اٍشكالية الشريعة والقانون في الدولة الاٍسلامية


مقدمة :

في سياق محاولة تحديد مفهوم الدولة الاٍسلامية الحديثة، يعتبر طرح الأسئلة التالية مشروعا: ماذا نقصد بالدولة الاٍسلامية الحديثة ؟؛ هل نقصد به مجموع الدول الاٍسلامية الحالية باختلاف أنظمتها السياسية؟ أم هل نقصد به تلك الدولة الاٍسلامية المأمولة؟ هل نقصد بلفظ ” الاٍسلامية ” كونها تطبق الشريعة الاٍسلامية؟ أم كونها تضم فقط غالبية من المسلمين؟،يبدو أن تحديد هذا المفهوم محاط بسياجات شائكة من الاٍشكاليات القانونية والسياسية والاٍجتماعية والثقافية والاٍقتصادية، وهذا هو ما سوف نقوم بمحاولة الاٍقتراب منه أكثر بقصد اٍستجلاء مكامن الغموض الذي يرتكس في اٍساره.
تطرح علاقة الشريعة بالقانون في الدولة الاٍسلامية اٍشكالية عويصة لم يستطع المسلمون أن يحسموا فيها بعد قرون من النقاش والجدال بل والصراع أحيانا ، فالشريعة تحتل في الذهنية الجماعية للمسلمين مكانة متميزة ومتعالية وسامية بحكم اٍعتبارها قانون اٍلهي ، وفي نفس الوقت فالقانون الوضعي يضل هو الساري في جميع مناحي الحياة الاٍجتماعية والسياسية والاٍقتصادية في العصر الراهن خاصة بعد جلاء الاٍستعمار عن بلاد المسلمين وتأسيس الدولة الوطنية القطرية التي تأثرت كثيرا بالحضارة الغربية ، ويبدو الأمر مع هذه الثنائية : شريعة – قانون ، وكأن أحدهما يتحين الفرصة لإلغاء الآخر ، أو كأن أحدهما ينتظر أن تسنح الظروف للعودة اٍلى السيطرة الشاملة ، خاصة الشريعة مادامت الى حد الآن مستبعدة من التطبيق الكلي في المجتمعات الاٍسلامية الحديثة ، باستثناء بعض القواعد المرتبطة بالأحوال الشخصية والاٍرث ؛ فهل يعيش المسلمون اٍزدواجية الشخصية ما بين الشريعة المأمولة وبين القانون المعمول ؟ وهل يعون {من الوعي} هذا التناقض المميت أم أنه بالنسبة اٍليهم مسألة لا يجب الخوض فيها ويجب أن تستبعد كلية من النقاش؟
بعيدا عن النقاش الدائر الآن في سياق الفكر العربي – الاٍسلامي حول المناهج ، خاصة أطروحات عبد الله العروي وعبد الله حمودي وطه عبد الرحمن وآخرون ، هذا النقاش يدعو اٍلى ضرورة تأسيس مناهج وشبكات تحليل عربية – اٍسلامية ، سأحاول في هذه الورقة أن أقارب هذه الاٍشكالية موظفا المنهج الجدلي الهيجلي الذي هو الديالكتيك ، والذي يمتاز باستعراض الأطروحات المتضادة والمتناقضة بغية الوصول اٍلى الاٍجابة العقلانية والموضوعية عن الاٍشكال المطروح بعيدا عن الاٍنتصار لهذه الأطروحة أو تلك وذلك من أجل الخلوص اٍلى بعض الخلاصات التي يمكن أن تساعد على فهم بعض أبعاد هذه الاٍشكالية وتساهم بالتالي في اٍضاءة بعض الزوايا المعتمة فيها والتي لاتزال تطرح العديد من علامات الاٍستفهام حول شكل الدولة الذي يريده المسلمون في المستقبل هل هي الدولة المدنية أم الدولة الدينية ؟ وكذلك مصير كل من الشريعة والقانون في خضم هذه الاٍشكالية، وما اٍذا كان اٍستمرار هذا الاٍشكال من شأنه أن يساهم اٍنتاج نفس المعضلات الثقافية والسياسية والاٍجتماعية والاٍقتصادية التي لايزال يعاني منها المسلمون اٍلى عصرنا الحاضر؟

1- الشريعة والقانون أيهما نختار في الدولة الحديثة؟

في المقام الأول يجب أن نطرح سؤالا فرعيا يرتبط بنفس السياق ولكنه يطمح اٍلى محاولة لمس عناصر الاٍشكال بغية رصدها في النقاش، السؤال هو: هل نملك حقا حق الاٍختيار؟

وتطرح هذه اٍشكالية الاٍختيار سؤال أين يكمن المشكل؟ بحيث يمكن التماهي مع الرأي القائل بأن الشريعة ماضية في اٍحتلال مكانتها الطبيعية في المجتمع والقانون ماض في تبوأ مكانته الطبيعية أيضا ، وهذا لا يطرح أي اٍشكال ، وأن الاٍشكال بتعارضهما ما هو اٍلا مسألة مفتعلة تروم اٍلى اٍتهام الشريعة بالقصور وبالتالي محاولة التخلص منها بصفة نهائية لصالح سيطرة القانون الوضعي ، في حين يجب أن تضل الشريعة في مرتبة أسمى من مرتبة القانون باعتبارها قانونا اٍلهيا يتصف بالكمال والشمول والديمومة والأصلحية أو الصلاح لكل الظروف والأمكنة والأزمنة ، في حين ما القانون اٍلا تشريع بشري يحتمل ما يحتمل من عوارض النقصان ويعتريه العوار ولايصمد أمام رجحان التشريع الاٍلهي المتصف بالكمال المطلق .

وفي المقابل سوف نستحضر الرأي القائل بأن القانون الوضعي من حيث هو تشريع بشري يروم اٍلى اٍيجاد الأجوبة الواقعية لكل الأسئلة الراهنة والعالقة والتي {لم تستطع الشريعة } أن تجد لها حلا ، كون الشريعة باعتبارها تشريعا اٍلهيا مرتبط بسياقات تاريخية واٍجتماعية معينة اٍنتهى دورها في تنظيم المجتمعات الاٍسلامية العصرية ، بحيث ينتفي استمرارها في اٍنتاج نفس الآثار والحفاظ على نفس المراكز القانونية والاٍجتماعية وترتيبها لنفس الجزاءات في حال الاٍخلال بها ، لأن الجزاء في هذه الحالة مرتبط بالآخرة وليس بالحياة الدنيا ، والشريعة كتشريع اٍلهي – وكما هو معلوم – تنقسم اٍلى تشريع يهم تنظيم علاقة الاٍنسان بربه وهو ما يسمى بالعبادات ، وتشريع يهم تنظيم علاقة الاٍنسان بأخيه الاٍنسان وهو ما يسمى بالمعاملات ، فاٍذا كان القسم الثاني يتضمن مبادئ قد تم تضمينها في التشريع الوضعي ، خاصة ما يتعلق منها بالحقوق العينية { وهي تندرج في فقه المعاملات } مثل البيع والشراء والكراء والديون والرهون…الخ وكذا الحقوق الطبيعية مثل الحق في الحياة والحقوق المدنية مثل حق الملكية وحق الزواج وتكوين أسرة …الخ ، فاٍن القسم الأول هو العبادات } يتضمن أحكاما تنظم العلاقة بين العبد وربه وهي من الأصول لا تتغير لأنها تنصب على عبادات قطعية لا تحتمل النسخ أو الاٍجتهاد وهي جوهر الدين الإسلامي } ومن أمثلة هذه الأحكام الصلاة والزكاة والصوم والحج ، فان القسم الثاني الذي هو المعاملات هو الذي ينظم العلاقات الاٍجتماعية ومختلف أنواع العقود مثل البيع والشراء والرهن والزواج والطلاق ويمكن اٍضافة الجانب الجنائي اٍلى هذا القسم الذي يهم المعاملات والذي يهم جانب العقوبات والزجر المترتبة على تجاوز الحدود التي رسمها الشرع أو الاٍعتداء على حقوق الأغيار ، وهذا القسم يتضمن أحكاما يجوز القول عنها ؛ اٍما منسوخة بأحكام أخرى تالية لها ، أو أحكاما أخرى اٍنتهى زمن العمل بها ولم تعد صالحة في زماننا هذا ومن أمثلة هذه الأحكام الحدود التي عطلت جميعها في أغلب الدول الاٍسلامية الحديثة- { باستثناء العربية السعودية } وهي بدورها أصبحت تعرف مؤخرا تحولات جذرية مست جميع الجوانب المتعلقة بالحريات الشخصية ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يعتبر مبدأ مفصليا في جميع مناحي الحياة الاٍجتماعية بهذه الدولة – بحكم اندفاع المجتمعات الاٍسلامية في الحداثة بكل تمفصلاتها السياسية والاٍجتماعية والثقافية والاٍقتصادية وتبنيها للعديد من المبادئ الكونية وعدم اٍمكان تطبيق تلك الأحكام في العصر الراهن سواء بسبب تحول الكون اٍلى قرية رقمية صغيرة أو بسبب تبني المجتمعات الاٍسلامية للمنظومة الحقوقية الكونية المتمثلة في حقوق الاٍنسان ، كما أن القول بأن الحقوق المدنية المتضمنة في الشريعة مثل حقوق الأغيار في النفس والمال والأعراض ، هي نفسها ما هو سار في القانون الوضعي وهو ما قامت المجتمعات بتضمينه في المواثيق الدولية ، هو قول فيه مبالغة بحكم أن الحقوق المدنية و السياسية و الاٍجتماعية والثقافية التي تضمنتها المواثيق الدولية ، والتشريعات الوطنية للدول الاٍسلامية تنهل من الثقافات والشرائع المختلفة للشعوب المشكلة للجامعة البشرية في الكون ، وليس من الشريعة الاٍسلامية فقط ، أي أن تلك الحقوق تتسم بطابع الكونية وليس بطابع القطرية أو الاٍقليمية .

لايحبذ المسلمون الحديث عن هذا الموضوع أكثر، و لا يحبون أن يخوضوا فيه، ويعتبرونه من الطابوهات ، فالشريعة حكم الله، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } سورة المائدة الآية 44،{ ومن لم يحكم بنا أنزل الله فأولئك هم الظالمون } سورة المائدة الآية 45 ، {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } سورة المائدة الآية 47، كما جاء في القرآن الكريم، وهو قول اٍلهي فصل، والنص الذي بين أيدينا خاصة النص الأخير باعتبار أنه نسخ حكمه حكم النصين الأولين ، هو من النصوص القطعية الثبوث التي لا تقبل النقاش والجدال والاٍعتراض، لأن أي فعل من الأفعال المذكورة قد يعرض صاحبها للاٍتهام بالمروق من الدين أو الكفر والاٍلحاد، لكن هل يحكم المسلمون الآن بما أنزل الله؟

الجواب عن السؤال الآنف يتطلب الذهاب في سياقين مختلفين ؛ فأما الأول فيتعلق بالبحث عما اٍذا كان المسلمون يحكمون في العصر الراهن ب { ما أنزل الله } أي بما هو وارد في القرآن الكريم من أحكام في جملتها بدون عملية اٍنتقائية أو بدون زيادة أو نقصان { سواء في الحياة الشخصية للأفراد و العلاقات الاٍجتماعية } والتي هي مليئة بالنفاق والاٍزدواجية والتناقض أو الحياة المدنية للدولة ، وهنا تثور اٍشكالية النص والتطبيق أو اٍشكالية النص والفهم أو التأويل ومنه انبثقت المذاهب السنية ومختلف الأفهام والتأويلات والتطبيقات الشخصية مع الاٍحتفاظ بحق المذاهب الشيعية في التواجد بشكل واقعي كمسلمة وحقيقة اٍجتماعية وتاريخية لا يمكن القفز عليها اٍنطلاقا من زاوية مذهبية أو طائفية ، وأما الثاني فيتعلق بالبحث عن الجانب الذي يتم فيه تطبيق هذه الأحكام كماهي واردة في النص القرآني ، والمرتبط بسياقات اٍجتماعية وسياسية معينة ، متباينة ومختلفة ولكنها بالنسبة لعموم المسلمين تعتبر كارثية ولا تمثل النموذج الاٍسلامي المثالي ولا القرآني المأمول ، وهذه السياقات هي سياقات الدول التي ظهرت مؤخرا كنتاج للإشكالية المطروحة في هذا السياق مثل دولة طالبان في أفغانستان والتي هي نتاج تفاعل ما بين تأويل سلفي/ حنبلي – وهابي للنصوص الدينية خاصة الجهادية منها وتنظيم القاعدة، والدولة الاٍسلامية في العراق والشام والتي تسمى اٍختصارا ب : { داعش } وكذا محتلف التشكيلات السياسية القريبة منها أو ما يصطلح عليه بجماعات أو حركات الاٍسلام السياسي { مع الاٍختلاف في المنهجية لتحقيق الهدف المنشود الذي هو الدولة الاٍسلامية أو دولة الخلافة المأمولة } مثل جماعة الاٍخوان المسلمين والجماعات السلفية و الجهادية وكذا مختلف الجماعات الدينية التي تؤمن بضرورة العودة اٍلى التطبيق الفعلي للشريعة ، والتي لها نفس التصور للدولة الاٍسلامية أو دولة الخلافة المأمولة كحاضنة مستقبلية لها ، بحكم أن الحالة الراهنة بالنسبة اٍليها حالة مؤقتة تتسم بالعض و الجبر وهو ما يعني اٍغتصاب السلطة من أهلها الحقيقيين الذين هم أهل البيت وتوليها من قبل الأمويين ثم من قبل الحكام الحاليين سواء أكانوا رؤساء دول أم ملوكا ، وهذه اٍشكالية أخرى ترتبط بمشروعية الحكم والسلطة بعد الخلفاء الراشدين خاصة المنتمين منهم لآل البيت وهو علي بن أبي طالب ، كما يرى ذلك الشيعة وبعض الحركات الاٍسلامية التي تؤمن بهذه الفكرة مثل جماعة العدل والاٍحسان في المغرب ، وهذه الاٍشكالية تقع في صلب اٍشكالية أو معضلة الشريعة والقانون عند المسلمين في العصر الراهن وكل الآثار والأبعاد التي تثيرها على جميع الصعد ، كبعد من أبعاد تمفصل القانون والشريعة مع الأيديولوجيا في اللاشعور الاٍسلامي الجمعي.

2- الشريعة الاٍسلامية واٍشكالية التطبيق

لا يحتاج الأمر اٍلى عناء البحث أو الاٍستدلال من أجل القول بحقيقة أن المسلمين لا يطبقون الشريعة كلية ، ويطبقونها فقط في بعض مناحي حياتهم الاٍجتماعية مثل الأحوال الشخصية والاٍث ، بل يلاحظ أن أغلب الدول الاٍسلامية باستثناء العربية السعودية ودولة طالبان في أفغانستان سابقا لا تطبق الشريعة في جميع مجالات الحياة العامة ، والشريعة في الدول الاٍسلامية لا تعدو كونها مصدرا من ضمن مصادر كثيرة ومتنوعة للتشريع والتي منها القانون الوضعي بطبيعة الحال ، وذلك بحكم أن الدولة القطرية – الوطنية التي تأسست بعد جلاء المستعمر لم تكن المرجعية الدينية مرجعتيها الأساسية ، مع أن هذه المرجعية سرعان ما أصبحت تمثل الحل بالنسبة لأطياف عديدة وشرائح مختلفة من المسلمين لمعضلة الدولة في الفكر السياسي والثقافة السياسية الاٍسلامية { الحركات الاٍسلامية } ، بحيث – وهذه حقيقة مرة – أن اٍشكالية الشريعة والقانون ماهي اٍلا الشجرة التي تخفي غابة اٍشكالية الدولة في الفكر السياسي الاٍسلامي ، والتي رغم كل التناقضات التاريخية التي حدثت منذ حادثة السقيفة وما أصطلح عليه في الكتابات التاريخية ب { الفتنة الكبرى بين عثمان ومعاوية وموقعة الجمل وصفين } …الخ والتي لاتزال تحدث اٍلى يومنا هذا ، لم تستطع أن تزيح الحلم بالمدينة الفاضلة أو يوتوبيا الخلافة من أذهان المسلمين وبقي الاٍنتظار هو سيد الموقف منذ سقوط الخلافة العثمانية في تركيا عام 1929.

السياق الثاني هو سياق الدول الاٍسلامية التي حاولت أو تحاول أن تعود اٍلى النموذج المثالي للاٍنطلاق منه نحو اٍعادة بناء أمجاد المسلمين الحضارية وتبوأ صدارة العالم في العلم وجميع المجالات والتي ” غصبها ” الغرب في اٍطار تبادل الأدوار التاريخية والتي هي بالنسبة للمسلمين مسألة حتمية ، بحيث أن الغرب بالنسبة للمدافعين عن أطروحة دولة الشريعة اٍستنفذ دوره الحضاري ومقومات وجوده ،بدليل أن الحداثة الغربية هي الآن تعرف تراجعات وانحدارات أخلاقية وقيمية خطيرة ، وعليه أي الغرب ، وفقا لذلك أن يستسلم الآن لسباة عميق اٍيذانا ببزوغ فجر المسلمين الذي سيكون مزدهرا ، لكن بشرط تحقيق دولة الخلافة حيث ستعود الشريعة الى وضعها الطبيعي في تنظيم مجالات حياة المسلمين ، من حيث هي قانون اٍلهي يجمع الشقين الدنيوي و الأخروي في كفة واحدة ، بينما الحضارة الغربية ماهي اٍلا حضارة مادية مجردة من الروحانيات والأخرويات ، في البداية مع نظريات الفلاسفة الماديين الاٍغريق أمثال هيروقلطس وأنكسمندر وأنكسمنس ثم أرسطو ثم مع الفلاسفة الماديين الاٍشتراكيين والليبراليين في اٍطار ما سمي ب ” فلسفة الأنوار ” أمثال هيجل واٍنجلز وماركس وكانط وديكارت وغيرهم، ثم مع سرديات ما بعد الحداثة والعولمة الاقتصادية ، ما أسقطها في الاٍفلاس الأخلاقي وجعل مركزية الاٍنسان والعقل فيها بمثابة آلهة تعبد بدل الله الذي هو جدير بالعبادة.

هذا السياق يطرح اٍشكالية ثانوية تندرج في نفس السياق ؛ ألا وهي تلك المرتبطة بكيفية تجاوز الاٍشكال الذي يرى جزء من المفكرين ورجال السياسة المسلمين { خاصة الحداثيين والعلمانيين } منهم أنه يجب أن يتم من خلال القيام بنفس الخطوات السياسية والتاريخية التي قام بها الغرب والمتمثلة في فصل الدين عن الدولة ، بحكم أن دولة الخلافة التي ينادي بها من يسمونهم { اٍسلاميين } سوف لن تعود مرة أخرى ، وأن الظروف التاريخية التي أنتجت تلك التجربة أو الظاهرة السياسية ليست هي نفس الظروف الحالية ، باعتبار أن المنادون بدولة الخلافة لم يستفيدوا من أخطاء الماضي ويريدون أن يعيدوا اٍنتاج نفس الشروط التي تم فيها اٍرتكاب نفس الأخطاء ، وأن تلك الأخطاء كانت كارثية على الاٍنسان بحكم الطابع الاٍستبدادي والشمولي لهذه الدولة والتي هي دولة دينية تحتكم اٍلى النص وليس اٍلى العقل والمصلحة البشرية والواقع الاٍجتماعي ، بحيث اٍذا تعارض الاٍثنان تقدم النص على المصلحة البشرية وعلى الاٍنسان ، وهذا الأمر تسبب في عاهات مستديمة أصابت الاٍجتماع البشري الاٍسلامي وأصابت العقل الاٍسلامي بالشلل وحتمت عليه الاٍستسلام التام للنص أو ما يسميه الجابري العقل العرفاني الاٍشراقي والذي ساهم في اٍنحسار الفكر العقلاني الفلسفي المتنور من خلال اٍنتشار أفكار الغزالي وابن تيمية بعد سقوط الأندلس واٍحراق كتب اٍبن رشد التي كانت تدعو الى اٍعمال العقل الذي هو أيضا مخلوق اٍلهي والذي يجب أن يوظفه الاٍنسان لترتيب أمور حياته الاٍجتماعية بعيدا عن النص الديني الذي يجب أن ينحصر فيما ينظم العلاقة بين الاٍنسان وربه فقط دون تجاوز ذلك اٍلى سائر مجالات الحياة الأخرى الاٍجتماعية والسياسية والاٍقتصادية والثقافية ، وبالتالي فالعلمانية أو فصل الدين عن السياسة والدولة هي الحل النهائي والأمثل لإشكالية الشريعة والقانون وسائر التناقضات الناتجة عنها ، وأن السياق الكوني الآن يتجه نحو العلمنة والديمقراطية كخيار كوني لا رجعة فيه ،ومن جهة أخرى فالدين يعود اٍلى المطلق الذي هو الله بينما السياسة تحتكم اٍلى كل ما هو نسبي ، بشري وأرضي ، وهي تخضع لمنطق تجاذب ميزان القوى ، وعندما يتم مزج الدين بالسياسة التي تخضع لمنطق المصلحة – وهذه الأخيرة يطبعها التناقض – فإننا نقوم بتدنيسه بإنزال الدين من اٍطاره الأنطولوجي المقدس والمتعالي ونزج به في المعترك السياسي المدنس ، وبالتالي فنحن في الحقيقة نقوم بمزج المطلق بالنسبي وهذه معادلة غير متكافئة أو غير صائبة . لكن ماذا سنعمل بالشريعة؟ {مكيافيللي فصل الدين عن الأخلاق}.

وفي المقابل يرى أنصار دولة الشريعة ( الخلافة الاٍسلامية ) أن العلمانية الغربية جاءت في سياق سياسي وتاريخي واجتماعي وديني مخالف تماما للسياق الاٍسلامي ، فالكنيسة في الغرب كانت محتكرة للمجال السياسي والديني ، وكانت تمارس وصاية على المؤمنين من خلال بيع صكوك الغفران ، وأدى ذلك اٍلى فساد الكنيسة والمجتمع ، الشيء الذي جعل من أمر اٍستبعادها من المجال السياسي والاٍجتماعي من قبل دعاة الاٍصلاح الديني ( مارتن لوثر في ألمانيا وكالفن في اٍنجلترا ) أمرا حتميا ، بحيث طرح تدخلها في المجالات المذكورة اٍشكال فساد الدولة أو الملكيات التي كانت متحالفة معها من جهة ومع الاٍقطاع من جهة أخرى ، مما أدى اٍلى أن يكون الحل لهذه المعضلة السياسية هو اٍستبعاد الكنيسة من الحياة العامة ومن المجال السياسي ، وجعل الدين شأنا شخصيا خاصا ، وهكذا ظهر مفهوم العلمانية كمفهوم يحيل على الفصل النظري بين السياسة والأخلاق في البداية مع كل من مكيافيللي وجون بودان ثم الفصل الاٍجرائي مع مارتن لوثر وكالفن و الفلاسفة والمفكرين الحداثيين ، أما في السياق الاٍسلامي فالأمر مختلف لعدة اٍعتبارات ؛ ففي الاٍسلام لاتوجد وصاية على المؤمنين من أي جهة كانت ، والدولة الاٍسلامية تضمن للمؤمنين حرية ممارسة شعائرهم الدينية ، وهناك أحكام خاصة بأهل الذمة طبعا ، والديانة المسيحية لا تتضمن شريعة اٍلهية لأنها تقتصر على الجانب الأخلاقي فقط ، في حين تتضمن الشريعة الاٍسلامية مقتضيات لتنظيم الحياة الاٍجتماعية ، والاٍسلام يتضمن تصورا للحياة والاٍنسان والكون ، وهو لا يقوم بتجسيد الله كما تفعل الديانات الأخرى ، خاصة المسيحية والتي ترفع النبي عيسى اٍلى مرتبة الألوهية ، وهو أمر مخالف للعقل والفطرة السليمة ، وفي سياق مختلف فالديانة المسيحية لا تتضمن تشريعا خاصا بالمعاملات وتنظيم المجال الاٍجتماعي والسياسي ، بل هي عبارة عن مصفوفة من القيم الأخلاقية لا غير ، لهذا فالشريعة هي المنوط بها احتلال مكان القانون الوضعي ، لضمان عدم الاٍنزلاق القيمي والأخلاقي الذي حدث في الغرب مع اٍزاحة الدين من الحياة العامة ، مع أن هذا الطرح يراه البعض على أنه نسبي ويحتاج اٍلى كثير من التمحيص بدعوى أن الدين لم يتم اٍستبعاده كلية من المجالات العامة والسياسية في الغرب ، بدليل أن البابا لايزال يشرف على تنصيب الملوك في اٍنجلترا واٍسبانيا ، والكنيسة لاتزال تشرف على زواج أفراد الأسرة الملكية في هذين البلدين وفي بلدان أوروبية أخرى .

3- الشريعة الإسلامية كمصدر للقيم عند المسلمين

تطرح مسألة اعتبار الشريعة الاٍسلامية مصدرا للقيم عند المسلمين من عدمه اٍشكالا آخر مرتبطا بسياقات حضارية وثقافية أخرى، بحيث يلاحظ أنه في العصر الراهن الذي يعيش فيه المسلمون في مفترق الطرق الحضاري وهم حائرون بين تطبيق الشريعة بحكم اعتبارها قانون اٍلهي منصوص عليه في القرآن الكريم الذي هو المرجع القيمي الأسمى في حياتهم، وبين القيم الأخلاقية الغربية والمادية التي تفرض عليهم سيطرة وهيمنة مطلقة نظرا لارتباطها بالعولمة الاٍقتصادية ونظريات السوق والحداثة وما بعد الحداثة، التي تسللت اٍلى واقعهم واحتلت بيوتهم بدون اٍستئذان ، وهو ما يسميه دعاة الدولة العلمانية أو المدنية بالقيم الكونية السائدة ويسميها أنصار دولة الشريعة بشمولية القيم النابعة من المركزية الغربية وممارستها دكتاتورية على الشعوب الاٍسلامية وسائر شعوب المعمور التي لا تتبنى بالضرورة خيار القيم الغربية المعولمة وهي بذلك اٍما رافضة لها أو لا تؤمن بها رغم هيمنتها على واقعها ، خاصة الشعوب الشرقية ذات الثقافات والحضارات المختلفة مثل اليابان والصين والهند ، لكن في المقابل يثار التساؤل فيما اٍذا كان المسلمون يعون حجم التناقض الذي يقعون فيه وهم يحملون وعيا شقيا يؤمن بالشريعة كمصدر للقيم الأخلاقية التي يجب تؤطر حياتهم كمسلمين ، ووعي آخر ينسلخ بإرادة أو غير اٍرادة من هذه القيم ويعتبرها قيما ” رجعية ” ولم تعد صالحة لهذا العصر ، أو يعتبرها صعبة التنزيل على الواقع المعيش أو غير قابلة للتطبيق في خضم التأثر العميق مع الاٍرادة المسلوبة بالقيم المادية وقيم السوق التي صارت تفرض نفسها على واقعهم بقوة ولا تفسح لهم المجال للاٍختيار ، وكمثال لهذا الاٍشكال ما أضحى يسمى عندنا مثلا في المغرب ب ” روتيني اليومي ” وهو عبارة عن عملية بث استعراضية على اليوتيوب للنشاط اليومي للسيدات من داخل البيوت ، منقول من عمليات مشابهة من القنوات الغربية بشكل سطحي بعيد جدا عن المضمون الحقيقي الذي تسوقه تلك القنوات ، في حين تحولت هذه العملية ، خاصة في ظل الاٍحتباس القيمي والتدهور الاٍقتصادي الذي يعرف المجتمع عندنا اٍلى ما يشبه نوعا من الاٍغراء الجنسي البورنو غرافي تقوم به السيدات وهن متبرجات يستعرضن مفاتنهن من داخل منازلهن وغرف نومهن على شاشات اليوتيوب مثل سلعة معروضة للبيع أمام الجميع ، خاصة اليافعين والمراهقين وحتى الكبار ، ما يحول قيم الحجاب والتستر وضرورة التعفف وغض البصر المنصوص عليها في الشريعة الاٍسلامية وفي القرآن الكريم اٍلى قيم مهجورة وغير مدرة للموارد المادية ، هذه الظاهرة الأخلاقية واٍلى جانب ظواهر أخلاقية كثيرة في المجتمع المغربي و تعرفها المجتمعات الاٍسلامية الأخرى في الآونة الأخيرة مثل اٍغتصاب الأطفال وقتلهم ، والشذوذ الجنسي الذي لم يعالج من المنظور الاٍسلامي كونه ظاهرة مرتبطة بالخلقة وترك للاٍستغلال الاٍعلامي والسياسوي بعيدا عن المعالجة العقلانية والواقعية له ، وهذه الظاهرة تطرح اٍشكال الاٍجتهاد في الفقه الاٍسلامي ، ولن نتحدث هنا عن كل الظواهر الأخلاقية التي تعرفها المجتمعات الاٍسلامية ، وتقع أحيانا في دور العبادة مثل الدعارة المقننة أو الراقية الموجودة في بعض البلدان الاٍسلامية أو تلك المغلفة بالشريعة مثل زواج المتعة لدى الشيعة و ظاهرة ” الأمهات العازبات ” وانتشار العنف والاٍجرام في الشارع العام والسرقة والحرابة وقطع الطرق وغيرها من الظواهر الأخلاقية التي أضحت منتشرة في المجتمعات الاٍسلامية المعاصرة .

يرى أنصار الدولة العلمانية والقانون الوضعي أنه يجب التفريق بين القيم الكونية الاٍيجابية التي تشترك فيها جميع المجتمعات الاٍنسانية في اٍطار الديمقراطية وحقوق الاٍنسان والمرتبطة بالحقوق والحريات الفردية مثل حرية التعبير والرأي وحرية ممارسة الشعائر الدينية والحرية الجنسية أو ما يسمى عندنا مؤخرا ب ” العلاقات الرضائية ” وحق المرء في عيش حياته بالكيفية التي يريدها وحقه في التصرف في جسده بالشكل الذي يرضيه و اٍجمالا حقه في العيش وفق المبادئ التي يراها أنها يجب أن تؤطر حياته سواء أكان منبعها الدين أو الحس الاٍنساني الميال اٍلى الخير أو العقل البشري أو الرغبة والاٍرادة البشرية وهي قيم ليبرالية مصدرها العقل البشري في الأصل ، وبين القيم السلبية التي تعتبر منافية للأخلاق والقانون والديانات مثل الاٍعتداء على حقوق الأغيار ، وسلب الحق في الحياة وحق الملكية والحق في الرأي والاٍعتداء الجسدي والمس بسلامة المعتقد الديني والاٍختلاف في الرأي والحجر الفكري ، ويعتبرون أن ما يسميه دعاة دولة الشريعة بممارسة الدعارة وحق الشواذ الجنسيين في ممارسة رغباتهم وفق الشكل الذي يرتضونه وحق الزاوج فيما بينهم ذكرانا واٍناثا والعلاقات الجنسية والحمل خارج الزواج التي تنظمها وتحميها التشريعات الغربية ، كلها تدخل في اٍطار الحقوق والحريات الفردية ، باعتبار أن الدين ليس منبعا للقيم الأخلاقية في الدولة العلمانية – المدنية ، بل العقل هو منبع هذه القيم وفق ما يحقق السعادة والغبطة والبهجة للإنسان في الحياة الدنيوية ، ولا تؤمن هذه النظرية بالحياة الأخروية وتعتبرها ناتجة عن التفكير الميتافيزيقي المرتبط بالديانات والمعتقدات ، مع أن الدولة العلمانية – المدنية كما يرى المنادون بها ؛ تحترم جميع الأديان وتضعها في نفس المرتبة وتقف منها على نفس المسافة ، وله – أي هذا العقل – أن يقبل القيم الاٍيجابية السالفة الذكر وأن يرفض القيم السلبية مع أن الفرق بين هذين المصطلحين {اٍيجابي وسلبي } يبقى نسبيا فقط وهو متروك للاٍختيار والمنظور أو التقييم الشخصي ، وأن أمر عرض هذه القيم على ما يسميه أنصار دولة الشريعة بميزان الشرع ، ليس واردا لأن دولة الشريعة عرفت بدورها انحرافات أخلاقية عويصة سواء في العصرين الأموي والعباسي حيث اٍنتشرت القيم المنافية للشريعة مثل الشذوذ الجنسي والذي توج بشعر المجون والجنس والخمريات ، كون الحضارات الاٍنسانية عرفت كلها انحرافات أخلاقية مثل التي تعرفها الحضارة الغربية في العصر الراهن بما فيها الحضارة الاٍسلامية في ظل دولة الشريعة التي كان يحكم فيها أهل الحل والعقد اٍلى جانب الخليفة ، سواء في الشرق أو في الغرب أي الأندلس .

4- الشريعة الاٍسلامية والاٍجتهاد

يرى دعاة الدولة العلمانية – المدنية أن العقل الاٍسلامي أصيب بالجمود منذ القرن الرابع الهجري ، وبالتالي فالشريعة الاٍسلامية – في الجانب المتعلق بالمذاهب الفقهية – التي ينادي بها الاٍسلاميون والمحافظون متجاوزة جدا ، ولم تعد صالحة لهذا العصر ، وذلك بالنظر اٍلى البون الشاسع الذي يفصلنا عن تلك العصور التي وضعت فيها ضوابط الاٍجتهاد من قبل الفقهاء ، وبالتالي لم يعد مقبولا في العصر الراهن ، عصر التقنية والوسائط الرقمية أن يتم الاٍحتكام اٍلى اٍجتهادات الفقهاء في ذلك القرن ، بحكم أن الواقع الاٍجتماعي والسياسي وكذا السياق الثقافي والاٍجتماعي الذي حكم ذلك العصر لم يعد هو نفسه في هذا العصر ، اٍذ لا يمكن أن يتم البحث عن حلول لمسائل ومشاكل وتناقضات اٍجتماعية وسياسية اٍنطلاقا من اٍجتهادات بشرية وضعت في سياق مختلف عن السياق الراهن ، فالفقهاء اٍجتهدوا وفق الضوابط الشرعية التي وضعوها هم ووفق السياق الاٍجتماعي الذي كان سائدا في ذلك العصر ، ولم يعد بإمكان ذلك التراث الفقهي القديم أن يجيب عن الأسئلة الراهنة في جميع المجالات ، وأن يجد الحلول الواقعية للمشاكل المطروحة اليوم ، بحيث نجد مثلا أن المحاكم الوطنية للدول الاٍسلامية وحتى في الأمور التي تتطلب اٍعمال النصوص والاٍجتهادات الفقهية لا تقوم اٍلا نادرا بالرجوع الى هذا التراث من أجل اٍستنباط الأحكام التي تراها يمكن أن تصلح لمعالجة المشاكل المطروحة أمامها على الأقل في التجارة و الزواج والعلاقات الأسرية والميراث ، وذلك نظرا لتعقد المعاملات التجارية والاٍجتماعية ، بل اٍن قوانين الأحوال الشخصية في الدول الاٍسلامية ومدونات التجارة صارت تستنبط أحكامها من القانون الوضعي الذي لم تعد الشريعة الاٍسلامية مصدرا وحيدا من مصادره بل لديه مصادر أخرى كثيرة منها ؛ الاٍتفاقيات الدولية ، والقانون الدولي الاٍنساني ، والأعراف المحلية والقانون المقارن ، وهذا الأمر – أي جمود العقل الاٍسلامي – يتطلب اٍعادة فتح باب الاٍجتهاد وفق ضوابط علمية عصرية حديثة تستجيب لمتطلبات العصر الحديث ، مع أن المقصود هنا بلفظ { علمية } ليس هو بالضرورة العلوم الشرعية كما يعتقد الفقهاء بل يجب على هؤلاء الاٍنفتاح على مختلف العلوم القانونية و الاٍنسانية والاٍجتماعية والتقنية واٍدماجها في منظومة الضوابط التي ستعمل على تأطير الاٍجتهاد ، أما من جهة أخرى فهؤلاء أي العلمانيون ودعاة الدولة المدنية يرون كذلك أن النصوص الدينية بما فيها القرآن والسنة تحتاج بدورها اٍلى الاٍجتهاد ، أولا لأن كتب الحديث أضحت محتاجة اٍلى كثير من التنقيج والتصحيح بحكم كونها محشوة بالكثير من الأحاديث الموضوعة وغير الصحيحة والتي وضعت في سياقات اٍجتماعية وسياسية معينة ووفق الطلب ، ثم لكون القراءة والتأويل التراثي للنصوص الدينية { القرآن والسنة } هي قراءة وتأويل خاضعان لمنطق العقل الفقهي القديم ووفق ضوابط لم تعد صالحة لهذا العصر ويجب أن تتغير ، وعلى هذا الأساس فالكثير من الأحكام التي يعتقد الفقهاء أنها صارت قطعية سواء في القرآن أو السنة ليست كذلك ؛ أولا بحكم كون أغلب نصوص القرآن نسخ بعضها البعض الآخر في المتن القرآني نفسه ، ثم بحكم أن أغلب الأحكام الفقهية المستنبطة من القرآن هي أحكام لم تعد صالحة لهذا العصر ، مثل حكم ملك اليمين ، فمن يقبل من المسلمين في هذا العصر أن تكون بنته أمة أو جارية عند رجل متزوج من أربعة نساء مثلا ؟.

خاتمة:

في سياق الجدال الذي لايزال دائرا بين فريق يرى أن الشريعة يجب أن تعود اٍلى وضعها الطبيعي في الدولة الاٍسلامية، ويجب أن تؤطر كل مناحي الحياة السياسية والاٍجتماعية والاٍقتصادية وبين فريق يرى ضرورة تجاوز هذه النظرية وبناء الدولة المدنية بعيدا عن اٍقحام الدين والشريعة فيها، يبدو أن دور المثقف لن يكون أقل اٍصطفافا من هذين الفريقين { وهذا اٍشكال أخر } ، حتى واٍن لم يكن مثقفا عضويا بتعبير أنطونيو غرامشي، ذلك لأن دور المثقف يبقى محوريا بل اٍن الاٍشكال لم يكن ليطفو على السطح لولا اٍنجذاب المثقف اٍلى هذه الأطروحة أو تلك ، واٍذا كان هناك من يرى أن هذا الجدال وأحيانا الصراع لا يعدو كونه مفتعلا ، اٍلا أن الاٍشكال في حد ذاته باعتبار المنطق الأيديولوجي الذي يسيطر على البعض من المثقفين والذي لا يترك لهم المسافة الضرورية للمناقشة والتحليل بعيدا عن منطق الاصطفاف ، يبقى اٍلى الأن يراوح مكانه ، فالأطروحة التي تنادي بالعودة اٍلى التراث بدون ضمانات فكرية وسياسية تبقى أطروحة جامدة ، والأخرى التي تنادي بالتماهي مع السياق الغربي واجتزاء الحداثة والعلمانية من سياقها الثقافي والحضاري واٍسقاطها على السياق الاٍسلامي تضل هي الأخرى متسرعة وغير ناضجة ، النتيجة هي أن المسلمون سوف يعيشون فصولا أخرى من هذا الصراع الفكري/ الأيديولوجي قبل أن يهتدوا اٍلى ما أهتدى اٍليه الغرب كحل لمضلة الدين والسياسة أو الدين والدولة ، وبالتالي لمعضلة الدولة والقانون والشريعة .

هوامش:
1- نجيب بودربالة – القانون بين القبيلة والأمة والدولة – ترجمة محمد رزين – أفريقيا الشرق – 2015 – ص 201
2- محاضرة لعبد الله حمودي تحت عنوان سؤال المنهج في راهنيتنا – أنظر الرابط أسفله:
https://www.youtube.com/watch?v=_anrAK55Yf0
طه عبد الرحمن – سؤال المنهج – الفصل الأول: كيف نجدد التراث؟ في أفق التأسيس لأنموذج فكري جديد -المؤسسة العربية للفكر والاٍبداع – بيروت – لبنان –الطبعة الأولى سنة 2015 -ص 41 وما بعدها.
3 – أحمد السكسيوي – تمفصل بين الأيديولوجيا والقانون – موقع العلوم القانونية – MAROCDROT –
انظر الرابط:
https://www.marocdroit.com
4- الحدود في الإسلام تنقسم إلى نوعين ؛ منها ما يتعلق بالعلاقة بين العبد وربه ، وهي التي تسمى حدود الله مصداقا لقوله تعالى : ” تلك حدود الله فلا تعتدوها ” سورة البقرة الآية 229 وكذلك : ” ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ” سورة الطلاق الآية 1 ، ومنها ما يتعلق بالأحكام التي تنظم العلاقة بين الناس في المجتمع الإسلامي مثل قطع يد السارق أو رجم الزاني الثيب أو جلد الزاني العازب أو قتل القاتل الذي هو القصاص …الخ وهناك من الفقهاء من أدرج هذه الأحكام في ففقه العبادات بحكم كونها تندرج في صنف الأحكام القطعية وبحكم كونها تتعلق بحدود الله رغم أنه يندرج في صنف الجنايات والعقوبات وهو من المعاملات.
5 – محمد أركون -الفكر الاٍسلامي نقد واجتهاد – ترجمة هاشم صالح – لا فوميك – المؤسسة الوطنية للكتاب – الجزائر – ص 3.
6 يعتقد المسلمون باختلاف مستوياتهم الفكرية والسياسية أن نهضتهم من كبوتهم الحضارية الكبرى لن تتم بغير الرجوع اٍلى الأصول والمبادئ والثوابت التي عليها بنيت الدولة الإسلامية الأولى منذ عهد الخلفاء الراشدين أي أن الاٍسلام كعقيدة لا ينفصل عنه كدولة، وعلى هذا الأساس فهم رغم سقوط الخلافة الاٍسلامية في تركيا في سنة 1929، لايزالون ينتظرون عودتها من جديد، مع أنهم لا يمتلكون لحد الآن نظرية سياسية حول كيفية بناء وتدبير هذه الدولة الاٍسلامية، على مستوياتها المتعددة، ومن أين يجب أن تبدأ؟، وهل ستكون دولة اٍقليمية واحدة بنظام سياسي واحد؟ أم عبارة عن اٍتحاد مجموعة من الدول أو ما يسمى بالدولة الفيدرالية؟ وماهو دور كل من القانون والشريعة فيها؟ وهل سيتم استنباط الأحكام القانونية من الشريعة أم سوف يتم الاٍستمرار في اٍنتاج القانون الوضعي؟ هذه الاٍشكاليات أدت اٍلى اٍنبثاق خطين فكريين متناقضين هما: الخط الفكري الذي ينادي بالقطيعة مع التراث واٍعادة بناء الدولة الحديثة على أسس علمانية، والخط الفكري الذي ينادي بإمكان اٍعادة بناء دولة اٍسلامية حديثة قوامها الشريعة الاٍسلامية اٍنطلاقا من قراءة حديثة للتراث واٍعادة فتح باب الاٍجتهاد…الخ
7- محمد أركون -الفكر الاٍسلامي نقد واجتهاد – ترجمة هاشم صالح – لا فوميك – المؤسسة الوطنية للكتاب – الجزائر – ص 49
8- رياض الجوادي-العلمانية الغربية. إفلاس النّموذج والنّخبة (المثلية الجنسية مثلا) – مجلة مدونات الاٍلكترونية – أنظر الرابط:
https://www.aljazeera.net/blogs/2017/6/1
9- اٍسلام سعد – الاٍسلام السياسي وأزمات الهوية، والغرب، والحداثة – مؤسسة مؤمنون بلا حدود – أنظر الرابط:
https://www.mominoun.com/articles


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments