ما الأنسب لكتابة الأمازيغية: تيفيناغ أم الحرف ألاتيني؟


“أيها الرفاق، لغتنا الجميلة والغنية والمتناغمة ستبين عن قيمتها بفضل حرف كتابتها الجديد. فنحن مجبرين على الخروج من هذا السياج الحديدي الذي يكبل رأسنا مند قرون،….. فتعلموا سريعا أيها المواطنون الحروف الجديدة، وعلموها للقرويين، وللراعي والحمال والبحار ولكل طبقات الوطن…فأمتنا ستؤكد بأن كتابتها وذكائها هما في مستوى نظيراتها في العالم المتحضر”.

بهذه الجمل الشهيرة خاطب مصطفى أتاتورك الشعب التركي ليلة العاشر من شهر غشت 1928وهو يزف له قراره الجرئ بتغيير حرف كتابة اللغة التركية من الحرف الأرامي العربي إلى الحرف الاتيني التركي. فبعد أن تم تشكيل لجنة عهد إليها بدراسة امكانية تغيير الحرف الأرامي العربي لكتابة اللغة التركية بحرف جديد، وبعد دراسة عدة أبجديات كالفرنسية والانجليزية والايطالية والهنغارية، وبعد نشرها لتقريرها الذي لم يتجاوز 41 صفحة، تقرر اعتماد الحرف اللاتيني في صيغة تركية تستجيب للخصائص اللغوية والصواتية التي تميز اللغة التركمانية، فانتقل مصطفى اتاتورك إلى داعية سياسي ووطني يحاور ويقنع البرلمانيين والمثقفين، ويعرض فضائل الخيار اللغوي الجديد الذي سيكون له الوقع الكبير على النهضة اللغوية والسياسية وصحوة الأمة التركية وانضمامها إلى ركب الدول المتقدمة. بل أنه كان لا يتوارى في تنقلاته وتجمعاته عن الامساك بالطباشير ولعب دور المدرس لتقريب الكتابة الجديدة من عموم المواطنين وهو يبشرهم بمستقبل أفضل للغتهم وكيانهم السياسي والحضاري.

بعد بضع سنوات على اتخاذ هذا القرار الشجاع بدأت تظهر نتائجه الهامة في الحياة الاجتماعية والثقافية التركية، حيث تسارعت وثيرة التعليم ومحو الأمية وتطوير الوعي العام الذي كانت له أثار كبيرة على التطور الاقتصادي والسياسي في البلاد، وعلى امتداد حوالي ثمانين سنة من هذه الدينامية نرى اليوم كيف صارت تركيا بلغتها وكتابتها وإنتاجها الثقافي والفني، ونموها الاقتصادي وتجربتها الديمقراطية من الأمم الصاعدة التي صارت تظاهي النموذج الأوروبي والأسيوي، وانتزعت لنفسها وكيانها الوطني مكانة جد محترمة في مصف الدول التي استطاعت في لحظة معينة أن تمسك بقدرها التاريخي وأن تصنع بحزم وجرأة مستقبلها.

النموذج أو المثال الثاني والمقابل الذي يمكن أن يفيدنا أكثر في الحديث عن حرف الكتابة على غرار النموذج التركي هو التجربة الايرانية التي اعتمدت الحرف الأرامي في كتابة اللغة الفارسية. فمن المعلوم أن اعتماد هذا الخيار مند بداياته لم يكن مثار دراسة أو نقاش علمي بل ارتبط أساسا بعوامل تاريخية وسياسية خاصة الجوار الجغرافي بين فارس وشبه الجزيرة العربية، وبالتقارب والتداخل اللغوي الذي حصل قديما بين اللغتين العربية والفارسية حتى أنه هناك من الكتابات اللسنية التي رجحت أن تكون نسبة المفردات المشتركة والمقترضة بين اللغتين تصل إلى 60 في المائة من معجمهما.

ورغم الاعتبار التاريخي والتداخل اللسني فإن سؤال نجاعة اعتماد الحرف العربي في كتابة اللغة الفارسية يبقى من الأسئلة المطروحة في النقاش اللغوي الإيراني، وتعود بداياته إلى مرحلة التقاء ايران بالغرب الأوروبي خلال منتصف القرن التاسع عشر، حيث أن الاكاديميات اللغوية الثلاثة التي تعاقبت في ايران مند 1935 وضعت ضمن أهدافها ومهامها الرئيسة اصلاح نظام الكتابة، وقد تباينت أعمالها بين الاصلاح الداخلي والجزئي والتغيير الشامل لحرف الكتابة، لكن بقيت اقتراحاتها دون تفعيل نظرا لحضور الهاجس السياسي والديني في تدبير الموضوع خاصة مند الثورة الإيرانية وتولي نظام المرشد لزمام الحكم.

وقد عاد هذا النقاش ليحتدم مند تسعينات القرن العشرين وتزعمه بعض المثقفين واللسانيين الإيرانيين من الخارج، ومنهم محمد رضا بعتاني الذي أصدر دراسة حول نواقص اللغة الفارسية، حيث وضح بما يكفي من خلال النظام الصواتي وتشابه الحروف ولبس الكتابة، أن المرفولوجيا الحالية لا تحقق الاستعمال الجيد للغة الفارسية.
ولا شك أن لهذا الوضع اللغوي الذي تعاني منه الفارسية بسبب الصعوبات التي يطرحها الحرف الأرامي في الكتابة وعدم ملائمته المرفولوجية والصواتية، الأثر السلبي على انتشارها وعلى القدرة على حمل وتطوير الثقافة الفارسية رغم عراقتها وتميزها التاريخي والجمالي. كما أن الاطار التقليدي لهذه الكتابة وارتباطها الايديولوجي والذهني باختيارات غير علمية ساهم لا شك في اعاقة تحررها اللغوي والفكري.

مناسبة هذا النقاش، واستحضار التجربتين اللغويتين التركية والإيرانية من حيث الحرف المعتمد في الكتابة، هو ما نتابعه من محاولة بعث نقاش الحرف في الساحة السياسية في بلادنا خلال الأيام الأخيرة، حيث كتب بعض الكتاب وتحدث برلمانيو حزب سياسي عن ضرورة اعتماد الحرف الأرامي العربي في كتابة اللغة الأمازيغية بدل حرف تيفيناغ العريق. وعندما حاولنا إعادة التفكير في موضوع حرف الكتابة وباستحضار الخصائص والإمكانات العلمية والغرافيكية والتقنية بل والثقافية التي يوفرها كل من خيارات الكتابة المتوفرة وهي الحرف الأرامي العربي، وحرف تفيناغ العريق والمجدد، والحرف الاتيني المكيف صواتيا، اتضح لنا فعلا بأن هذا الخيار ينبغي أن يخرج عن دائرة التدبير الايديولوجي والسياسي بمعناه الضيق، ومن سياق التجاذب والصراع الذي طبع مرحلة اعتماده، وذلك بالتفكير جليا وبالجرأة الازمة وانسجاما مع الحاجة الوطنية اليوم إلى اعتماد مداخيل جديدة للتنمية اللغوية والثقافية وبعث الدينامية الضرورية في الوجود المغربي ككيان تاريخي وإنسي وأمة وشعب قائم الذات. وهذا ما يجعلنا نطرح من جديد أهمية اعتماد الحرف الاتيني في كتابة الأمازيغية، وإذا تعذر ذلك فالمؤكد أن الحرف العربي الذي أعاق تطور اللغتين التركية والفارسية ولا زال موضوع نقاش كبير في ايران الإسلامية، لا يناسب الخصائص اللسنية والصواتية للغة الأمازيغية ولا يمكن أن يفيد في تطويرها وإبراز بعدها الهوياتي والثقافي والتاريخي.

ويبقى الحرف العريق تيفيناغ الذي راكم تجربة هامة خلال السنوات الأخيرة من حيث اعداده اللغوي، خاصة تحديد الأبجدية وتبسيط الحروفية وإنتاج الخطوط والشروع في التهيئة الطباعية والغرافيكية، وتسجيله لدى المنظمة الدولية unicod ، ودخوله عالم الأنظمة المعلوماتية والإنترنت، وكمية المؤلفات التي أنجزت به خاصة الكتب المدرسية والكتب الإبداعية والثقافية من دواوين شعرية وروايات ومجموعات قصصية ودراسات فكرية، إضافة إلى أن هذه الحروف والكتابة لقيت انتشارا مهما وتبناها مثقفون وكتاب وقوى المجتمع في دول أخرى كليبيا وتونس والجزائر، كلها عوامل ومقومات تؤكد أن حرف تفيناغ هو الخيار المناسب لكتابة اللغة الأمازيغية وضمان تطورها في المستقبل.

بقي أن نؤكد على أن العديد من الآراء أو الأصوات سواء السياسية أو “البيزانطية” التي تحاول التشكيك في نجاعة هذا الخيار وتتعنت في الاصرار على العودة إلى الوراء بعد أن استفاقت أو ٷقضت من الكهف وهي تحاول الالتحاق متأخرة جدا بالنقاش، وعندما نتصفح مضامينها وحججها وتهافتيتها، يتضح أنها لا تخرج عن نطاق ردود الفعل والجهل بالموضوع أو النزوع الايديولوجي إلى الهيمنة الذي يغذيه الخوف من التغيير.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments