مغالطات وعجيبات!



الهدف

نشرت بعض المواقع الإلكترونية للناقد الأدبي السيد شعيب حليفي مقالا عبر فيه عن رأيه حول النقيشة التي تم اكتشافها أخيرا والتي تتضمن نصا تيفيناغيا واضحا. وغايتي من هذا المقال أن أنتقد تحيز شعيب حليفي لرأي المعهد الوطني للأركيولوجيا والتراث وأن أبين أن هذا التحيز معبر عنه بأسلوب يلعب على الالتباس، ومبني على فهم غير ناضج لحيثيات الاكتشاف وعلى قلة علم بالفيلولوجيا واضحة. هذه تفاصيل رأينا.

حسنات مقال حليفي

من حسنات ما دعا إليه السيد شعيب حليفي في مقاله مطلبان قويمان أسميهما بـ”المطلب العلمي” و”المطلب الوطني”. #المطلب_العلمي عبر عنه بالدعوة إلى “تكثيف الجهود من طرف الجهات الوصية استعانة بخبرة علماء الآثار وباقي التخصصات المرتبطة بالموضوع” من أجل استكمال كتابة تاريخنا. وعبر عن #المطلب_الوطني بالدعوة إلى جمع “شتات تاريخنا كما هو، بأقلامنا وحجرنا وترابنا وعظامنا وأرواحنا وعزّتنا وشرفنا، لا التاريخ الذي كتبه العقل الكولونيالي المغترب”. فهل هناك، في مجال كتابة تاريخ لغة من اللغات وثقافة من الثقافات أعظم وأقوم من الجمع بين “روح العلمية”، وما تثمره هاته الروح من التزام بالموضوعية والصرامة في التحقيق، و”الروح الوطنية”، بما تثمره هذه الروح من الرغبة في مواصلة العمل وبذل المشقة من أجل الكشف عن كل خبايا تاريخ الإنتاج اللساني والثقافي؟ هل يسع المرء إلا أن يتفق مع دعوة السيد شعيب حليفي إلى النهوض بهذين المسارين الديونتولوجيين القويمين؟

شبهات

إلا أن هاته الغيرة على القيم العلمية (بالدعوة إلى استكمال كتابة التاريخ) والقيم الوطنية (بالدعوة إلى كتابة التاريخ بأقلام وطنية) تعتورها بعض الشبهات، التي كان على السيد شعيب حليفي أن يجنب نفسه مظنة السقوط فيها حتى يبقى خطابه المنتصر لـ”العلم” و”الوطن” منزها عن كل مطاعن الدفاع عن الكرامة المجروحة للمعهد، بعد أن تبين خطؤه التام في فهم مضمون النقيشة بعد أن اعتبر النقيشة “شاهدا جنائزيا” فثبت بقاطع الدليل ودامغه أن المعنى المثبت فيها هو: “ورق الحليب/الجبن المُقطّر” ــ لا علاقة له بـ”الشواهد الجنائزية” و”المقابر” التي ربط النقيشة بها ورهنها بمتعلقاتها.

فلو كان السيد حليفي على معرفة قريبة بمضامين نصوص تيفيناغ القديمة لعلم أن افتراض المعهد بكون النقيشة “شاهد جنائزي” افتراض بعيد عن ما يدعو إليه هو من “استكمال كتابة تاريخنا” بروح العلم ومنطق التحري العقلاني: فهو افتراض مستبعد (مبدئيا) وبعيد على ما يهيمن على نقائش تيفيناغ من ثيمات ومضامين تكشف لنا عن مظاهر للثقافة الأمازيغية المادية والرمزية التي لا يمكن أن نعرفها إلا من خلال هذه النقائش. فمن خلال هاته النقائش نعرف أن الأمازيغ كانوا ينسجون الخيوط ويسمونها بـ /أشتو، أستو/، وأنهم كانوا يستعملون البكرات لإخراج المياه، وأنهم كانوا يستعملون الحقائب الجلدية لاستخراج الماء، ولخض الحليب، وأنهم كانوا يخصصون أماكن للتدرية يستعملونها أيضا كمجازر وأماكن لـ”بيع” المناغز وتصبين الملابس، وأنهم كانوا يستعملون الجبس، وأنهم كانوا يلتقون في أماكن واسعة من أجل التسوق، وأنهم يكتبون بأداة يسمونها “أولّاو”، وأنهم كانوا أحيانا يجففون ويطحنون الدودة القرمزية لاستعمالها في الكتابة، وأنهم كانوا يسخرون من الرومان بالرسوم الكاريكاتورية المرفوقة بالأبيات الشعرية الرمزية، وأنهم كانوا يتأملون في الحياة والموت والإله باستعمال الشعر، وأنهم كانوا يحتفلون بمجيء فصل الحصاد، وأنهم كانوا يكتبون شعرا ملحميا يفتخرون فيه بصيد أعتى وحوش الغابة كالفيلة، وأنهم كانوا يتوفرون على أمثال حكيمة كثيرة، وأنهم “يبيعون” اللبأ والجبن المقطر والشحوم والوقائد والمواقد، وأنهم كانوا يتأملون في تبدل أحوال الزمان كانقضاء الليل ومجيء النهار، وأنهم يكتبون شعرا مقفى ويجيدون استعمال الجناس اللفظي والتناسب الدلالي والبنيوي، وأنهم كانوا يرشدون المسافرين إلى أيسر الطرق وأسلمها من الخطر، وأن من قيمهم “العدالة”، و”الحكمة” و”التواضع”، و”التضامن” ومسالمة عابر السبيل، وأن تحيتهم كانت هي /أزول/. هذه هي الثيمات المهيمنة على نصوص تيفيناغ القديمة، نستطيع اليوم أن نكتشفها كما نكتشف ثيمات أي نص معاصر لنا مكتوب بلغة نفهمها ونجيد استعمالها.

فمما يؤسف له أن السيد شعيب حليفي أبان عن تحيّز لأطروحة المعهد الخاطئة بدون أي إعمال لمبضع النقد والمساءلة الذي هو مناط ما يدعو إليه من التشبث بـ”العلمية” التي يدعو إليها ويحث “الجهات الوصية” على ممارستها.. وبدون بذل بعض الجهد النظري والعملي في الاطلاع على ما كان يكتبه أجدادنا على الصخور مما يعترف المعهد أنه ليس على علم به أصلا.

تحيز

ومن مظاهر تحيز حليفي غير النقدي أنه افترض أن “الحجر قد يكون شاهد قبر أو غطاء له يخلد أثر رجل عظيم، فارس أو حكيم أو ساحر أو شاعر.” دون أن يُسائل المعهد إن كان قد شفَّر النص المكتوب في النقيشة ودون أن يتساءل إن كان المعهد يتوفر أصلا على ما يؤهله للقيام بالتشفير الفيلولوجي. فمعلوم أن التكوينات الأساسية للمعهد هي الأركيولوجيا، والأنتروپولوجيا المتحفية، وأعمال الحفظ والاستعادة، والتراث اللامادي، لا مكان بينها أصلا للفيلولوجيا واللسانيات اللذين هما مناط التشفير وضبط معاني النصوص القديمة. بل إن تكوينات الماستر في المعهد نفسها لا تخرج عن مجالات التاريخ الأركيولوجي لمنطقة غرب البحر الأبيض المتوسط، والميزوڭرافيا، والتنوع الثقافي. فكيف يساير حليفي العهد وأهله في المصادرة على كون النقيشة شاهد جنائزي، وهم ليسوا متخصصين في التشفير الفيلولوجي وغير قادرين على تحليل النصوص العريقة ولا يمتلكون أدوات ذلك؟

ولماذا لم تدْعُه “الروح الوطنية” التي يتحدث بها والغيرة التي عبر عنها إلى طرح التساؤل الجذري الذي ينبغي طرحه وهو: لماذا لا توجد تخصصات لسانية وفيلولوجية بالمعهد رغم أن أعظم ما نفتخر به في هذه الأرض هو النظام الكتابي الرائع الذي اخترعه أجدادنا، فعبروا به عن احتياجاتهم، وبثّوا ما كتبوه به من نصوص في صخور الأرض بالنقش، والنحت، والصباغة، حتى لا تكاد تخلو منها جهة من الجهات في ربوع بلدنا؟

أليس عدم إتقان القوم للتحليل الفيلولوجي هو الذي أوقعهم في التأويلات المضحكة لبعض اللقى والآثار، كما فعل مكتشفو نقائش إدا1 وإدا2 وإدا3، لهذه النقائش إذ أولوا صور النقائش على أنها توثيق لـ”مذنب ساقط” فثبت من خلال بيت شعري مكتوب بجانب الصور أن الأمر يتعلق بتصوير لشروق الشمس لا علاقة له بالمذنبات وبسقوطها. وكما حدث عندما أول المؤولون صورة نقيشة “عزيب نيكيس” على أنها صورة لـ”كائن مجنح”، فثبت بقاطع الدليل الفيلولوجي أن الأمر يتعلق بشخص يسخر مما يشبه صورة “القضيب” الذكوري، وكما يحدث اليوم إذا يؤول أهل المعهد النقيشة الجديدة على أنها “شاهد جنائزي”، بينما النص المكتوب عليها يتحدث عن “حليب/جبن مقطر”؟

ألم يكن حريا بالسيد حليفي أن ينضم إلينا لإنكار منكر هو عدم إدراج التشفير الفيلولوجي في تكويناته الأساسية لوضع حد لهاته المهازل “الأكاديمية”؟ ألم تكن 18 سنة من عمر المعهد كافية ليدرك أهله أنهم حرموا الوطن وأهله من أهم مقوم من مقومات وعيهم بهويتهم التاريخية والثقافية، أي ما أنتجه أجدادهم من نصوص عبروا بها عن أنفسهم، تماما كما عبر قدماء المصريين عن أنفسهم ففهمنا ثقافتهم بتشفير نصوصهم الهيروغليفية، وكما عبر الإتروسكان عن أنفسهم ففهمنا ثقافتهم من خلال تشفير نصوصهم اليوبونية، وكما عبر قدماء الشعوب الهندو أوروپية ففهمنا جزءا كبير من ثقافتهم من خلال استعادة لغتهم الأصلية بالحفر الفيلولوجي حتى في غياب نصوص لهم مكتوبة؟ … ألم يكن حريا بالسيد حليفي أن يلحق بهذا الركب النقدي الذي يسائل التغييب المنهجي المتحكم فيه أيديولوجيا والذي ينفر من دراسة المكتوب لأنه ينطلق من فرضيات عنصرية مفادها أن قدماء الأمازيغ لا يمتلكون من الذكاء العملي والتجريدي ما يؤهلهم للتعبير بخط هم مخترعوه ومطوروه وناشروه ومستعملوه؟

تحيز والتباس وقلة علم!

من أظهر مظاهر التحيز لطرح المعهد وأهله الذي أبان عنه السيد حليفي أنه افترض أن النقيشة المعنية موجودة “وسط مقابر قديمة مطمورة وبطريقة دَفن مغايرة في أماكن متعددة، آخرها مقبرة مخصوصة لأربعة دواوير: أولاد الكبير والرواونة وأولاد عزوز والزاوية. وغير بعيد عنها يوجد كركور يُعرف بقبر العبد وحوله حكايات عجيبة، بالإضافة إلى ما يجده الفلاحون من لُقى طينية لا يهتمون لها أو عظام لا شكل يشبهها من الإنسان أو الحيوان، ورماد كثير.

ولنا على دعوى الرجل ملاحظات وهي:

#أولا: أنه كلام مغرق في الالتباس المذموم والإجمال غير المثمر. من ذلك أنه لا يوضح ما يقصد إليه بالأوصاف: “قديمة” (فما زمانها؟ قبل الاسلام أم بعده؟ قبل العصر الروماني أم بعده؟)، و”طريقة دفن مغايرة” (مغايرة لِمَ؟) و”أماكن متعددة” (كم عددها؟ وما موقعها؟). فإذا كان مكان اكتشاف النقيشة مقبرة فقد كان بإمكان أهل المعهد، وهم أركيولوجيون، أن يعلنوا عن ذلك بوضوح، وأن يكشفوا عن ما اكتشفوه فيها من رفاة بشرية، ولقي جنائزية، كما فعلوا في أماكن أخرى لا يشتبه أحد في كونها مواقع جنائزية. فإذا كان أهل المعهد وهم مختصون في الحفريات لم يتجرؤوا على التصريح بجنائزية السياق، فكيف لحليفي أن يتجرأ على ذلك واختصاصه هو النقد الأدبي؟

#ثانيا: أنه لا يقدم معطيات ملموسة ولا يستدل على كلامه بعرض مكتشفات معلومة ذات كود علمي ييسر معرفتنا بمكان تواجدها، كما يفعل كل ناقل للعلم، بل يكتفي بالشائعات من قصص العوام والشاردات من أخبارهم كما تجد في قوله: “ما يجده الفلاحون من لُقى طينية لا يهتمون لها أو عظام لا شكل يشبهها من الإنسان أو الحيوان، ورماد كثير”. فعن أي “فلاحين” يتحدث الرجل؟ وعن أي “لقي طينية”؟ وإلى أي زمان تنتمي تلك “العظام”؟ وكيف لعظام أن لا يكون لها شبيه بين عظام بني البشر والحيوان؟ ألعلها “عظام” أهل “عاد” و”ثمود” التي نصادفها بين الفينة والأخرى في فيديوهات التيك توك؟ فهذا كلام عبثي ليس أعبث منه ما ادعاه أهل المعهد من أن النقيشة “لوحة جنائزية” رغم أن المكتوب الواضح عليها هو “ورق جبن التقطير” لا يشك في ذلك إلا جاهل أو جاحد.

#ثالثا: من الشواهد على عدم إلمام السيد حليفي بالمعطيات الأركيولوجية وتقوّلِه فيها بما لا يعلم أن كلامه لا يبتعد عن الالتباس المذموم والإجمال غير المثمر إلا إذا تحدث عن معطيات حديثة قد يشهد لها المرء برأي العين. من ذلك أنه استدل على وجود المقابر في السياق الأركيولوجي للنقيشة بـ”آخر” المقابر في المنطقة فأشار إلى “آخرها” وهي “مقبرة مخصوصة لأربعة دواوير: أولاد الكبير والرواونة وأولاد عزوز والزاوية”. فواضح من سياق الكلام أن الرجل يعتم على معنى لفظة “آخرها” التي لا يقصد بها سوى “مقبرة حديثة”، فلجأ إلى استعمال الضمير المتصل “ها” مشيرا به إلى المقابر القديمة التي لم يذكر منها أية مقبرة، حتى يولد انطباعا خاطئا عند القارئ مفاده أن سكان المنطقة كانوا يبنون المقابر في المنطقة واستمروا في ذلك إلى أن جاء الزمان الذي بنوا فيه “آخرها”. فيا له من تحايل في استعمال الكلام مخجل، وتمحُّل في الاستدلال مخزٍ!

#رابعا: من الشواهد على عدم اطلاع السيد حليفي على حيثيات اكتشاف النقيشة المعنية أنه لم يذكر في كلامه ما يدل على معرفته بالتعتيم الشديد الذي رافق اكتشاف هاته النقيشة والغموض الذي أحاط بتفاصيل الإعلان عنها. فأكد بدون استحضار لروح المساءلة النقدية على “تحقق تأكيد هذا الاكتشاف في مكانه بحضور فريق من خيرة المتخصصين المنتمين للمعهد الوطني لعلوم الآثار بالرباط”، دون أن يأخذ بعين الاعتبار المعطيات الحاسمة التالية:

1- أن صاحب النقيشة ادعى بدءا أنه اكتشف النقيشة في منطقة الولجة دكالة، فغير قوله، بعد أن أحرجت المعهد بمطالبتي له بالكشف عن اللقى الجنائزية. وصار يدعي أنه اكتشفها في سطات.

2- أن أرضية مدفن النقيشة في صورها الأولى كانت تبدو في مكان محاط بالأعشاب الدائمة الاخضرار، بينما أصبحت تبدو في صورها الأخيرة التي قيل إنها من سطات (في مكان جاف لا تحيط به الأعشاب الدائمة الاخضرار).

3- أن مما زاد في التعتيم على الصور الأخيرة أنها كانت، في أحسن الأحوال، باهتة اللون، و بالأبيض والأسود، في أسوئها، مما يلقى بشبهة الرغبة في التعتيم على المكان الأصلي للاكتشاف.

(4) أن مدفن النقيشة في الصور الأولى كان طبيعيا وعميقا شيئا ما. أما في الصور الأخيرة فقد كان أسلوب الدفن غير طبيعي إذا كانت تغطيته بالتراب مصطنعة ووضعية الدفن مفتعلة.

هذه ملاحظات نقدية كان على السيد حليفي، لو كان على علم بحيثيات الاكتشاف، ولو كان يمارس واجبه الفكري في النقد والتساؤل، أن يطرحها، كما فعلنا، وأن يطالب المعهد بتقديم توضيحات حولها، كما فعلنا، بدل أن يلجأ إلى أسلوب “المدح” و”التقريظ” الغريبين عن الثقافة الأمازيغية المعروفة بتفضيلها للنقد والتشكيك والمساءلة، ونفورها من لعق أنعلة النافذين المتنفِّذين.

أسطورة

ولربما تأثر السيد حليفي بالأسطورة التي روج لها المعهد وأهله والتي مفادها أن “الكتابة الليبية البربرية” القديمة (كما يسمونها نَقْلاً عن ناقل عن ناقل عن ناقل، دون اعتمال للعقل وتشغيل لملكة النقد)، يقصدون بها تنويعات تيفيناغ المتعددة، بشرقيها وغربيها وصحراويها، -الأسطورة التي مفادها أن هذه الكتابة مستغلقة، لا نعلم القيم الصوتية لڭرافيماتها، ومبهمة لا نعلم معانيها ومدلولاتها، فيزيد من استغلاق حرفها وإبهام معانيها، أن اللغة الأمازيغية القديمة، في زعمهم، قد بادت واندثرت فلا نرجو استعادتها. هذه “عقيدة” من “عقائد” المعهد، و”دوغما” من “دوغمائياته” يتشبثون بها تشبث الوثني بـ”آلهته” ويحرقون “بنات” عقلهم أمامها كما يحرق عَبَدة الطاغوت فلذات أكبادهم أمام عظيم “آلهتهم”- سبحان الحقيق بالعبادة عما يصفون.

ولو سمح لي المقام لأجزلت في تبيان مغالطات هاته العقائد وهي كثيرة، وأوجه الفساد فيها فهي عديدة. من أوجه هاته المغالطات التي روج لها جهال المعهد ومُدّعوه أننا “لا نعرف من القيم الصوتية لحروف تيفيناغ القديمة سوى أربعة لا تكفي لتشفير النقائش القديمة”. والصواب أن الحروف الأربعة (بل الستة) التي ما فتئ أهل المعهد يرددون أنها الوحيدة التي نعرف قراءتها هي تلك التي علمنا قيمتها الصوتية من مقارنة التنويعات غير الليبية بغيرها، بعد أن قارنا النص الأمازيغي بالنص البونيقي في مسلة توڭا الشهيرة. لكن مما لا يذكره هؤلاء المدعون أن آليات اكتشاف القيمة الصوتية للحروف القديمة المستغلقة ليست هي “مقارنة لغة معروفة بلغة غير معروفة” فقط، بل هناك آليات أخرى فعالة استعملها الفيلولجيون ومارسوها وأتقنوا استعمالها، كتقنيات مقارنة الأشباه والنظائر، وتقنيات تقدير السمات الإيجابية المقارنة في تطور الحروف، وتقنيات التوزيع الدياليكتولوجي الموسع في التنويعات المعاصرة، واعتبار تأثير العمليات الفونولوجية، وجدولة الألفاظ المكررة، وجدولة توزيع التنويعات، وبناء معجم الجذور المشتركة، ورصد السمات الأسلوبية غير الاعتباطية (كالجناس، والعروض، والتقفية وغير ذلك).

فبفضل كل هاته التقنيات استطعنا أن نتوسع بمعرفتنا للقيم الصوتية للحروف إلى مستوى ضبطها في تنويعات مختلفة، واستطعنا إعادة نطق جزء كبير من المعجم الأمازيغي القديم، واستطعنا قراءة نصوص قصيرة استعملها أجدادنا في التشوير الطرقي، ونصوص طويلة نسبيا اتخذت طابعا شعريا، فتذوقنا قوافيها، وجناسها اللفظي، واستعاراتها، وبحور شعرها، حتى أصبحنا قادرين على التغني بها كما تغنّى بها القدماء، وفهمنا بها جزءا من فلسفة أجدادنا في الموت والحياة، واكتشفنا من خلالها وجود سواق لم نكن نعرفها، وأماكن أسواق كنا نجهلها كان يقايض فيه أجدادنا البضائع، وما كان يوجد في محيطهم من برك ماء جفت ولم يعد لها أثر.

أعجب عجيبات المعهد

إلا أن من أعجب عجيبات المعهد وأهله أنهم لا يبذلون أي جهد فكري يذكر في التقدم بفهمنا لألفاظ نصوص تيفيناغ القديمة وتراكيبها ومعانيها وقِيَمها التداولية. فمنذ أن افتتح المعهد سنة 1985، وهم لا يتوقفون على ترديد نفس الأسطوانة المشروخة: هذه قديم فلا يُقرأ، هذا قديم فلا يُقرأ، هذا قديم فلا يُقرأ.. فلا يعرف المرء متى يُقرؤون قديم تراثنا الأمازيغي، كما قرأ المصريون قديم تراثهم الهيروغليفي، وكما قرأ الأوروبيون قديم تراثهم الترسكاني والهندو أوروبي، وكما قرأ السومريون قديم تراثهم المسماري.. فإذا طال الأمد بتيفيناغ وهي متوارية وراء استغلاقها بحيث لا يستطيعون أن يقرؤوا منها إلا أربعة أحرف قرأها لهم غيرهم، فما جدوى المعهد، ولماذا يصرف عليه ما يصرف من أموال دافع الضرائب؟

هذا بالضبط هو ما نعيبه على المعهد وأهله ونلومه عليه… فلا يسمحنَّ السيد حليفي وغيره لهاته المؤسسة أن تستخدمه للتغطية عن فشل شنيع في مهمتها.


1 Commentaire
Inline Feedbacks
View all comments
سوس .م .د

العرب و المستعربين دخلوا سوق الأمازيغ . لهن إحساس بأنهم غرباء فلجؤوا إلى السرقة و التزوير لغلط الأوراق و المفاهيم .على الأمازيغ أن يكونوا على يقظة و أن يحاربوا هذا التكالب الهمجي على أرضنا و تراثنا الأمازيغي . العرب في خطر بين عقلهم المعطوب وثقافتهم البائدة من جهة و بين خطر إيران و تقلبات العالم الجيوسياسية لذا يلجؤون لكل الوسائل للسطو على أرض وحظارة سكان شمال أفريقيا .