.. وقيل إنه تراجع عن أفكاره في نهاية حياته !


لا ندري من اصطنع العبارة أعلاه قبل قرون طويلة، لكن ما نعرفه هو أنها استُعملت بدهاء ضدّ كثير من الفلاسفة والأدباء في الماضي، وكذا المفكرين التنويريين والمناضلين الحداثيين في عصرنا بعد وفاتهم، وذلك لمحو أفكارهم من أذهان العامة والناس من ذوي الثقافة المحدودة، أو الذين لا يقرؤون على وجه الخصوص.
مناسبة هذا الكلام ما نطق به أحد غلاة السلفية المغاربة، حول رحيل الإعلامي والمناضل خالد الجامعي، حيث زعم أنه كان شخصا “ملحدا” لكنه تراجع عن “إلحاده” في نهاية حياته، ولسنا ندري إن كان المقصود بـ”نهاية حياته” الدقيقة الأخيرة من عمر الفقيد، أم شهورا وسنوات قبل ذلك، كما لا ندري إن كان السلفي المذكور جالسا بجانب سرير الراحل عند احتضاره، وسمع منه على انفراد ما يفيد أنه تراجع عما نسبه إليه معسكرُ التطرف الوهابي الذي يعتبر الكذب “جهادا” لإعلاء كلمة الله.
لا يتعلق الأمر هنا بخطأ نابع من تهوّر شخصي، بل هي عادة مُتبعة لدى أهل التقليد منذ قرون، حيث ينسبون لخصومهم العقلانيين أقوالا ومواقف بعد موتهم لم يسبق أن قالوا بها، وذلك لطمأنة أتباعهم.
نتذكر في هذا الباب أيضا ما زعمه قيادي من “الإخوان” المغاربة ، والذي عُرف عنه كثرة الكلام، وصنعة اختراع الأكاذيب الملفقة، عندما تحدث عن روائي مغربي (ما زال حيا هذه المرة) بأنه كان سكيرا عربيدا وملحدا لكن في إحدى رواياته اهتدى إلى الحق وعاد إلى الصواب (كذا !)، ما جعل أتباع “الإخوان” يقبلون بغريزة القطيع على الرواية المذكورة باحثين فيها عن دلائل التوبة والإيمان والندم الشديد، وعما يمنحهم بعض الثقة في قناعتهم التي أصبحت تهتز في عصرنا لأسباب كثيرة.
تحليل هذه السيكولوجيا المضطربة يبين عن ثلاثة أمور:
ـ إن الميل إلى جعل شخص ما يقول عكس ما دعا إليه طوال حياته هو تعبير عن هزيمة التيار الديني في مواجهة الأفكار والإقناع بعكسها. ويمثل غياب الشخص عن مسرح الحياة فرصة لهذا التيار لكي يحُل محلّ الشخص المعني ويتحدث باسمه، ويُروج لدى العامة من أتباعه ما يتماشى مع قناعات الإسلام السياسي.
ـ أن هذا السلوك الجبان وغير الأخلاقي يُظهر قوة الأفكار التي عبّر عنها الشخص المستهدف بالدعاية، كما يُظهر قيمته الاعتبارية ومصداقيته في أعين الناس، فمع استحالة تحطيمه والنيل منه في حياته، يُصبح بالإمكان كسبُه “حليفا زائفا” بعد وفاته، أو أحيانا حتى خلال حياته نفسها.
ـ يخفي هذا النزوع نحو التزوير جهلا تاما ببنية النسق الفكري ومرتكزاته ومنطقه الداخلي وغاياته أيضا، ما يجعل العقل السلفي ـ إن جاز أن يُسمى عقلا ـ يحاول محو ذلك النسق بالمرة وإعادة تشكيله من جديد حسب المزاج ومن أجل التوظيف الإيديولوجي.
إن قيمة خالد الجامعي ليست في إيمانه الديني أو عدمه، بل في مواقفه النبيلة وأفكاره النقدية البناءة التي تمسك بها إلى آخر لحظة من حياته، حيث دعا إلى بناء دولة القانون وفصل السلطات، والمساواة التامة بين الرجال والنساء، وعدم احتكار الثروة والنفوذ، وربط المسؤولية بالمحاسبة الفعلية، وإنصاف كل المكونات الثقافية واللغوية للبلاد، واحترام الحريات الفردية والجماعية ووضع حدّ لغلو السلطة في قهر الآراء الحّرة والتضييق عليها. هذا هو خالد الجامعي كما عرفناه لعقود طويلة، فما يبقى من المرء بعد رحيله عن هذا العالم هو عمله الصالح وأفكاره المنتجة لصالح بلده ولصالح الإنسانية، أما معتقده وطقوسه التعبدية فهي شأن شخصي لا دخل لأحد فيه، كما لا يزيد ولا ينقص من قيمته شيئا على الإطلاق.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments