أمازيغيتنا المغلوب على أمرها
شاءت الأقدار أن ينتهي الأمر بالأمازيغية إلى هذه الحال من الاستصغار والدونية من جانب مؤسسات الدولة، بعدما اعتقد الجميع أنها حققت مكتسبات دستورية ستجعلها محلّ احترام المغاربة وتقديرهم، حال تقترب من اعتبارها “عارا” يدنّس شرف الإنجازات ويتعين أن يتخلص منه المسؤول دون إثارة انتباه أحد، وها هي الأمازيغية أضحت كرة تتقاذفها أقدام من يفترض أن ينصفوها، بغير قليل من الدقة في التسديد نحو سلة المهملات.
استدعى استكمال الإجراءات التشريعية قرابة عقد من الزمن، وهي مدة لا يمكن إلا أن تكون دليلا على تملصات وتأجيلات متكررة، تارة باسم ضخامة القضية وتجاوزها للاجتهادات الحكومية، وتارة باسم البحث عن الإجماع الوطني ضمن مقاربة توافقية مواطنة. اليوم وبعد أن تم “الخلاص” وربحت جيوب المقاومة التي تتوجس من الأمازيغية شوطا زمنيا طويلا وانحسارا أكبر للغة الأمازيغية، ألم يأن لهؤلاء أن يكفوا وينتهوا؟؟
صحيح أن ما وصلت إليه الأمازيغية إنما هو نتاج عوامل عدة، ولكن عندما نعلم أن الأمازيغية كانت غير مرحب بها في السياسات العمومية للدولة المغربية منذ الاستقلال إلى مرحلة “المصالحة الجزئية” خلال بداية الألفية الجارية، بدءا بخطاب أجدير وتأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وانتهاء بإنشاء القناة الثامنة مرورا بإدماج اللغة الأمازيغية في المنظومة التربوية، حقّ لنا أن نزعم أن ما آلت إليه الحقوق الأمازيغية خلال العقدين الأخيرين إنما يعزى إلى التراجع الكبير للفعل المدني الأمازيغي وعجزه عن مواكبة التغيير.
لقد ظل الفعل الجمعوي الأمازيغي وفيا لصراع زعماتي غير معلن، يفرخ الإطارات وينتصر للمصالح الشخصية، تناسلت “الكائنات الجمعوية” فأصبح النسيج الجمعوي الأمازيغي غثاء أحوى، تائها في الصراعات الجهوية وخوض المعارك الجانبية بالنيابة، فانعدم التخطيط الاستراتيجي لاتساع الهوة بين المواقف والرؤى، وجزم الكثيرون أن تدبير الاختلافات أقرب إلى المستحيل ليصبح الفعل الجمعوي مميعا بشكل كبير، كما ظل الفعل الجمعوي الأمازيغي وفيا لطابعه الثقافوي منغلقا على ذاته عاجزا عن التجديد والتحديث الذي يفرضهما السياق الجديد.
لن نبالغ لو قلنا إن الأمازيغية تحتضر في مؤسسات الدولة، وعوض أن تقوم بخطوة إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام كما عهدنا أن نسمع، قامت الأمازيغية بخطوة محتشمة إلى الأمام خلال “المصالحة الجزئية” التي أشرنا إليها سلفا لكنها عادت خطوات كثيرة إلى الوراء بالنظر، إلى حجم التراجعات التي أضحت موضة السلطات الحكومية والعمومية.
في المنظومة التربوية، وبعدما كنا نطمح إلى أجرأة التزامات الوزارة في هذا السياق خصوصا مبدأ التعميم الأفقي والعمودي، وجدنا أنفسنا أمام تخصيص مدرسي اللغة الأمازيغية بنسب مجهرية من حصيص موظفي الأكاديميات، وجدنا أنفسنا أمام وقف تام للتكوينات والتكوينات المستمرة، وجدنا أنفسنا أمام تكليف مدرسي اللغة الأمازيغية بتدريس مواد أخرى قسرا وجبرا، وجدنا أنفسنا أمام تغييب مقررات اللغة الأمازيغية في مبادرة “مليون محفظة”، وجدنا أنفسنا أمام رؤية استراتيجية تتغيى “التواصل” عوض “التمكن” الذي خصت به كل اللغات الأخرى، في الأخير، وجدنا أنفسنا أمام غياب استراتيجية وزارية تجبر ضرر اللغة الأمازيغية وتلتزم بمقتضيات الوثيقة الدستورية.
منظومة الإعلام، ليست أحسن من سابقتها، فقد انخرطت القناة الثامنة المسماة عنوة “تامازيغت” في لهجنة اللغة الأمازيغية بشكل صريح وعلني وأصبحت معرضا مقيتا للترجمة الرديئة التي نجحت في إعدام الإبداع وفتحت الباب على مصراعيه للاستيلاب، قناة تهتم بكل شيء عدا تطوير اللغة التي تحمل اسمها، قناة أضحت ملتقى الجشع والاغتناء السريع عبر الصفقات المشبوهة أخلاقيا، والأمر لا يتوقف عند هذه القناة التي لم تبرح مرحلتها الجنينية، فالقنوات والإذاعات الأخرى لا تحترم ما ورد في دفاتر التحملات لكن السلطات الإعلامية لا ولن تحرك ساكنا بما أن الأمر يتعلق -فقط- باللغة الأمازيغية.
ما قيل عن منظومتي التعليم والإعلام يسري على منظومة العدالة، ويسري على منظومة الصحة، ويسري على منظومة الشؤون الإسلامية، وعلى غيرها من القطاعات الحيوية التي يفترض أن يشعر المغاربة أنها تخدمهم، وهو وضع خطير نهوّل منه ومن تبعاته التي لها ما بعدها، إن حساسية وضع الأمازيغية في العشرية الأخيرة لا يقل خطورة عن جائحة كورونا التي عبّأت لها الدولة كل الموارد، ولن نبالغ لو قلنا إن إنقاذ وإنصاف الأمازيغية لم يعد مسؤولية الحكومة التي تقارب القضايا مقاربة انتخابوية سياسوية، بل مسؤولية كل الضمائر الحية التي تؤمن بمغرب التعدد والتنوع، وتسعى إلى ترسيخ قيم التسامح والتعايش التي ميّزت بلدنا عبر التاريخ.
أستاذ متخصص في اللغة الامازيغية ورئيس المنتدى الامازيغي للصحافة والاعلام والكاتب العام الوطني لكنفدرالية جمعيات مدرسي اللغة الامازيغية بالمغرب