بأية لغة ينبغي أن ندرس العلوم؟
ما هي اللغة التي ينبغي أن نستخدمها في المدرسة والجامعة لتدريس المواد العلمية (ابتداء من التعليم الاعدادي حتى التعليم العالي)؟
للإجابة عن هذا السؤال شقان: شق علمي يتعلق بالاحتياجات الأكاديمية للمتعلم، وشق حقوقي يتعلق بما نعتبره حقا للمتعلم على الدولة والمجتمع. مشكلة بعض السياسيين في بلدنا أنهم يريدون إقصاء البعدين العلمي والحقوقي لسؤال لغة تدريس العلوم لصالح بعد أيديولوجي، وذلك عندما يدعون إلى تعريب العلوم أو فرنستها بسبب تأثرهم بالأيديولوجيات العنصرية المشرقانية التي لا تنسجم مع الدستور المغربي الحالي الذي يتحدث عن لغتين رسميتين (الأمازيغية والعربية) وليس لغة رسمية واحدة، أو أو بسبب تماهيهم مع الأيديولوجيات التغريبية التي لا تزال تستعمل الفرنسية أداة لحفظ الپريستيج الاجتماعي للفئات المستفيدة من وضعية سوسيو اقتصادية تمنح امتيازات خاصة لمتكلمي الفرنسية.
سأبين في هذا المقال أننا، إذا طرحنا هذا السؤال ونحن نفترض بأن غاية التربية والتكوين هي تأهيل المتعلمين لتحصيل العلم وإنتاجه بالمقاييس الدولية للتحصيل والإنتاج، فإن اللغة التي ينبغي اعتمادها في التدريس هي الإنجليزية، وإذا طرحنا هذا السؤال من منطلق حقوقي، فسنفضل نظاما تربويا يقدّم عروضا مختلفة بخصوص تدريس العلوم حتى يعطى الحق للأسرفي تقرير مصير أبنائها أبنائها المهني والسوسيو اقتصادي. لذلك فإن فرض التعريب أو الفرنسة هو نوع من الاستبداد السياسي والهيمنة الأيديولوجية على المجتمع ينبغي تجريمهما.
المقاربة العلمية لسؤال لغة تدريس العلوم
إذا انطلقنا من أن من بين الغايات الأساسية للتربية والتكوين إعداد پروفيل قادر مستقبلا على تحصيل العلم والمساهمة في إنتاجه، فإن لغة تدريس العلوم ينبغي أن تكون هي الانجليزية. وبالتالي، فلا بد من تدريس هذه اللغة من المراحل الأولى للتعليم واستعمالها في تدريس كل المواد العلمية كالرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية.
تنبني مقاربتنا هاته على سبعة أنواع من المبررات الموضوعية نجملها في ما يلي:
1ـ الثلاثمائة مجلة علمية المحكّمة indexed وذات الأثر impacted الأولى في العالم، والتي تنشر البحوث العلمية، فنطلع منها على منتجات العلم المعاصر، مكتوبة باللغة الانجليزية. إذا كان تلاميذنا وطلبتنا لا يقرؤون العلم بالإنجليزية فسيحرمون من الإطلاع على هذة الثلاثمئة مجلة التي لا يمكن الانخراط في الوضعية الراهنة للعلمة إلا بالاطلاع الجيد عليها.
نقول بأن نتائج البحث العلمي خضعت ل”التحكيم” أو ل” تحكيم الأقران” peer-viewed إذا ما راجعتها لجنة من العلماء المعترف بكفاءتهم وتقدمت لأصحابها بمقترحات تعديل قبل الموافقة على نشرها. أما عامل “الأثر” impact فهو عدد المرات التي يستشهد بها بما ورد في مجلة من المجلات على المستوى العالمي. فالإستشهاد بالمتون العلمية (مقالات، أوراق علمية، مداخلات مؤتمرات) هو مؤشر من مؤشرات علمية نتائج البحث العلمي. فمن بين مقاييس الجودة في العلم إخضاع نتائج البحث العلمي لأهل الاختصاص من أجل الحكم على قابيتها للنشر في المجلات والدوريات العلمية “المحكمة” و”ذات الأثر”.
لذلك فإن حرمان تلاميذنا وطلبتنا من دراسة العلوم باللغة الانجليزية هو حرمان لهم من الاطلاع على أهم المنشورات العلمية التي لا يكون الانخراط في ممارسة العلم والمساهمة فيه إنتاجه إلا بمعرفتها والتمكن من مضامينها.
2ـ لا يمكن فهم المقالات والأبحاث المنشورة في هذه المجلات العلمية المحكمة وذات الأثر إلا إذا درس القارئ العلم بالإنجليزية. فقد لاحظ المتخصصون:
أـ أن المتكلمين الأصليين أنفسهم يجدون صعوبة بالغة في قراءة هذة المقالات والأبحاث.
ب ـ أن هذه المقالات والأبحاث تميل لإطالة العبارة وتعقيدها (نظرا للتدقيق الذي تحتاجه العبارة العلمية).
ج ـ أن النشر في المجلات والدوريات العلمية المتخصصة المحكمة وذات الأثر يفرض شيئا غير قليل من التفصيل عادة ما ينعكس على بنية العبارة فيفرض أحيانا معجما مستحدثا، لا يتيسّر إلا للمتكلم الأصلي بالإنجليزية أو من تمرَّس على دراسة العلم بالإنجليزية.
3- لا يتجرأ على استعمال اللغات الوطنية في تدريس العلم إلا الشعوب التي تساهم في إنتاج العلم كالصين واليابان وكوريا الجنوبية. من ذلك مثلا أن اللغات الثلاثة المستعملة في “سكوپوس” هي الانجليزية واليابانية والصينية فقط. و”سكوپوس” هي أكبر قاعدة معطيات في العالم تتضمن نتائج البحث العلمي الخاضعة ل”مراجعة الأقران” peer-viewed في مجالات التكنولوجيا والطب والعلوم الاجتماعية والآداب والعلوم الانسانية كما تنشر في الدوريات العالمية “المُحكّمة” و”ذات الأثر”.
4- من الخمسين دورية علمية التي تصدر في فرنسا والتي تخضع لمقاييس التحكيم والتأثير نجد فقط 14 مجلة مكتوبة بالفرنسية، والباقي بالانجليزية. فيكون استعمال الفرنسية في تحصيل العلم الصحيح قليل النفع. ومن الخمسين دورية علمية تخضع لمقاييس التحكيم والتأثير في الشرق الأوسط نجد 30 مجلة مصرية و17 إماراتية وواحدة تركية، وواحدة إسرائيلية، وواحدة قطرية. وكل هذه المجلات باللغة الانجليزية. فالدول العربية التي تستعمل العربية في تدريس العلوم، لا تستعملها في تحصيل العلم وإنتاجه.
5- من الخمسين دورية علمية التي تصدر في إفريقيا والتي تخضع لمقاييس التحكيم والتأثير 36 دورية تصدر من جنوب إفريقيا، وخمسة تصدر من نيجيريا، وواحدة من كينيا، واثنتان من إثيوپيا، وواحدة من أوغندا، وواحدة من غانا، وواحدة من طنزانيا، وواحدة من السينيغال، وواحدة من المغرب. كلها بالإنجليزية سوى الدورية التي تصدر من السينيغال هي بالفرنسية. وحتى الدورية التي تصدر من المغرب عن جامعة محمد الأول بوجدة لا تنشر إلا باللغة الانجليزية. فهي تضع الشرط التالي شرطا أساسيا أورد ترجمته أسفله:
Manuscripts should be submitted in English by e-mail with a cover letter proposing at least 3 potential referees
تقدم مسودات (الأبحاث المقترحة) عبر الايميل باللغة الانجليزية مع رسالة تغطية تقترح فيها أسماء ثلاث حكام.
6- من الخمسين دورية علمية تخضع لمعايير التحكيم والتأثير في آسيا 11 دورية تصدر من اليابان، و15 من الصين، و10 من كوريا الجنوبية. وكل الدوريات الخمسين باللغة الانجليزية.
7- النشاط العلمي الدولي الوحيد الذي عُقِد سنوات 2015ـ2017 بمنطقة الشرق الأوسط كاملا في مجال الكيمياء البيولوجية وعلم الجينات والبيولوجيا الجزيئية والذي يخضع لمقاييس التحكيم والتأثير هو ورشة نظمت في في تركيا موضوعها “تطبيق فيزياء الصخور على تقييم الآفاق وتوصيف الاحتياطات الطبيعية”، حيث كانت المداخلات باللغة الانجليزية. والنشاط العلمي الوحيد الذي نظم في الشرق الأوسط حول علوم الطيران والذي يخضع لمقاييس التحكيم والتأثير هو مؤتمر نظم في اسرائيل في سنتي 2016 و2017، كان هو أيضا ناطقا بالإنجليزية. والمؤتمر الوحيد الذي عقد في منطقة الشرق الأوسط حول علوم الپترول والمعادن والذي يخضع لمقاييس التحكيم والتأثير هو الملتقى العلمي الذي يعقد سنويا بجامعة الملك فهد لغة العرض العلمي فيه هي الانجليزية.
أما بالنسبة لمن لا يزال يعتقد أن اللغة الفرنسية ضرورية لنا لأنها تساعدنا على الارتباط بالدول الافريقية، فيكفي أن نذكر أن الدول الافريقية لم ينظم فيها أي مؤتمر في هذه التخصصات العلمية الضرورية للتنمية الاقتصادية.
8ـ لا يمكن أن يعتمد تلاميذنا وطلابنا في دراسة العلوم والتمكن منها على الترجمات، وذلك لسببين اثنين. أولهما أن الترجمة قد تكون دقيقة وشفافة وقد لا تكون، مما قد يشوش على المضامين الأصلية لنتائج البحث العلمي. وثانيهما أن اختيار المترجمين لترجمة نصوص دون غيرها متوقف على ميولات المترجمين وحدود ذكائهم. فلا يمكن رهن مستقبل تحصيل العلم وإنتاجه بميولات المترجمين وحدود ذكائهم.
خلاصات حقوقية
لذلك فإن الدعوة إلى تعريب تدريس العلوم أوفرنستها أو تمزيغها هو حكم على أجيال المتعلمين بالحرمان من تحصيل العلم في أصوله واحتكار لهذا الامتياز من طرف المحظوظين الذين سمحت لهم الامكانيات المادية لأسرهم أن يتلقووا تعليمهم في البلدان المتقدمة حيث تستعمل اللغة الانجليزية في تدريس العلم.
بهذا المعنى، فإن دُعاة تعريب تدريس العلوم أو فرنستها أو تمزيغها خاطئون بقدر ما لا يفهمون نتائج دعوتهم، ومجرمون في حق أبنائنا بقدر ما يعرفونها.
إذا هناك من لا يزال يشك في ضرورة تدريس العلوم بالانجليزية، فعلينا على الأقل أن نناضل من أجل دمقرطة اختيار لغة العلوم في المدرسة .. ينبغي أن يعطى الحق للأسرة أن تختار لغة دراسة أبنائها للعلوم .. فهذا وحده سيدفع المرء إلى تحكيم عقله وضميره في اختيار لغة العلوم التي يريد أن يدرس بها أبناءه، عالماً أنه حر في اختياره وليس حرّا في نتائج اختياره.
فاعل أمازيغي ورئيس شعبة الدراسات الإنجليزية بجامعة القاضي عياض ودكتور في اللسانيات