بودهان: من هو العربي ومن هو الأمازيغي بالمغرب؟


الشائع والمسلّم به كبديهية، أن الشعب المغربي يتكون من أمازيغيين ذوي هوية أمازيغية، وعرب ذوي هوية عربية. وهو ما يعني، كما هو شائع ومسلّم به أيضا، أن المغرب يتشكل من هويتين اثنتين: هوية أمازيغية وهوية عربية. وهذا ما يطرح السؤال التالي: من هو أمازيغي الهوية ومن هو عربي الهوية بالمغرب؟ أي ما هو معيار التمييز بين الأمازيغي والعربي إذا كان المغرب يتكون حقا من أمازيغيين وعرب؟

1ـ الجواب الشائع والمسلّم به كذلك، أن الأمازيغي هو من يتحدث ويستعمل اللغة الأمازيغية، والعربي هو من يتحدث ويستعمل اللغة العربية.

لكن ماذا ستكون هوية (أمازيغية أم عربية؟) ذلك الذي يتحدث ويستعمل الأمازيغية كلغته الأولى، لكنه ينحدر من والدين “عربيين” لا يتحدثان ولا يستعملان سوى “العربية” مع جهلهما التام للأمازيغية، كحالة تلك الأسرة التي عرضتها القناة الأمازيغية (2011)، والمتكونة من أب وأم من مدينة مكناس عيّنا معلمين بالناظور حيث قضيا أزيد من ثلاثين سنة، ومن أولادهما (أبناء وبنات) الذين ازدادوا جميعهم بالناظور ويتحدثون كلهم الأمازيغية كلغتهم اليومية الأولى؟

واضح إذن أن هؤلاء الأولاد، وبناء على المعيار “اللغوي” الشائع للتمييز بين الأمازيغي والعربي، هم أمازيغيون لا أقل ولا أكثر. أما أمهم وأبوهم فهما “عربيان”. وهذا يعني أن الهوية غير قارة ولا ثابتة، بل تتغير تبعا للغة التي يتحدثها المواطن في هذه المنطقة أو تلك داخل نفس الوطن، الذي هو المغرب في هذه الحالة التي تعنينا هنا. مما يجعل أن الأسرة الواحدة يمكن أن يكون أعضاؤها ذوي انتماءات هوياتية مختلفة ومتباينة حسب المناطق التي يستقر بها هذا الفرد أو ذاك ـ من أعضاء نفس الأسرة ـ بسبب الزواج أو العمل أو الهجرة، حيث قد يتعلم ويستعمل لغة السكان الخاصة بتلك المنطقة وتصبح لغتَه الأولى في التواصل اليومي لا فرق بينه وبين السكان “الأصليين” بتلك الجهة. وهنا نكون أمام حالة “لا هوية” و”لا انتماء” بسبب التعدد الذي قد يكون بلا نهاية في الهوية، وتغيرها وانتقالها من وضع هوياتي إلى آخر. وهذا ما يسميه المناطقة القدامى بـ”الخُلْف” (أمر لا معقول) الذي يُستشهد به على عدم صحة قضية من القضايا بسبب ما تؤدي إليه نتائجها من “خُلْف” لا يقبله العقل كاستدلال ذي استنتاجين أحدهما يلغي الآخر Aporie.
وإذا كان هذا المثال، بنتائجه “الخُلْفية” التي تلغي مفهوم الهوية بدل تحديده وتعريفه، يتعلق بالحالة التي يتحول فيها أبناء مغربي “عربي” إلى مغاربة أمازيغيين، فإن الحالة العكسية، أي التي يتحول فيها مغاربة أمازيغيون إلى مغاربة “عرب”، هي الأكثر شيوعا وانتشارا مع الهجرة القروية وسياسة التعريب. وإذا كانت نتائج الحالة الأولى “خُلْفية” لا تستقيم مع مفهوم الهوية، فإن نتائج الحالة الثانية هي بالضرورة “خُلْفية” كذلك لتنافيها مع مفهوم الهوية. وهو ما يعني، كخلاصة، أن كل من يتحدث “العربية” ليس بالضرورة عربيا في هويته، وإنما قد يكون أمازيغيا، كما أن كل من يتحدث الأمازيغية ليس بالضرورة أمازيغيا في هويته، وإنما قد يكون “عربيا”.

بل يمكن أن نذهب بهذا المنطق “اللغوي” حتى نهايته “الخُلْفية” فنقول بأن المغاربة المتحدثين بالفرنسية بالمغرب كلغتهم الأولى (وهم موجودون وفيهم أسر بكاملها لا يستعمل أفرادها سوى الفرنسية)، هم فرنسيون في هويتهم. وهذه إحدى مفارقات المعيار “اللغوي” في تحديد الهوية.

أضف إلى هذه المفارقات أن “العربي” بالمغرب، إذا كان هو كل من يتحدث ويستعمل “العربية” كلغته الأولى، فسوف لن يكون هناك أي “عربي” بهذا البلد ـ ولا في أي مكان من الدنيا ـ لأنه لا أحد من المغاربة يتحدث اللغة العربية الحقيقية (الفصحى) كلغته الأولى التي يستعملها في تواصله اليومي، بل فقط الدارجة المغربية، والتي هي لغة أخرى قائمة بذاتها ولا تربطها باللغة العربية إلا علاقة معجمية، عكس ما هو شائع ومسلّم به كبديهية كذلك (انظر موضوع: “هل الدارجة المغربية أداة للتعريب أم وسيلة للتمزيغ؟” ضمن كتاب “في الهوية الأمازيغية للمغرب”).

النتيجة أنه لا يمكن إذن اعتماد المعيار “اللغوي” للتمييز بين من هو العربي ومن هو الأمازيغي بالمغرب بسبب ما يتضمنه من “خُلْف” ومفارقات.

2 ـ هناك اعتقاد شائع كذلك يقول بأن الأمازيغي هو الذي ينحدر من السكان “الأصليين” للمغرب. أما العربي فهو الذي ينحدر من نسب “عربي” ترجع أصوله إلى أجداده بشبه الجزيرة العربية.

المشكل الذي يطرحه هذا المعيار العرقي هو التالي: من يستطيع أن يثبت، سواء من الأمازيغيين أو العرب، انتماءه العرقي إلى السكان الأصليين أو العرب الوافدين، وبشكل قطعي ويقيني؟ فاختلاف الأنساب واختلاطها بسبب الهجرة والمصاهرة والغزو والاستيطان، لا يسمحان بالحفاظ على نقاء عرقي لأكثر من ثلاثة أجيال أو أربعة، فبالأحرى ادعاء نقاء عرقي لعشرات الأجيال، وهو أمر لا يمكن تصوره إلا بالنسبة لأناس ينجبون ويتوالدون دون علاقات جنسية ولا روابط زواج أو مصاهرة مثل تلك النباتات الخنثوية Hermaphrodite التي تتوفر على العناصر الذكورية والأنثوية في نفس الوقت. وهو شيء مستحيل ولا يمكن أن يوجد طبعا بالنسبة للبشر. وهذا ما وعاه جيدا ابن خلدون عندما كتب يقول في “المقدمة”: «فالنسب أمر وهمي لا حقيقة له».

فإذا كان هناك اليوم بالمغرب انتشار “لأشجار نسب” عربية تجعل من أصحابها “عربا”، فلا يعني ذلك أن هؤلاء هم “عرب” حقيقيون في أصلهم العرقي البيولوجي، لاستحالة الحفاظ على النقاء العرقي والتحقق منه لأجيال كثيرة كما سبقت الإشارة. وإنما يرجع هذا التهافت على “النسب العربي” إلى هيمنة إيديولوجية عرقية تجعل من هذا “النسب العربي” مصدرا وشرطا لامتيازات سياسية واجتماعية ودينية. وهو ما يفسر أن الكثير من المغاربة، الذين قد يكونون أمازيغيين في أصولهم العرقية، ينتحلون أنسابا عرقية عربية.

النتيجة أنه لا يمكن كذلك اعتماد المعيار العرقي للتمييز بين من هو الأمازيغي ومن هو العربي بالمغرب، لما يشوبه من اعتباطية وانتحال وتزييف.

ويبقى السؤال مطروحا: من هو الأمازيغي ومن هو “العربي” بالمغرب؟

ما دام أن التصورات اللغوية (عندما يتعلق الأمر باللغة التي يستعملها هذا الفرد أو ذاك، وليس باللغة التي هي خاصة بمنطقة أو أرض معينة تنفرد بها وحدها) والعرقية الرائجة حول الهوية بالمغرب لم تسعفنا في تحديد من هو الأمازيغي ومن هو العربي، فلنلق نظرة على بلدان أخرى تتكون انتماءات سكانها هي كذلك، على غرار الاعتقاد السائد بالمغرب، من عنصرين يشكلان هويتين متمايزتين ومستقلتين. فما هي المعايير التي يتحدد على أساسها الانتماء إلى هذا العنصر الهوياتي أو ذاك من العنصرين المشكلين لهوية البلد المعني؟

ففي العراق مثلا (بعد عهد صدام حسين)، حيث يوجد عراقيون عرب وعراقيون أكراد، يطرح نفس السؤال: من هو العربي ومن هو الكردي؟ الجواب أن الكردي بالعراق ليس هو من يحمل دما كرديا ولا حتى من يتحدث اللغة الكردية كفرد، بل الكردي هو ذلك الذي ينتمي إلى الأرض الكردية بشمال العراق التي عاش فيها وانتمى إليها كذلك أجداده، والتي هي معروفة تاريخيا وجغرافيا أنها موطن خاص بالأكراد. والعربي يعرف كذلك بالعراق أنه المواطن العراقي الذي ينتمي إلى مناطق الجنوب التي عاش فيها وانتمى إليها اجداده أيضا. بعد هذا التمييز “الترابي” بين الكردي والعربي بالعراق، تأتي اللغة كعنصر تابع للأرض: اللغة الكردية خاصة بالأرض الكردية، واللغة العربية (أو ما يعتبر لغة عربية) خاصة بالأرض العربية. أما العنصر العرقي فهو غائب ومستبعد بتاتا من التمييز بين الكردي والعربي.

وفي بلجيكا يوجد كذلك بلجيكيون فلامانوين (لغتهم الهولندية) وبلجيكيون فالونيون (لغتهم الفرنسية). ومن هو الفلاماني ومن هو الفالوني ببلجيكا؟ الفلاماني هو المنتمي إلى الأرض الفلامانية بشمال بلجيكا، التي عاش فيها وانتمى إليها أجداده كذلك، والتي تعرق باستعمال اللغة الفلامانية (الهولندية) كلغة أولى في تلك المنطقة. والفالوني هو المنتمي إلى الأرض الفالونية بالجنوب، والتي عاش فيها وانتمى إليها أجداده كذلك، والتي تعرف باستعمال اللغة الفرنسية كلغة أولى في تلك المنطقة.

ففي هذين المثالين يتم التمييز بين الكردي والعربي، والفلاماني والفالوني، ليس بناء على الأصل العرقي، ولا اللغة التي يستعملها هذا الفرد أو ذاك، وإنما بناء على الانتماء الترابي أولا إلى الأرض العربية أو الكردية بالعراق، والأرض الفلامانية أو الفالونية ببلجيكا، ثم الانتماء اللغوي التابع ـ ليس للأفراد ـ لنفس الانتماء الترابي.

أعطينا هذين المثالين المتعلقين بالحالة التي يتشكل فيها انتماء البلد والدولة من عنصرين هوياتين اثنين، لأنها الحالة التي تنطبق على المغرب للاعتقاد الخاطئ أنه هو كذلك يتشكل هوياتيا من عرب وأمازيغ، دون ذكر الحالة التي تتجاوز فيها العناصر الهوياتية للبلد الواحد والدولة الواحدة اثنين، كما في سويسرا وإسبانيا مثلا.

ما نستخلصه إذن من هذه الأمثلة التي ذكرناها هو أن أساس الهوية في هذه البلدان، التي يتشكل انتماؤها من أكثر من هوية واحدة، هو الأرض واللغة التابعة لهذه الأرض (وليس اللغة التي يستعملها هذا الفرد أو ذاك، كما سبقت الإشارة)، وليس العرق. وباستقرائنا لهويات كل البلدان والدول، سواء كانت ذات هوية واحدة أو ذات هويات متعددة، سنخلص، كقاعدة عامة كما يقضي بذلك المنهج الاستقرائي، أن الهوية يحددها الموطن، أي الانتماء الترابي لهذه الأرض أو تلك، واللغة التابعة لهذا الموطن كلغة خاصة به. وعليه، فإننا نكون أمام هويتين أو أكثر داخل نفس البلد والدولة، عندما تكون هناك انتماءات ترابية متمايزة تفصل بينها حدود برية ولسنية معروفة، كما في العراق وبلجيكا وإسبانيا وسويسرا. وبناء على هذه القاعدة الترابية، يجب، حتى يجوز الحديث عن الهوية العربية والهوية الأمازيغية للمغرب، أن تكون هناك منطقة عربية وأخرى أمازيغية تفصل بينهما حدود ترابية (عنصر الأرض المحدد دائما للهوية) ولسنية (العنصر الثاني المحدد للهوية والتابع للعنصر الأول) كنتيجة للحدود الأولى.

والسؤال: أين هي الحدود الترابية الفاصلة بالمغرب، كما في العراق وبلجيكا وسويسرا وإسبانيا، بين المنطقة العربية والمنطقة الأمازيغية؟ وهنا لا بد من التوضيح أن عبارة “المناطق الأمازيغية”، المتداولة والمعروفة، مجرد تعبير صحفي ولا تعبر عن واقع ترابي موجود وقائم بذاته كعبارة “المنطقة الفلامانية” ببلجيكا، أو “المنطقة الكردية” بالعراق، أو “المنطقة الكطلانية” بإسبانيا. ذلك أن عبارة “المناطق الأمازيغية” قد تعني أن الأمازيغيين موجودون بمناطق محددة دون أخرى خاصة بـ”العرب”. مع أنه لا توجد منطقة بالمغرب خالية من الأمازيغيين ومن اللغة الأمازيغية، وخالية كذلك من العرب واللغة العربية، إذا اعتبرنا العربي هو من يُفترض أنه ينتمي “عرقيا” إلى العرب ويستعمل لسانيا اللغة “العربية” (الدارجة المغربية). مما ينتج عنه أنه لا يمكن التمييز بين العربي والأمازيغي بالمغرب بناء على القاعدة الاستقرائية للمعيار الترابي واللسني المحدد للانتماء الهوياتي كما رأينا. لماذا؟
لأنه، بكل بساطة، لا توجد بالمغرب مناطق “أمازيغية” وأخرى “عربية” حتى تكون هناك هويتان متمايزتان، إحداهما عربية وأخرى أمازيغية على غرار ما هو معروف في البلدان التي تعرف تعددا هوياتيا حقيقيا (تعدد في الهويات بالجمع وليس في الهوية الواحدة الذي لا وجود له) لوجود مناطق هوياتية حقيقية بهذه البلدان، كما رأينا في الأمثلة السابقة. لا توجد إذن بالمغرب إلا منطقة واحدة هي منطقة المغرب. وما هي هوية هذه المنطقة؟ هويتها تتحدد بانتمائها الترابي، وباللغة الخاصة بهذه المنطقة والتابعة لها، والتي لا علاقة لها باللغة التي يستعملها هذا الفرد أو ذاك كما سبق توضيح ذلك. هذا الانتماء هو انتماء لأرض شمال إفريقيا وليس إلى الأرض العربية الموجودة بالمشرق وبقارة أخرى هي أسيا. وهذه الأرض الشمال إفريقية معروفة بأنها أرض أمازيغية، بالمفهوم الترابي طبعا. النتيجة إذن أن هوية المغرب والمغاربة والدولة المغربية، هي نفس هوية موطنهم الأمازيغي بشمال إفريقيا.

إن الأفكار الخاطئة والرائجة حول الهوية بالمغرب، والتي تقول وتكرر، كما جاء في دستور 2011، بأن المغرب متعدد في هويته لأن به أمازيغيين و”عربا”، هي أفكار عامّية تنطلق من المفهوم الشعبي والعرقي للهوية الذي هو مجرد انطباع للفرد عن نوع الهوية التي ينتمي إليها، والذي هو انطباع حسي وعامّي تكوّن لديه من خلال المغالطات، العامّية دائما، المتداولة بالمغرب حول الهوية، والتي لا تصمد أمام المنهج الاستقرائي ـ وهو منهج علمي على أساسه صيغت الكثير من القوانين في الفيزياء ـ الذي اعتمدناه في تحديد الهوية.

فالصواب ليس القول: “إن سكان المغرب يتشكلون من عرب وأمازيغيين”، بل: “إن سكان المغرب هم أمازيغيون في هويتهم، لكن فيهم من هم ذوو أصول عربية”، مثلما أن سكان فرنسا هم فرنسيون في هويتهم، لكن فيهم من هم ذوو أصول هنكارية مثل الرئيس السابق نيكولا ساركوزي؛ ومثلما أن سكان الولايات المتحدة أميريكيون في هويتهم، لكن فيهم من هم ذوو أصول كينية مثل رئيسهم الحالي (2013) باراك أوباما؛ ومثلما أن البريطانيين هم إنجليزيون في هويتهم، لكن فيهم من هم ذوو أصول ألمانية مثل العائلة الملكية؛ ومثلما أن سكان البرازيل هم برازيليون في هويتهم، لكن فيهم من هم ذوو أصول برتغالية؛ ومثلما أن سكان المكسيك هم مكسيكيون في هويتهم، لكن فيهم من هم ذوو أصول إسبانية…إلخ.

المغاربة أمازيغيون إذن في هويتهم، لكن فيهم من هم ذوو أصول عربية. وبالفعل، عندما نستحضر الأصول بالمفهوم العرقي، لا يمكن إنكار أن هناك مغاربة من أصول عرقية عربية، كما أن هناك من هم من أصول يهودية وفينيقية ورومانية وتركية وسينيغالية وأوروبية… لكن الجميع ينتمي إلى نفس الأرض الأمازيغية بشمال إفريقيا. فليس هناك إذن تعدد على مستوى الهوية الذي يحدده الانتماء إلى نفس الأرض الواحدة، بل فقط تعدد في الأصول والأعراق الذي لا يدخل في تحديد الهوية ولا يؤثر عليها. فالرئيس الفرنسي السابق ساركوزي، المشار إليه، هو فرنسي الهوية وهنكاري الأصول، والرئيس أوباما ينعت بأنه أميركيي من أصول كينية. وهذا هو الوصف الملائم بالمغرب للذين يعتقدون ـ يعتقدون فقط وليس لهم دليل على ذلك كساركوزي وأباما ـ أن لهم أصولا عربية: إنهم أمازيغيون من أصول عربية.

في الحقيقة، هؤلاء الذين يدعون بالمغرب بأن هويتهم عربية، يخلقون، بادعائهم هذا، شروط وظروف الصراع الهوياتي الذي كان يجب أن يكون المغرب في غنى عنه.

لنوضح كيف يخلقون هذا الصراع:

عندما نسمع شخصا يقول، وهو في المغرب، بأنه تركي أو فارسي أو بريطاني أو فرنسي أو أفغاني أو سنيغالي…، نفهم مباشرة أنه أجنبي ونتعامل معه على هذا الأساس. ونفس الشيء يصدق على هذا الذي يدعي، وهو في المغرب، أنه عربي، أي يعترف أنه أجنبي، ينتمي إلى الأرض العربية التي توجد يأسيا وليس إلى أرض المغرب التي توجد بإفريقيا. وإذا ردّ عليه بعض الأمازيغيين: “ما دمت أنك عربي، فغادر المغرب وارحل إلى أرضك الأصلية ببلاد العرب”، يثور ويصيح: “هؤلاء الأمازيغيون متطرفون وعنصريون”. وهكذا ينشأ الصراع الهوياتي، الذي يتخذ في الغالب أشكالا عنصرية بسبب منطلقاته العرقية، بين من يعتقد أن هويته عربية ومن يعتقد أنه من السكان “الأصليين”. لكن سبب هذا الصراع، ليس هو هذا الأمازيغي “المتطرف” و”العنصري” كما يصفه هذا الذي يعتقد أن هويته عربية، بل سببه هو هذا الأخير الذي يدعي أنه عربي في أرض أمازيغية، وبذلك يوفر الفرصة والظروف والشروط ليطالبه الآخر بالمغادرة والرحيل كما يُتعامل مع أي أجنبي لم يسوّ وضعيته ببلاد المهجر. لكن لو أن هذا الذي يزعم أنه عربي يقول، بدل ذلك، بأنه أمازيغي من أصول عربية، لما وجد الآخر الفرصة المناسبة ليطالبه بالرحيل إلى بلده الأصلي، لأن بلده الأصلي سيكون، في هذه الحالة، هو هذه الأرض الأمازيغية بشمال إفريقيا، مثله مثل السكان “الأصليين”، لأن الجميع ينتمي إلى نفس الأرض التي انتمى إليها أجدادهم (لا يهم عدد الأجيال من الأجداد)، والتي هي الأرض الأمازيغية. وهكذا سيختفي الصراع الهوياتي تلقائيا لاختفاء شروطه وأسبابه. فالتصور العرقي للهوية هو مصدر كل المشاكل المتصلة بالانتماء في المغرب، مع أن الهوية شيء آخر مختلف اختلافا جذريا عن الأصل العرقي. فمثلا أنا، الذي أكتب هذه السطور، قد تكون أصولي العرقية عربية أو يهودية أو إسبانية أو فينيقية أو رومانية أو وندالية… ومع ذلك فأنا مقتنع بأنني أمازيغي الهوية والانتماء. بماذا ولماذا وكيف؟ لأن الأرض التي أنتمي إليها، وانتمى إليها أجدادي من قبلي (أكرر أن عدد الأجيال من الأجداد لا يهم)، هي أرض أمازيغية إفريقية، وليست أرضا عربية ولا يهودية ولا إسبانية ولا فينيقية ولا رومانية ولا وندالية…

بعودتنا إلى السؤال: من هو العربي ومن هو الأمازيغي بالمغرب؟ يكون الجواب، بناء على الاستدلال السابق: لا يوجد بالمغرب عرب من الناحية الهوياتية بل فقط من ناحية الأصل العرقي، أي أن المغاربة أمازيغيون، لكن ضمن هؤلاء الأمازيغيين يوجد من هم ذوو أصول عربية. النتيجة أن هوية المغرب واحدة هي الهوية الأمازيغية المستمدة من الأرض الأمازيغية للمغرب.

وهذا ما كان يجب أن يؤكد عليه دستور فاتح يوليوز 2011 ويوضّحه بالتنصيص على أن المغرب ذو انتماء أمازيغي واحد مع تعدد في الأصول العرقية لسكانه. وهو الحل الوحيد الكفيل لوضع حد نهائي ودستوري للمشكل الهوياتي بالمغرب، هذا المشكل الذي يجد مصدره في الاعتقاد العامّي بوجود هويتين اثنتين بالمغرب، عربية وأخرى أمازيغية، مما يجعل الصراع بين هاتين الهويتين مفتوحا ومستمرا يتخذ أشكالا وأحجاما مختلفة: عرقية، لغوية، أغلبية وأقلية، أصليون ووافدون، غزاة ومقاومون للغزو….

رغم أن عبارة “الانتماء الأمازيغي” للمغرب تعني، ليس الانتماء إلى العرق الأمازيغي، بل الانتماء إلى الأرض الأمازيغية بشمال إفريقيا كما شرحنا، إلا أنه، وتجنبا للتأويل العرقي الذي قد يعطيه البعض لهذه العبارة “الترابية” بقياسهم لها على عبارة “الانتماء العربي”، ذات المضمون العرقي فعلا لأنها تحيل على العرق العربي وليس على الأرض العربية التي توجد بأسيا وليس بإفريقيا، فلا مانع من، بل من المستحسن، استبدال عبارة “الانتماء الأمازيغي” بعبارة “الانتماء الشمال إفريقي” ذات المضمون الجغرافي المحايد. وهو ما كان يجب على الدستور أن يؤكد عليه في التصدير، وذلك بالتنصيص على أن “المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، تستمد هويتها وانتماءها من موطنها بشمال إفريقيا”، بدل كل ذلك الإنشاء والإطناب حول “المكونات” و”الروافد”. فلو فعل ذلك لوضع حدا نهائيا لكل نقاش حول الهوية بالمغرب، لأن هذا التعبير (تستمد هويتها وانتماءها من موطنها بشمال إفريقيا) موضوعي وجغرافي يعبّر عن الانتماء الترابي، بعيدا عن أي عرق أو أصل إثني.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments