بين المجلس الوطني لحقوق الإنسان والمجلس العلمي الأعلى
دستوريا يمثل المجلسان أعلاه قطبي تجاذب بين التقليد والحداثة في الدولة المغربية الحالية، فمجلس حقوق الإنسان مؤسسة وطنية دستورية أحدثت بمقتضى مبادئ باريس، مستوفية لشروط الاستقلالية والتعددية، ويتحدّد دورها في العمل على حماية حقوق الإنسان والنهوض بها، والدفع نحو تطوير سياسات الدول في هذا المجال، بغرض تجاوز الممارسات والتقاليد المخلة بحقوق الإنسان، التي يعتبرها الدستور المغربي “كلا غير قابل للتجزيء”، كما يؤكد على “سموّها على التشريعات الوطنية”.
بينما يمثل المجلس العلمي الأعلى مؤسسة لإصدار الفتوى الرسمية في سياق معين يتطلب اجتهادا فقهيا، حيث لا يعترف المغرب بالفتوى الفردية للأشخاص، ويُسند هذه المهمة لمؤسسة تصدر الفتوى أو الرأي لكن عندما يُطلب منها ذلك. حيث لا يتعلق الإفتاء بسياسة الدولة في مجملها بل فقط بالقضايا ذات الصلة بالشأن الديني كبعض أمور الأحوال الشخصية مثلا. ويسند النظام السياسي من جانب آخر لهذه المؤسسة دور “حراسة الثوابت الدينية للأمة”، ما يرسّخ طابعها التقليداني، ودورها في التوازنات السلطوية مع تيارات الإسلام السياسي، على حساب الاجتهاد المطلوب الذي يستجيب لتحولات الواقع الاجتماعي المغربي.
وقد أدى إنشاء المجلس الوطني لحقوق الإنسان إلى انزعاج التيار المحافظ وعدم رضاه، بسبب اضطرار المجلس المذكور ـ في إطار الصلاحيات المخولة له ـ إلى اقتراح الكثير من التدابير التي لها صلة من جانب ما بالنصوص الدينية كمراجعة نظام المواريث من أجل تحقيق المساواة بين الجنسين على سبيل المثال، أو اقتراح تقنين الإجهاض الطبي، وهو ما اعتبره المحافظون تدخلا في مجال هو من اختصاص رجال الدين فقط (نتذكر هجوم عبد الإله بنكيران عندما كان رئيسا للحكومة على المجلس، كما نتذكر مواقف وآراء “حركة التوحيد والإصلاح” التابعة لـ”البيجيدي”، إضافة إلى الرأي الذي عبر عنه قبل أيام الوزير مصطفى الرميد الذي صرّح بأن “رأي المجلس ليس ملزما للحكومة”)، بينما الحقيقة أن دور المجلس الوطني لحقوق الإنسان هو حماية حقوق الإنسان وفق مبادئ باريس وبناء على معايير دولية تسمو على التشريعات الوطنية والدينية، ودوره كذلك الوقوف على مختلف التقاليد والعادات التي تُهدر بموجبها حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دستوريا وعالميا والعمل على تجاوزها، حيث تنص مبادئ باريس، التي اعتمدتها الجمعية العمومية للأمم المتحدة سنة 1993، على مجموعة من المبادئ التوجيهية تتعلق بالوضع القانوني للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان واستقلاليتها واختصاصاتها في مجال حماية حقوق الإنسان والنهوض بها وضمان التنوع في تركيبتها، وتوفرها على الإمكانيات المادية والبشرية اللازمة للاضطلاع بمهامها. والقول بأن رأي المجلس بوصفه مؤسسة وطنية مستقلة “غير ملزم للحكومة” هو ضرب من العبث المغلف بكثير من العنجهية، حيث إذا كان طرف في الحكومة لا يرى جدوى من “الاستئناس” برأي المجلس ، فإن آراءه ذات أهمية كبرى بالنسبة للدولة المغربية التي أحدثت المجلس المذكور، حيث لا موجب لإحداثه والاستماع إلى آرائه الاستشارية إذا لم تكن لدى الدولة إرادة سياسية لتطوير سياساتها في مجال حقوق الإنسان، وتفضل إبقاء الحال على ما هو عليه إلى الأبد، كما يريد ذلك المحافظون.
وبالمقابل فخلال السنوات الأخيرة صدرت عن التيار الحداثي الديمقراطي مواقف عديدة ضدّ آراء المجلس العلمي الأعلى، ممثل تقليدانية الدولة، حيث لوحظ وجود ارتباك كبير في مواقف وآراء المجلس العلمي منذ سنوات، عندما يعمد الفقهاء الأعضاء إلى اتخاذ مواقف نكوصية بعيدة عن الواقع كلما طلب منهم رأي يتعلق بحق من حقوق الإنسان المتعارف عليها، لكنهم سرعان ما يضطرون إلى الالتحاق بالقرار الرسمي وبدينامية المجتمع بعد ذلك بتعديل آرائهم. ونذكر بهذا الصدد على سبيل المثال إعلان المجلس سنة 2013 عن رأي غريب لما طلب منه رأيُه حول حرية المعتقد، حيث أعلن عن أن ما استقر عليه موقف الفقهاء هو “من بدّل دينه فاقتلوه”، مما أدّى إلى ضجة أعقبها على الفور توقيع الدولة المغربية على القرار الأممي المتعلق بحرية المعتقد بجنيف في مارس 2014، وهو ما اضطر المجلس إلى تصحيح موقفه بعد ثلاث سنوات.
بينما بالمقابل يظل المجلس الوطني لحقوق الإنسان وفيا لمرجعيته ثابتا على آرائه التي تنسجم تمام الانسجام مع مرجعيته الكونية والدستورية، ومع صلاحياته، ولعل هذا يعطينا صورة عما سيحدث في المستقبل.
إن كلا من المجلسين إذا يقوم بدوره حسب مرجعيته واختصاصاته، لكنهما معا يعكسان ارتباك الدولة المغربية وعدم قدرتها على الحسم في اختيار الحداثة السياسية وحقوق الإنسان بشكل حاسم، أو في العودة إلى التقليد المحض. ولعل التوازنات السياسية التي يعمل النظام على الحفاظ عليها من خلال اللعب على حبل “التوافقات” الظرفية لن تستطيع الصمود أمام التحولات القادمة، فالتطور نحو منظومة حقوق الإنسان ساري المفعول رغم كل أشكال المقاومة، التي قد تؤخر مسارنا نحو دولة القانون الحديثة، لكنها لن توقف المسار الديمقراطي أو تعيدنا إلى الوراء.
أحمد عصيد كاتب وشاعر وباحث في الثقافة الامازيغية وحقوقي مناضل من اجل القضايا الأمازيغية والقضايا الإنسانية عامة