التضامن في سوس…العبر والدروس
لا أعرف لماذا فكر السوسيولوجي الراحل، محمد جسوس، وهو إبن أسرة فاسية معروفة، أن يختار انجاز أول اطروحة في علم الاجتماع بجامعة كندية سنة 1960، تحت عنوان” حضارة القبيلة في المغرب: سوس نموذجا”. هل اختيار ذاك العالم السوسيولوجي الفاسي سوسا لينجز حوله أول بحث في مساره العلمي، كان اعتباطيا.
هذه إشارة إلى أن عين السوسيولوجي لاحظت، أن نموذج سوس في الحضارة يجب أن يدرس ويستحق أن يكون ورشا بحثيا لتطوير وتجريب نظريات في علم الاجتماع والانسان والتاريخ، وهو يقصد أن يجمع كل هذه الحقول في مفهوم الحضارة. واكبر ملامح هذه الحضارة التي تأسست عليها حياة المجتمع أو ما يسميه ابن خلدون بالعمران البشري الذي تجسده القبيلة كمؤسسة ونظيمة اجتماعية، هي ملامح التضامن. وما يعرف بتيويزي.
التضامن في سوس، افقيا وعموديا، لم يحظ بعد بالاهمية التي يستحقها في البحث عن الأصول وتفسير الامتداد، لأن الظاهرة فعلا، مغرية وجذابة من حيث السؤال المعرفي. فكلما انتشرت مظاهر الفردانية والتمدن والانانية نتيجة توغل التحديث ومبادىء الرأسمالية التي تشجع الفرد، إلا وتستمر قيم التضامن داخل المجتمع، قيم تقاوم انجراف المجتمع نحو الفردانية، بالرغم من التحولات الكبرى التي تعرضت لها البنيات الثقافية بفعل طبيعة النظام التعليمي وارتفاع وثيرة الهجرة وتمركز السلطة وتفشي البيروقرلطية وانتشار الإنتهازية الحزبية، أمام كل هذا تظهر قيم التآخي والتضامن و روح الجماعة وتطفو إلى السطح خاصة في خضم الأزمات، لتؤكد على أنها قيم متجدرة في المجتمع وراسخة في الذهنيات عبر التاريخ.
تتبعنا رجال المال والاعمال والتجارة، الذين ينحدرون من سوس، كيف ساهموا ماديا وبمبالغ كبيرة جدا في صندوق مكافحة فيروس كورونا، البعض تناولت الصحافة اسمه والمبلغ الذي ساهم به، في حين أن الأغلبية لم يقم بتذييع مساهمته، وشاهدنا ايضا الشاحنات ذات الوزن الثقيل كيف شحنت بمواد غذائية مختلفة، وانطلقت من مختلف المدن من مكناس وفاس والرباط والدارالبيضاء إلى بوادي سوس، وهي مبادرات تضامنية من طرف رجال الاعمال والتجار السوسيون، كما جاءت شاحنات أخرى من العيون وطانطان محملة بكميات كبيرة جدا من الدقيق والسكر والزيت والحليب والشاي متجهة الى بوادي ايت باعمران، ورأينا كذلك كميات هائلة من المواد الغذائية المختلفة من أكادير عبر مؤسسات مدنية يسهر عليها تجار ومقاولون كبار معروفون في المنطقة، ونفس الشيء بالنسبة لتجار مدينة تزنيت، كما توجد عشرات من المبادرات لم يعلم بها أحد. هذه العمليات ليست بعمليات التضامن البسيطة وإنما هي عمليات كبيرة صرفت عليها اموال طائلة. صحيح ان اغلب رجال سوس يملكون مطاحن ومعامل وشركات تنتج مواد غذائية، ولكن تكلفة الإنتاج هي نفسها. حتى وان المجالس المنتخبة في كثير من المناطق على خريطة سوس الكبير، انفردت بطرق واشكال تضامنية مع ما هو سائد في المناطق الأخرى.
كيفما كانت الاسباب والخلفيات، إلا أننا يجب التنويه بهكذا الاشكال التضامنية والنظر اليها دائما من زاوية النبالة وحسن المعاملة، لتكون ذات قاعدة تضامنية قارة وليست استثنائية، واخراجها من جلبابها الاحساني إلى فعل اجتماعي انساني تصامني يوزع على من تتوفر فيه الشروط، حتى لا يخلق نوعا من الاتكالية داخل المجتمع.
قيم التضامن هاته، ليست وليدة اللحظة في سوس، وإنما هي راسخة منذ القدم وشكلت رابطا من راوبط اللحمة والانتماء لدى جل ابناء سوس، فقد نهض ابناء سوس في العقود الأخيرة بانجاز مشاريع تنموية رائدة خلال الثمانينات و التسعينات القرن الماضي، حتى أن الدولة المغربية قامت باستعارة مشروع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية من رحم تجارب تنموية في بوادي سوس. وخبراء التنمية يدركون هذا جيدا، والذين اشتغلوا مع الراحلة زوليخة الناصري في هذا المجال، التي كانت تنتقل بين بوادي ومداشر سوس لاستنباط الاسلوب والتجارب التنموية الناجحة التي أنجزتها جمعيات بدون اي تدخل للدولة.
يقال انه في نهاية الستينيات جاء وفد الخبراء من اليابان لانجاز دراسات حول فرص النمو والتنمية والاقلاع في المغرب، زاروا عدة مناطق، ومن بين الخلاصات التي دونوها، هي انتباههم إلى الدينامية الاجتماعية والثقافية في سوس وحيوية العنصر البشري، خاصة المهاجرون الى بعض المدن الكبرى، وقالوا والله أعلم أن بعض خصال هؤلاء في العمل والالتزام يشبه كثيرا الانسان اليباني.
نقول هذا الكلام، ليس هدفه التمييز بين المغاربة، وإنما نريد ابراز بعض الخصوصيات الثقافية التي تتميز بها منطقة سوس، قصد استثمارها فيما هو أفضل في المستقبل خدمة للانسان والوطن.
مناضل أمازيغي وإعلامي وكاتب وباحث في التاريخ