نموذج تنموي جديد في ثوب قديم
بعد قرائتنا للتقرير العام الذي اصدرته لجنة النموذج التنموي الجديد، اتضح لنا أنه تقرير عادي جدا ولم يرق إلى التطلعات والرهانات التي تفرضها اللحظة السياسية التي يعيشها المغرب على الاقل منذ إندلاع حراك الريف بعد الانتخابات التشريعية لسنة 2016.
أولا تم إصدار التقرير في صيغتين، الفرنسية والعربية، وتم تغييب تام ومقصود للصيغة الأمازيغية بحروفها تيفناغ، وهي اللغة الرسمية في الدستور. وبالتالي يجسد التقرير في روحه التعاقد السياسي القديم الذي يعود لسنة 1944 بين الحركة الوطنية ذات التوجه الديني السلفي وفرنسا ثم المخزن. هذا التعاقد السياسي هو المهيمن في المغرب منذ ذلك الحين إلى الآن، ويتمثل في العروبة والفرنسية. بمعنى أن الاستعمار الفرنسي والإسباني بعد عناء وشقاء طويل مع المقاومة الأمازيغية بزعامة القبائل والروح المغربية الحقيقية، في الريف والأطلس والسهول والصحراء والواحات.. بعد حوالى 20 سنة ونيف من الحروب والمقاومات الأمازيغية المستمرة، عملت الإدارة الاستعمارية على خلق نخبة وحركة بورجوازية حضرية متشبعة بفكر العروبة َالسلفية وإعدادها للحكم في مرحلة مابعد الاستقلال، واتضح ذلك بعد اتفاقية إيكس – ليبان.
إذن جوهر الصراع حاليا في المغرب يستمد جذوره التاريخية من لحظتين فارقتين في تاريخ بناء ما يسمى بالدولة الوطنية بالمغرب وهما التعاقد الهش في 1944 ثم الاتفاق المقوض إيكس ليبان. ويتمثل ذلك في إقصاء الامازيغ من الحكم ورميهم في الهامش بعد تفكيك مؤسساتهم وتفتيت منظومتهم القانونية التي يسميها دعاة السلفية الوطنية بأعراف الجاهلية.. وكانت أول ردود فعل الامازيغ عن تلك السياسية الجديدة هي انتفاضة عدي اوبيهي بالريش سنة 1957 ثم انتفاضة الريف سنتي 1958 / 1959 وانتفاضة زمور… وما يدل على أن أزمة الأمازيغية ظلت مستمرة وتتخذ ابعادا سياسية أكثر شمولية وتسائل قضايا السياسة والقرار حقوق الجهات وقضية الثروات .. هو قيام حراك الريف في مدينة الحسيمة أواخر سنة 2016 بعد انتخابات تشريعية فاز فيها حزب الدولة والسلطة بحصة كبيرة في الحسيمة وكان رموزه من الريف…
للأسف الشديد بالرغم من كل ما تحقق لصالح الأمازيغية في المغرب، عمد تقرير اللجنة على القفز عليه وردمه في الرمال، باقصائه اللغة الأمازيغية في كتابة التقرير…
أكثر من ذلك تعاملت اللجنة مع هوية المغرب الأمازيغية بنوع من التقزيم والاقصاء، حيث اعتبر التقرير ” وباعتبار المغرب مزيج فريد من نوعه لعدة روافد ثقافية؛ العربية الإسلامية، والأمازيغية والافريقية…” ص 10. وهذا ترتيب اقصائي مقصود، بل وعنيف في حق هوية المغرب وحضارته. ويجسد تناقضا صارخا سقط فيه التقرير، الذي يتبجح بعراقة تاريخ المغرب وتنوعه وتبني التقرير منهجية الزمن الطويل في الاعداد والتركيب والتناول الذي اتبعتها اللجنة. فكيف يتم حصر هوية المغرب وثقافته بدخول العربية والاسلام… ثم أن التقرير أخطأ أيضا في اعتبار الأمازيغية “رافد”، فهذه تصورات وحكايات قديمة كنا نعتقد أن لجنة النموذج التنموي لن تسقط في فخ اجترارها، وستتبنى الصراحة التي قالت بأنها ستعتمد عليها في المنهجية والمقاربة..
بخلاصة لجنة النموذج التنموي تبنت اطروحات اقصائية عتيقة في حق هوية المغرب وفي حق الأمازيغية تحديدا… وكنا قد نبهنا إلى ذلك منذ الإعلان عن تنصيب شكيب بنموسى رئيسا لها، فهو الذي ارتبط اسمه بدعوى قضائية مؤلمة وقاسية في حق الامازيغ بالمغرب وفي شمال إفريقيا، حين عمد على رفع دعوى قضائية لحل الحزب الديموقراطي الامازيغي المغربي في غشت 2007 حين كان وزيرا للداخلية، وهي الدعوى التي سماها المرحوم الاستاذ الحسين الملكي بدعوى “الميز العنصري”. ولم يتمكن بنموسى الذي درس الهندسة في فرنسا وشغل منصب وزارة الداخلية حكومة عباس الفاسي، وبعدها عاد إلى فرنسا سفيرا للمغرب ثم بعد انتفاضة الامازيغ في الريف بسبب الاقصاء والتهميش والحگرة، وتسببت تلك الانتفاضة في زلزال سياسي أدى مرة أخرى لاعادة شكيب بنموسى السفير والوزير إلى رئاسة لجنة النموذج التنموي الجديد… ومرة أخرى للأسف طلع علينا تقريره بدون أمازيغية نهائيا وبالتالي فهو تقرير لم يأت بالجديد وإنما تؤطره فلسفة الحركة الوطنية وروح معاهدة إيكس ليبان.
وجدير بالذكر، أن التقرير العام للنموذج التنموي الجديد، لا يختلف عن التقارير التركيبية الأخرى التي تصدرها مجالس ومؤسسات رسمية تابعة للدولة مثل مندوبية التخطيط والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي وتقارير المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وتقارير التنمية بشكل عام وبعض تقارير لمؤسسات دولية كالبنك الدولي وتقارير لجان الأمم المتحدة. التقرير طغى عليه التشخيص والوصف الكثيف ولم يتطرق إلى منابع الخلل التي أدت إلى فشل النموذج التنموي القديم وفشل البرامج والمخططات التي قامت بها الدولة منذ 20 سنة…التقربر توفق ونجح في التشخيص وأكد على وجود أزمات داخل الدولة والمجتمع، اتساع الفوارق وانتشار الاقصاء الاجتماعي والفقر والظلم.. عدم ثقة المواطن في الدولة ومؤسساتها. لكن للأسف لم يرصد التقرير الأسباب الحقيقية التي ادت إلى ذلك، من بينها احتكار الثروات والموارد الطبيعية كالفوسفاط والذهب والفضة والسمك.. واحتكار السلطة والنفوذ والهيمنة على الدولة وخيراتها ثم غياب ارادة لإصلاح سياسي ومؤسساتي حقيقي..لم يتحدث التقرير عن الكرامة والحرية والعدل والديموقراطية…
التقرير أفضى إلى اقتراح تشكيل “ميثاق وطني للتنمية” وهذا دليل آخر وأخير على أن المهندس شكيب بنموسى لم يتخلص من عباءة ملهمه وزعيمه الروحي شيخ التقنوقراطيين المغاربة المرحوم عبدالعزيز مزيان بلفقيه مؤسس الميثاق الوطني للتربية والتكوين سنة 1998 والذي ادخل منظومة التربية والتكوين ببلدنا في متاهات الإصلاح التي لم ولن تنته.
فالتنمية لابد لها من تعاقد سياسي واجتماعي جديد مبني على روح المصالحة بين الدولة المجتمع والمصالح التامة والشاملة مع الحضارة والثقافة الأمازيغية.
ع. بوشطارت
مناضل أمازيغي وإعلامي وكاتب وباحث في التاريخ