت ضد الحرف العربي.

واليوم تبدأ الأمازيغية معركة جديدة هي معركة الدستور، المعركة من أجل الترسيم الدستوري للغة الأمازيغية. وإذا كانت الحركة الأمازيغية هي صاحبة المبادرة الأولى، في معركة الحرف، بإعلانها لبيان مكناس التاريخي الذي أثار سلسلة من ردود الأفعال لدى الأطراف المخزنية والأصولية، فإن معركة الدستور الجديدة، أخذ المبادرةَ الأولى فيها، كنوع من جس النبض واختبار رد فعل الحركة الأمازيغية، الطرفُ المخزني من خلال تصريحات لمسؤولين بالقصر الملكي أعلنوا فيها أن «مقتضى الوحدة الوطنية يفرض أن تكون لبلدنا لغة رسمية واحدة، وأرى أنها اللغة العربية». هذا دون أن ننسى ما عبرت عنه الأحزاب العروبية والمخزنية والأصولية ـ وهل هناك فرق بين هذه النعوت الثلاثة؟ ـ ومثقفوها في حوارات مع جريدة “الأحداث المغربية” من أن الترسيم الدستوري للأمازيغية غير ممكن. كل هذه قرائن تدل على أن ملف دسترة الأمازيغية يشغل السلطات التي يبدو أنها تحضّر له حلا كالذي عرفته مسألة الحرف. إلا أن هذا الحل، إذا كان مفيدا للأمازيغية في ما يتعلق بالحرف، فإن تطبيقه على مسألة الدسترة سيضر بها (الأمازيغية) كثيرا. لنشرح ذلك بشيء من التفصيل:

في ما يتعلق بالحرف، كانت هناك ثلاثة مواقف: المدافعون عن الحرف اللاتيني، المدافعون عن الحرف الأمازيغي، المدافعون عن الحرف العربي. وبما أن الموقفين الأول والثالث كانا يمثلان طرفي نقيض، فقد شجعت السلطة على تبني الحرف الأمازيغي الذي اعتبرته حلا وسطا قد يرضي الجميع، وهو حل لا شك أنها تكون قد ندمت عليه بعد أن أعطت الوقت الكافي لتأمل مدلول وأبعاد ونتائج إقرار حرف تيفيناغ، هذا الوقت الذي كانت تخصصه، في خضم معركة الحرف، للتفكير فقط في كيفية استبعاد الحرف اللاتيني دون التفكير في الأبعاد الهوياتية للحرف الأمازيغي.

واليوم، في ما يتعلق بمعركة الدستور، هناك كذلك ثلاثة مواقف: موقف الحركة الأمازيغية المطالب بالترسيم الدستوري للغة الأمازيغية، موقف الذين لا يرون مانعا من دسترتها كلغة وطنية فقط، موقف الرافضين لدسترتها. وبما أن الموقفين الأول والثالث يمثلاث أيضا طرفي نقيض، فهناك إغراء يدفع السلطة إلى تمرير الموقف الثاني كحل “وسط”، أي دسترة اللغة الأمازيغية كلغة وطنية وليست رسمية. وسيكون هذا الحل ”الوسط”، إن نجحت السلطة في فرضه، فخا نصب للأمازيغية ومطالب الحركة الأمازيغية. ولكنه فخ مفضوح ومكشوف. لماذا؟

هنا يجدر التمييز أولا بين ما يبدو متماثلا بين مسألة الحرف ومسألة الدسترة: فإذا كانت هناك ثلاثة مواقف، كما رأينا، في كل من المسألتين، فإن الفرق هو أن الموقفين المدافعين عن الحرف اللاتيني والأمازيغي، في ما يتعلق بمسألة الحرف، كليهما موقفان للحركة الأمازيغية، ليبقى الموقف المدافع عن الحرف العربي هو وحده المصنف كموقف لخصوم الأمازيغية من مخزن وأحزاب وإسلامويين. وبالتالي لم يكن هناك في الحقيقة سوى موقفين: موقف الحركة الأمازيغية (الحرف اللاتيني وحرف تيفيناغ)، وموقف العروبيين (الحرف العربي). ولما مالت السلطة إلى حرف تيفيناغ، فقد أيدت في الحقيقة أحد مطالب الحركة الأمازيغية التي كان جزء منها يطالب بتبني الحرف الأمازيغي. أما في مسألة الدسترة، فالموقفان الرافض لدسترة اللغة الأمازيغية والمحبذ لدسترتها كلغة وطنية فقط، كلاهما موقفان ينتميان لجبه واحدة هي جبهة خصوم الأمازيغية من مخزن ومنظمات إسلاموية وعروبية في مقابل إجماع الحركة الأمازيغية على مطلب الترسيم الدستوري للأمازيغية. والنتيجة أن الاعتراف الدستوري بالأمازيغية كلغة وطنية سيكون، عكس ما جرى في مسألة الحرف، استجابة لمطالب المعارضين للأمازيغية ورفضا كليا لمطالب الحركة الأمازيغية. وهذا ما عنيناه بقولنا: إن هذا الحل “الوسط” هو بمثابة فخ للأمازيغية، لكنه فخ مفضوح ومكشوف. وسيكون إعلانا عن تصعيد الصراع بين السلطة والحركة الأمازيغية، تصعيد لا يختلف في طبيعته عن نفس التصعيد في حالة ما لو فرضت السلطة الحرف العربي ضدا على إجماع الحركة الأمازيغية على رفضه.

إذن لا يبقى للسلطة من خيار، إذا كانت صادقة في إنشائها للمعهد بغرض الاعتراف والنهوض بالأمازيغية، إلا إكمال هذا الاعتراف وهذا النهوض بالتنصيص في التعديل الدستوري المقبل على أن اللغة الأمازيغية لغة وطنية ورسمية. أما دسترة الأمازيغية كلغة وطنية فحسب فهو، فضلا عما ينطوي عليه من حسابات وخدعة وسوء نية، تحصيل للحاصل، كما سبق أن كتبنا في مناسبات سابقة، ولا يتضمن أية قيمة زائدة لفائدة الأمازيغية لأنها هي أصلا لغة وطنية، ولا يضيف الدستور شيئا إلى هذه الحقيقة عندما يؤكدها وينص عليها. فلا يختلف الأمر، في هذه الحالة، عن تنصيصه على أن جبال الأطلس المغربية هي جبال مغربية. وهذا تكرار وإطناب وعبث.

أما ما يدفع به الرافضون لترسيمها الدستوري من مبررات مزعومة فهي واهية وخاوية:

ـ فالقول بأنها لا تزال مجرد لهجات متفرقة تتلمس طريقها إلى التوحيد والمعيرة والكتابة قول يعبر عن رغبة إبقاء الأمازيغية داخل حلقة مفرغة لن تخرج منها إلا بتكسير إحدى حلقاتها بترسيمها الدستوري أولا. كيف ذلك؟ فعلى فرض أن الأمازيغية مجرد لهجات متفرقة لا زالت لم ترق بعد إلى مكانة لغة تستحق الترسيم، فالذي يتجاهله أصحاب هذا الاعتراض هو أن الوضع اللهجي للغة الأمازيغية هو نتيجة لعدم الاعتراف الدستوري بها. وبالتالي فإن تأخير ترسيمها إلى حين توحيدها هو تأخير لهذا التوحيد ومنع له، لأن الذي يسرّع هذا التوحيد هو الاعتراف الدستوري بها كلغة رسمية، والذي سيلزم الدولة بالعمل الجدي على الإسراع في تهيئتها وتوحيدها ومعيرتها. لهذا فعندما تطالب الحركة الأمازيغية بترسيم اللغة الأمازيغية، فذلك ليس من باب الكماليات، بل يدخل في إطار الضروريات التي هي شرط أول لحماية الأمازيغية والعناية بها والعمل على توحيدها وتهيئتها.

ـ أما الغمز بأن الأمازيغيين لم يخدموا لغتهم ولم يهيئوها حتى تكون جاهزة للترسيم كما فعل اليهود »عندما كادت العبرية أن تذوي وتكتفي بطقوس العبادة، لكن أبناءها لما بلغوه من مقدرات علمية وكفاءات على عدة مستويات نفخوا في لغتهم تلك الذاوية من روحهم«، فذلك من باب المقارنات الخاطئة والفاسدة، مثل من يلوم الأرنب عن عدم قدرته على الطيران مقارنة بالنسر الذي استطاع، »لما بلغه من مقدرات علمية وكفاءات على عدة مستويات«، أن يحلّق في السماء. مع أن هذا الأخير يملك أجنحة لا يتوفر عليها الأول ولا علاقة لها بكسله أو اجتهاده، ولا بذكائه أو بلادته، ولا بخموله أو نشاطه. نفس الشيء في ما يتعلق بالمقارنة بين وضع العبرية والأمازيغية: فالذي جعل العبرية تصبح لغة موحدة وممعيرة ورسمية لإسرائيل، ليست هي ”المقدرات العلمية لأبنائها“، بل لأنها تتوفر على أجنحة هي كذلك، تتمثل في تملكها للسلطة السياسية التي فرضت توحيدها ومعيرتها ورسميتها ونفخت فيها روح الحياة بعد أن كانت على حافة الانقراض والموت بسبب افتقارها إلى تلك السلطة السياسية. أما الأمازيغية في المغرب، فهي فاقدة للسلطة السياسية، أي مقطوعة الأجنحة، التي لن تَجبُرها ولن تردها لها ”المقدرات العلمية“ لأبنائها مهما كانت كفاءاتهم عالية جدا، لكن قد تجبرها وتردها لها ”مقدراتهم السياسية“ ـ وليس العلمية.

ـ أما القول بأن «مقتضى الوحدة الوطنية يفرض أن تكون لبلدنا لغة رسمية واحدة، وأرى أنها اللغة العربية» فهو منطق “الحركة الوطنية” التي أقصت وحاربت الأمازيغية لما يزيد عن نصف قرن بدعوى تهديد الوحدة الوطنية. مع أنه لا توجد شواهد لا من الماضي ولا من الحاضر تفيد أن تعدد اللغات الرسمية بالبلد الواحد يهدد وحدته وتماسكه. فيكفي أن نستحضر هنا الهند وجنوب إفريقيا ـ بعد مرحلة النظام العنصري ـ وسويسرا وكندا وبلجيكا… إن ما يهدد الوحدة الوطنية، ليس هو إقرار ترسيم لغتين أو أكثر في وطن واحد، بل هو رفض هذا الإقرار للغات وطنية أخرى، الشيء الذي قد يدفع مستعملي هذه اللغات إلى المطالبة بالاستقلال بأنفسهم لترسيم لغتهم التي رفضت السلطة المركزية الاعتراف بها كلغة رسمية. ثم إذا كان لا بد من لغة رسمية واحدة، وليس إثنتين، فلماذا اللغة العربية وليس الأمازيغية، لغة الهوية والانتماء الإفريقي للمغرب؟

في الحقيقة، من يرفض الاعتراف الدستوري بالأمازيغية كلغة رسمية فهو يرفض الأمازيغية بالمرة ويرفض تنميتها والنهوض بها لأنه يعرف أن دسترتها كلغة رسمية هي الضامن والطريق الملكي لهذا التنمية وهذا النهوض. لهذا فالترسيم الدستوري للغة الأمازيغية هو المقياس الحقيقي للنية الحقيقية للسلطة تجاه الأمازيغية. كما أنه مقياس حقيقي كذلك للوزن الحقيقي للحركة الأمازيغية. وهنا يتبادر السؤال التالي: ما هو موقف المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية من مسألة ترسيم اللغة الأمازيغية؟ ماذا يكمن أن يتخذه حاليا من إجراءات ومواقف في اتجاه الدفاع عن ترسيم الأمازيغية؟ ثم ما ذا يمكن أن يتخذه من إجراءات ومواقف مستقبلا في حالة عدم الاستجابة لمطلب ترسيم الأمازيغية؟ إن المنتظر من هذه المؤسسة، خصوصا مجلسها الإداري، هو أن تعلن عن موقف واضح وصريح من هذه المسألة لإفهام السلطة أن إنشاء المعهد ليس بديلا عن ترسيم الأمازيغية ولا عن أي مطلب من المطالب الأمازيغية الأخرى.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments