لأي شيء ينفع إقرار اللغة الأمازيغية بـ”ويندوز 8″ في غياب لتدريس هذه اللغة؟
لقد تم التهليل، وعن حق، باعتماد اللغة الأمازيغية في برنامج “ويندوز 8” الذي تصدره شركة “مايكروسوفت”. هذا الاعتماد ذو أهمية كبيرة تتجاوز ما هو رمزي، لأنه أولا صادر عن شركة عملاقة في مجال تكنولوجية المعلوميات، ولأنه ثانيا جاء في الوقت المناسب، أي المتزامن مع الترسيم الدستوري للغة الأمازيغية بالمغرب، ولأنه ثالثا سيجعل اللغة الأمازيغية، حاضرة في كل مكان بالعالم عبر حضور “ويندوز 8” الذي يحتوي لوحة مفاتيح للغة الأمازيغية بحرف “تيفيناغ” بجانب الحرف اللاتيني.
بغض النظر عن الأهمية الرمزية الكبيرة التي يكتسيها اعتماد اللغة الأمازيغية في “ويندوز 8″، وبغض النظر كذلك عن الاعتراف العالمي العملي بها عبر استعمالها في آخر مستجدات برامج تشغيل الحاسوب، هناك سؤال أودّ طرحه ومناقشته: لأي شيء سينفع إدماج اللغة الأمازيغية في “ويندوز 8″؟
الجواب طبعا هو نفسه الذي نجيب به عن السؤال حول جدوى إدماج العربية أو الفرنسية أو اليابانية أو الإنجليزية أو الفرنسية، أو أية لغة أخرى، في “ويندوز 8”.
ينفع إذن هذا الإدماج لاستعمال تلك اللغة في الكتابة والقراءة بها عبر استخدام الحاسوب.
سأتوقف هنا عند لفظي “الكتابة” و”القراءة”.
فمن يستطيع اليوم كتابة وقراءة نص بالأمازيغية باستعمال لوحة المفاتيح الخاصة بالأمازيغية التي يوفرها “ويندوز 8″؟
الجواب طبعا هو نفسه الذي نجيب به عن السؤال حول من يستطيع كتابة وقراءة نص بالعربية أو الفرنسية أو اليابانية أو الإنجليزية أو الفرنسية، أو أية لغة أخرى، باستعمال لوحة المفاتيح الخاصة بتلك اللغة، والتي (اللوحة) يوفرها “ويندوز 8″؟
يستطيع الكتابةَ والقراءةَ بها كلُّ من درس تلك اللغة في المدرسة ـ وليس من تعلمها في البيت أو الشارع ويجيد استعمالها الشفوي فقط ـ لمدة كافية تمكّنه من ضبط استعمالها الكتابي.
وبعودتنا إلى السؤال الأول حول من يستطيع اليوم كتابة وقراءة نص بالأمازيغية باستعمال لوحة المفاتيح الخاصة بالأمازيغية التي يوفرها “ويندوز 8″، يكون الجواب إذن: يستطيع ذلك كلُّ من درس اللغة الأمازيغية في المدرسة ـ وليس من تعلمها في البيت أو الشارع ويجيد استعمالها الشفوي فقط ـ لمدة كافية تمكّنه من ضبط استعمالها الكتابي.
ومَن هذا الذي درسها في المدرسة، ولمدة كافية تمكّنه من استعمالها الكتابي السليم؟
لا أحد. نعم أقول “لا أحد” لأن تدريس الأمازيغية لم يُشرع فيه بعدُ، بالشروط التربوية واللوجيستيكية والسياسية التي يتطلبها تدريس لغة ما. وليس من الضروري أن يكون المرء مختصا في علوم التربية ليستنتج أن تدريس الأمازيغية لم يبدأ بعدُ بالمعني الكامل والحقيقي للفظ “تدريس”، إذ يكفي أن نلاحظ أنه بعد تسع سنوات (يُزعم أن هذا التدريس انطلق في شتمبر 2003) من التدريس المُدّعى للأمازيغية لا نجد تلميذا واحدا قادرا على تحرير رسالة بالأمازيغية، مع أن المفترض في من درس لغة كل هذه المدة أن يكون قادرا، ليس على كتابة رسائل بها فحسب، بل على تدريسها كأستاذ لهذه اللغة نفسها.
وهذا أحد الاختلافات الجوهرية بين الاستعمال الشفوي للغة والاستعمال الكتابي لها. فالأول لا يحتاج إلى تدريس لأنه يكتسب في البيت أو في الشارع وبدون معلم مختص. أما الثاني فلا يكتسب إلا بالتدريس وعن طرق معلم مختص. وبدون تدريس جدي وحقيقي للأمازيغية، تقف وراءه إرادة سياسية جدية وحقيقية كذلك، لن يتمكن المغاربة من كتابة اللغة الأمازيغية وقراءتها، مهما توفرت الوسائل التقنية المتطورة لتسهيل هذه الكتابة والقراءة، مثل لوحة المفاتيح الخاصة باللغة الأمازيغية لـ”ويندوز 8″.
الشرط الأول إذن للاستعمال الكتابي للأمازيغية هو تعميم وإجبارية تدريسها بعد توفر إرادة سياسية حقيقية لذلك، كما سبقت الإشارة، كشرط لنجاح هذا التدريس، ولتجاوز زمن الاستخفاف بالأمازيغية الذي عرفه ما يدعى بتدريس الأمازيغية منذ 2003.
وقبل إقرار اللغة الأمازيغية من قبل شركة “مايكروسوفت” في برنامجها “ويندوز 8″، سبق لشركتي “اتصالات المغرب” و”سوني إريكسون” أن طرحتا في الأسواق المغربية، ابتداء من خامس يوليوز 2007، هاتفين نقّالين باللغة الأمازيغية يستعملان حروف “تيفيناغ”، بعد أكثر من سنة من العمل الدقيق والمتواصل بمراكز البحوث والنشاطات التطويرية التابعة لـ”سوني إيريكسون”، وبتعاون تام مع خبراء اللغة الأمازيغية من المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. فماذا كانت النتيجة؟ لا أحد اقتنى هذه الهواتف، وضمنهم النشطاء الأمازيغيون المدافعون عن الأمازيغية أنفسهم، رغم عملية الإشهار الواسعة التي صاحبت تسويق هذه الهواتف. لماذا؟ لأن الفائدة من اللغات المبرمجة للهواتف النقالة هو إمكان كتابة وقراءة رسائل س.م.س s.m.s بها. وهنا نصطدم بالعائق الذي تمثله الكتابة بالأمازيغية، وهي ليست عائقا إلا لأنها لم تدرّس للمغاربة حتى يصبح استعمالها الكتابي ممكنا ومتيسرا. وحتى الذين يجيدون الكتابة بالأمازيغية بعد تعلم ذاتي ومجهود شخصي وعصامي، لم يشتروا هم أنفسهم تلك الهواتف. لماذا؟ لأن الذين يفترض أن هؤلاء سيتواصلون معهم عبر رسائل س.م.س مثل أولادهم وزوجاتهم وأقربائهم وأصدقائهم، لا يجيدون الكتابة بالأمازيغية، وبالتالي لن يفهموا الرسائل التي ستصلهم من الأولين ولا يعرفون الإجابة عنها بنفس اللغة. مما جعل الفائدة من هذه الهواتف معطّلة والجدوى منها عديمة.
وهكذا، ففي غياب تدريس جدي للأمازيغية، وبالشروط المطلوبة في أي تدريس، فإن كل الوسائل التقنية الموجهة لخدمة هذه اللغة في مستواها الكتابي، مثل الهاتف النقال أو لوحة المفاتيح، تبقى مجرد أدوات تروق بتقنيتها وجمال صنعها (ما يسمى بالفرنسية والإنجليزية Gadget) وليس بفائدتها العملية التي تبقى غائبة.
إذا كان النقاش الخاص بتدريس الأمازيغية واستعمالها الكتابي يُطرح قبل يوليوز 2011 في إطار “هوايتي”، سواء تعلق الأمر بموضوعات أكاديمية وعلمية مثل المنهجية الملائمة لتدريس الأمازيغية بالشكل الذي يجعل منها لغة معيارية، أو بسجالات إيديولوجية مثل الفائدة من تدريس الأمازيغية، فإن النقاش اليوم انتقل ـ أو يجب أن ينتقل ـ من “الهواية” إلى “الاحترافية”، من “الهزل” إلى الجد، ومن التأمل والتنظير إلى الممارسة والعمل. لماذا هذا الانتقال؟ لأن الأمازيغية أصبحت، بعد دستور فاتح يوليوز 2011، لغة رسمية. وعندما نقول “لغة رسمية”، نعني بذلك لغة ينتظر منها أن تستعمل في مؤسسات الدولة ومرافقها ووثائقها. وهذا ما يطرح مشكلة الكتابة بحدة وجدية لم يسبق أن طرحت بهما. ذلك أن من شروط الاستعمال الرسمي للأمازيغية تمكّن موظفي الدولة من استعمالها الكتابي. وهو ما يعود بنا إلى مسألة تدريسها الذي هو وحده الكفيل بجعل هؤلاء الموظفين ـ وباقي المتعلمين ـ يجيدون الكتابة والقراءة بالأمازيغية حتى يمكنهم استعمالها كلغة رسمية في أداء مهامهم.
هذا التشخيص للمشكل الحقيقي لاستعمال الأمازيغية كلغة رسمية كما ينص على ذلك الدستور، يطرح السؤال حول مضمون وطبيعة القانون التنظيمي المتعلق بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية الذي نصت عليه الفقرة الثالثة من الفصل الخامس من الدستور كما يلي: «… يحدد قانون تنظيمي مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وكيفيات إدماجها في مجال التعليم، وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، وذلك لكي تتمكن من القيام مستقبلا بوظيفتها، بصفتها لغة رسمية».
بما أن الاستعمال الرسمي للأمازيغية يستوجب التمكن من استعمالها الكتابي أولا، وبما أن هذا التمكن يستلزم تعلمها في المدرسة مسبقا، فإن الشرط الأول الواقف لتفعيل ترسيم الأمازيغية، هو البدء بتعميم تدريسها بجدية وصدق بعد توفر إرادة سياسية جدية وصادقة كذلك. وكدليل على وجود هذه الإرادة السياسية، ومن أجل إنجاح هذا التدريس، ينبغي أن ترصد لمادة اللغة الأمازيغية حصص كافية من 5 ساعات أسبوعية فأكثر، مع البدء بتدريس بعض المواد بها بشكل تدريجي، بجانب إعطائها معاملا محفزا كتمييز إيجابي “لتطبيع” المغاربة معها وحملهم على تعلّمها. ذلك لأن فشل تدريس هذه اللغة الذي قيل بأنه بدأ في 2003، يرجع أصلا وأساسا إلى غياب الإلزامية مع ما تستتبعه من تتبع ومراقبة واحتساب للأمازيغية في الاختبارات والامتحانات كمادة أساسية. والحال أن تدريس الأمازيغية تخلت عنه الدولة نهائيا منذ أن قررته في شتمبر 2003، وتركته لعبة للتقديرات الاختيارية ـ بل والأمازيغوفوبية ـ للفاعلين التربويين، من مسؤولي الأكاديميات والنيابات ومديري المؤسسات، يعبثون ويفعلون به ما يحلو لهم لقناعتهم أن الأمر مجرد هزل وتسلية. وهكذا أصبح الهدف من إدماج الأمازيغية في المدرسة هو الإعلان عن هذا الإدماج (تدريسها من أجل تدريسها) وليس تمكين التلميذ من إتقان هذه اللغة قراءة وكتابة، كما هو الهدف من تدريس أية لغة.
أما اليوم، وبعد الاعتراف الدستوري باللغة الأمازيغية، فقد أصبحت الدولة مسؤولة دستوريا وقانونيا عن هذه اللغة التي أضحت دستوريا أحد مقوماتها التي تعني حمايتُها والنهوضُ بها حمايةَ هذه الدولة والنهوضَ بها هي نفسها. وأن تسهر الدولة على تدريس الأمازيغية كشأن خاص بها، يعني أولا وقبل كل شيء فرض هذه الدولة إلزامية هذا التدريس، مع ما يصاحبه ويتطلبه من شروط الجدية والتتبع والمراقبة والتقويم والمحاسبة. والدولة وحدها تستطيع فرض هذه الإلزامية لما تتوفر عليه من سلطة القسر والإكراه. لماذا القسر والإكراه؟
لأن أمر تعلم الأمازيغية، لو ترك لاختيار للمغاربة، لامتنعوا عن ذلك وأعرضوا عنه بسبب ما تعرضوا له من غسل عميق للدماغ جعلهم ينفرون من أمازيغيتهم التي ربطها في أذهانهم هذا الغسل للدماغ بالتفرقة والعنصرية ولانفصال حسب ما علمتهم أسطورة “الظهير البربري”. ولهذا لا بد من تدخل الدولة لفرض تدريس الأمازيغية مع تحفيز المغاربة على تعلم هذه اللغة واستعمالها الكتابي، وذلك بإصدار قوانين تدعم الاستعمال الرسمي للأمازيغية مثل التنصيص على شرط إتقان الأمازيغية لشغل المناصب العمومية بعد مدة معقولة قد تقدر بخمسة عشر سنة حتى تتاح الفرصة للمغاربة لتعلم الأمازيغية وإتقانها عن طريق المدرسة.
ويجب، كإجراءات غير مكلفة مصاحبة لعملية تفعيل ترسيم الأمازيغية، التعجيل بتعميم كتابة أسماء المؤسسات العمومية وعلامات المرور ورأسياتen-tête بطاقات التعريف الوطنية ورخص السياقة والبطاقات الرمادية وجوازات السفر وكل الوثائق الرسمية، وكذلك أسماء قطع النقود والأوراق البنكية الجديدة، (كتابتها) باللغة الأمازيغية لما لذلك من وقع بصري يعوّد المغاربة على الكتابة الأمازيغية وحرفها “تيفيناغ”، مع السماح بالاستعمال الشفوي للأمازيغية، منذ الآن، في كل مرافق الدولة ومؤسساتها وإداراتها. وإذا كانت الدولة جدية في تفعيل ترسيم الأمازيغية والنهوض بها بصدق، فينبغي كذلك سن قانون يجرّم القذف العنصري في حق الأمازيغية، وهو شيء واسع الانتشار، لأن مثل هذا القذف يعني قذفا كذلك في الدولة المغربية التي أصبحت الأمازيغية جزءا منها. ولا يعني سنّ مثل هذا القانون الحدَّ من حرية التعبير التي يجب أن تشمل مناقشة القضية الأمازيغية ونقدها ومعارضتها، وإنما يتعلق الأمر بالمواقف العنصرية الصريحة التي لا علاقة لها بحرية التعبير ولا بالاختلاف المشروع والديموقراطي للمواقف حول القضية الأمازيغية. إن مثل هذا القانون ضروري لحماية الأمازيغية وفرض احترامها، ولا يمكن الاستغناء عنه بمبرر أن هناك قوانين، مثل القانون الجنائي وقانون الصحافة، تزجر السلوكات والتصريحات العنصرية، بل يجب أن ينص القانون الجديد على حالة الأمازيغية بعينها فضلا عن الحالات العامة التي تضمها القوانين الأخرى.
نريد بهذه المناقشة لعلاقة ترسيم الأمازيغية باستعمالها الكتابي تبيانَ أن ما يجب أن يركز عليه القانون التنظيمي لتفعيل ترسيم اللغة الأمازيغية، هو جانب إلزامية تدريسها بالشكل الذي يجعل المغاربة، وبعد مدة معقولة لا تتجاوز عشر سنوات، يتقنون هذه اللغة قراءة وكتابة، ويجعل الموظفين قادرين على استعمالها في إنجاز الوثائق والمستندات الإدارية.
لكن كل هذه الشروط والإجراءات التي يتطلبها تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية تتوقف على الشرط الأول ـ الذي سبقت الإشارة إليه ـ وهو توفر الإرادة السياسية، الحقيقية والجدية والصادقة. فغياب هذه الإرادة السياسية هو الذي جعل عملية تدريس الأمازيغية تفشل فشلا ذريعا مدويا منذ بدايتها في شتمبر 2003.
هذا الإفشال لمشروع تدريس الأمازيغية هو الذي قد يؤخر عمليا تفعيل ترسيمها، لأن هذا الترسيم سينطلق من الصفر، أي من البداية التي هي إدماج الأمازيغية في المدرسة أولا. أما لو نجح هذا التدريس ـ الذي يُزعم أنه انطلق في 2003 ـ لكان الاستعمال الرسمي للأمازيغية، اليوم، تحصيلا للحاصل، لأن الاستعمال الكتابي لها، وهو الشرط الأول لاستعمالها الرسمي، يكون قد عمّ وترسخّ وانتشر بشكل يسمح باستعمالها الرسمي بطريقة سهلة وسلسة، وبلا تعقيدات ولا عراقيل.
كاتب ومفكر وباحث ومناضل أمازيغي منحدر من منطقة الريف ومدير نشر جريدة تاويزا. ألف العديد من الكتب والمقالات التنويرية القيمة