لِمَ التدريس بالعربية إن لم يكن ذلك شرطا للدين ولا للهوية ولا للعلم؟
أوضّح، بداية، أنني أناقش في هذا الموضوع، حصرا وقصدا، مسألة اعتماد العربية لغة أساسية للتدريس. أما تدريسها كلغة يتعلّمها المغاربة لمكانتها الدينية والتراثية والثقافية، فهذا شيء لا خلاف فيه ولا نقاش حوله. ولا أعتقد أن هناك من المغاربة من يدعو إلى الاستغناء النهائي عن العربية بالإلغاء النهائي لتدريسها. فما يؤطّر إذن هذا النقاش هو الفرق، على مستوى الوظيفة والغاية، بين لغة التدريس ولغة تُدرّس. كما أن هذا النقاش لا يتطرّق لسياسة التعريب، التي لا علاقة لها بالعربية ولا بلغة التدريس، وإنما هي سياسة عنصرية ترمي إلى التحويل الجنسي للمغاربة من جنسهم الأمازيغي الإفريقي إلى جنس عريي أسيوي.
من حسنات النقاش الذي أثاره استعمال كلمات من الدارجة في نص لكتاب مدرسي للتعليم الابتدائي لهذا الموسم الدراسي ، أنه طرح من جديد إشكالية لغة التدريس. حقيقة لقد ظل النقاش حول هذه المسألة مفتوحا منذ تعريب التعليم في جانبه اللغوي. وقد كان هذا النقاش ينطلق، لدى التعريبيين، من مواقف إيديولوجية جاهزة تدافع عن التدريس بالعربية باعتبارها، أولا، لغة ضرورية للإسلام لكونها لغة القرآن، ولغة الهوية ثانيا، وثالثا لغة مؤهلة للتكوين المعرفي للتلميذ في مختلف مجالات العلم والفكر والثقافة… لنناقش هذه العلاقة الثلاثية، التي تربط العربية بالإسلام وبالهوية وبالتكوين المعرفي، والتي يستند إليها التعريبيون في دفاعهم عن استعمالها كلغة أولى وأساسية للتدريس.
هل التدريس بالعربية شرط لصحّة الإسلام؟
رغم أن هذا السؤال ما كان يجب أن يُطرح أصلا، لأن الجواب بالنفي بديهي ومعروف. لكن بما أن السلاح الأول الذي يُشهره التعريبيون في وجه من يدعو إلى اعتماد غير العربية كلغة أساسية للتدريس، هو القول بأن العربية لغة القرآن، قاصدين بذلك أنها لغة ضرورية للإسلام، فإن طرح هذا السؤال يبدو وجيها لرفع كل لبس أو سوء فهم بخصوص علاقة العربية كلغة أساسية للتدريس بالدين الإسلامي.
ـ توجد دول إسلامية غير عربية بمليار ونصف مسلم غير عربي، فيها دول تدرّس العربية كلغة ثانوية، ولا توجد ضمنها دولة مسلمة واحدة تستعمل العربية كلغة أساسية للتدريس. فهل هذه الأعداد الهائلة من المسلمين العجم، الذين لا يعتمدون العربية كلغة أساسية للتدريس، هم أقل إسلاما من الأقلية العربية التي تستعمل عربيتها لغة أساسية للتدريس؟
ـ توجد في المغرب نسبة عالية من الأميين تفوق 30 في المائة. هؤلاء لا يعرفون قراءة ولا كتابة العربية. فهل إسلامهم ناقص وغير مقبول؟ وهل صلاتهم مرفوضة وصيامهم مردود لأنهم لا يتقنون العربية المدرسية؟
ـ هل كان أجدادنا غير المتعلمين، الناطقون منهم بالدارجة أو بالأمازيغية، في فترة ما قبل الحماية الفرنسية، غير مسلمين لأنهم كانوا يتمتمون في صلواتهم بكلمات غير مفهومة من سور القرآن لعدم معرفتهم بالعربية المدرسية الفصيحة؟
ـ هل كان إسلام المغاربة ناقصا عندما لم تكن العربية لغة التدريس الأساسية منذ الاستقلال حتى ثمانينيات القرن الماضي؟
نريد، بهذه الأسئلة، تبيان أن التحجّج بكون العربية لغة القرآن لفرضها كلغة أساسية للتدريس، هو موقف، في حالة ما إذا كان صادرا عن حسن نية، عامّي يردّده الأميون وغير المتعلمين، ضحايا ثقافة الجهل المقدّس الواسعة الانتشار. أما عندما يكون، وهذا هو الغالب، صادرا عن نفاق وسوء نية وحسابات سياسوية، فهو ابتزاز خسيس وماكر يخيّر أصحابُه المغاربة بين قبول العربية كلغة أساسية للتدريس أو أن دينهم في خطر، مستغلين ما دُجّن عليه المغاربة من ربط بين العربية والإسلام.
نلاحظ إذن أن تبرير اعتماد العربية لغة للتدريس استنادا إلى الدين، ليس فقط حجة واهية ومتهافتة، بل هو حجة كاذبة ومضلٍّلة ودَجَلية، يلجأ إليها الكذابون والمضللون والدجّالون، من تعريبييين متحولين جنسيا (قوميا وهوياتيا)، وسياسيين رديئين ومنافقين، وشعبويين متاجرين في الإسلام. كلهم مستهترون بمستقبل الوطن الذي يصنعه التعليم الجيّد والملائم، هذا التعليم الذي تعمّدوا ذبحه قربانا للغة معاقة ونصف حية، لا تنتج إلا تعليما معاقا ونصف حي.
ما جدوى اعتماد العربية إذن كلغة أساسية للتدريس إن لم يكن ذلك شرطا دينيا لصحة الإسلام؟
هل العربية لغة الهوية المغربية؟
من بين ما يبني عليه التعريبيون، كذلك، دفاعهم عن العربية لتكون لغة التدريس الأساسية، القول، المكرور والمملول، بأنها لغة الهوية، وبالتالي فإن التفريط فيها، بإحلال محلها لغة أخرى للتدريس، هو تفريط في هذه الهوية والتنازل عنها. فسواء كان المقصود بالهوية هو الإسلام، كما هو شائع عند أتباع الإسلام السياسي، أو الانتماء إلى العروبة كما عند القوميين، فإن جعل العربية عنوانا على هوية المغاربة هو، أيضا، ضلال وتضليل، وجهل وتجهيل. لماذا؟
ـ لأن الهوية مستقلة عن الدين الذي هو من المتغيرات التي قد تظهر فتدوم أو تحتفي. فالعرب كانوا دائما عربا في هويتهم سواء كانوا وثنيين، كما في الجاهلية، أو مسلمين أو مسيحيين كما هم اليوم. وكذلك المغاربة كانوا دائما أمازيغيين في هويتهم سواء كانوا يدينون بالديانة اليهودية، كما في عهد الملكة “ديهيا”، أو بالمسيحة كما في عهد الاحتلال الروماني في مرحلته المسيحية أو في عهد الاحتلال البيزنطي، أو بالإسلام كما هو شأنهم اليوم.
ـ أما اللغة التي هي مكوّن للهوية ويجب لذلك الحفاظ عليها والتدريس بها، فهي اللغة التابعة للموطن الذي نشأت به وتنتمي إليه، مثل العربية التي نشأت بموطنها بشبه الجزيرة العربية وتنتمي إلى هذا الموطن. ولهذا فإن لغة الهوية بالمغرب، وكل شمال إفريقيا، هي الأمازيغية كلغة موطنية، ثم انضافت إليها، لأسباب تاريخية، الدارجة التي هي كذلك لغة هوية لأنها نشأت بشمال إفريقيا وتنمي إليه ولم تفد عليه من خارج موطنها هذا. أما العربية فهي لغة وافدة مثلها مثل الفينيقية واللاتينية قديما، والفرنسية والإسبانية حديثا. وبالتالي فلا علاقة لها إطلاقا بالهوية الجماعية للمغاربة، التي هي هوية أمازيغية إفريقية. أما الذين يروّجون أن العربية لغة الهوية بالنسبة للمغاربة، فهم المتنكّرون لهويتهم الأمازيغية الذين اختاروا ـ أو اختير عليهم ـ التحول الجنسي، القومي والهوياتي، ويريدون فرضه على المغاربة الأسوياء، أي المحافظين على هويتهم الأمازيغية.
ما جدوى اعتماد العربية إذن كلغة أساسية للتدريس إن لم يكن ذلك شرطا للحفاظ على الهوية الأمازيغية للمغاربة؟
لغة التدريس هي أم المشاكل للتعليم في المغرب:
رغم أن تعليمنا يعاني من عدة مشاكل تخص ما هو مادي مثل التمويل وإعداد التجهيزات والبنى التحتية الضرورية، وتوفير الموارد البشرية الكافية …، وما هو تربوي مثل التكوين والمناهج والمضامين والمقاربات البيداغوجية…، إلا أنه، مع ذلك، تبقى هذه المشاكل ثانوية مقارنة مع أم المشاكل التي تمثّلها لغة التدريس والتكوين. وما يزيد من حدّة هذا المشكل، الخاص بلغة التدريس والتكوين، أن المسؤولين لا يعون، أو لا يريدون أن يعوا، بأن لغة التدريس هي السبب الأول في تخلّف نظامنا التعليمي، وتراجع مستواه وتدنّي مردوديته. وهذه الخلاصة تفرض نفسها إذا عرفنا أن جميع الإصلاحات التي انصبت على تجويد المنظومة التربوية لم تؤدّ إلا إلى مزيد من فشل وتخلّف هذه المنظومة. لماذا؟ لأن هذه الإصلاحات لم تمس جوهر المشكل الذي هو لغة التدريس، كما أشرت، والتي لا يمكن إصلاحها إلا بتغييرها. وها هي الإصلاحات الأخيرة والجديدة و”الثورية”، التي جاء بها مشروع قانون إطار 51-17 المتعلق بمنظومة التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي، تنص في الفصل 28 من هذا المشروع على ضرورة «اعتماد العربية لغة أساسية للتدريس». وهذا يعني التمادي في علاج مرض التعليم بالتي هي داؤه. وهو ما يفسّر أن هذا المرض في تفاقم متنامٍ، يُنذر بالانتقال إلى مرحلة “الميتاستاز” Métastase الميؤوس من علاجها.
نعم، يتفاقم مرض التعليم بالمغرب بمحاولة علاجه بالتي هي داؤه، أي علاجه بالعربية، مع أن هذا المرض لم تظهر أعراضه، قبل أن يتحوّل في ما بعد إلى وباء يفتك بالنظام التعليمي، إلا عندما تقرر «اعتماد العربية لغة أساسية للتدريس» في الابتدائي والثانوي منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، مع تعيين وزير خاص للتعريب اللغوي لهذا التعليم، وهو الراحل عز الدين العراقي. لماذا تكون العربية مرضا يُضعف “صحّة” التعليم ويهدده بالسكتة القلبية؟
هل العربية مؤهلة للتكوين العلمي والمعرفي للتلميذ؟
في الحقيقة، هذا هو السؤال الجوهري الذي يشكّل بيت القصيد بخصوص إشكالية لغة التدريس. أما ما يتعلق بالدين والهوية، فهو موضوع ثانوي كان الداعي إلى الوقوف عنده هو الردّ على أضاليل وأباطيل التعريبيين، الذين يربطون العربية بالدين والهوية لفرضها في المدرسة خدمة لإيديولوجيتهم التي تخدم مصالحهم الضيقة، ولا تعبأ بمصلحة الوطن والمواطنين.
لكن لماذا تكون العربية هي المسؤولة عن كارثة التعليم في المغرب، وتشكّل مرضا يُضعف “صحّته” ويهدده بالسكتة القلبية، كما قلت؟ لسبب بسيط وهو أنها هي نفسها لغة مريضة وعليلة وعاجزة، منذ أن فقدت وظيفة التخاطب الشفوي التي هي المصدر الأول والأصلي لحياة اللغة، ولم تعد اللغةَ الفطرية (لغة الأم) لأحد في الدنيا، ولا لغة الاستعمال اليومي لأية جماعة بشرية. وهو ما يعني أنها فقدت الشرط الأول والضروري الذي يجعل لغة ما حية. ونتيجة لفقدانها لوظيفة الحياة هذه، أي وظيفة التخاطب الشفوي والاستعمال اليومي، أصبحت لغة معاقة ونصف حية أو نصف ميتة، لأنها تعيش بالكتابة فقط عكس اللغات التي تتمتع بكامل الحياة، والتي تعيش أصلا بالاستعمال الشفوي في الحياة ثم الاستعمال الكتابي (انظر موضوع: “ما تفتقر إليه العربية هو استعمالها في الحياة”).
وأين المشكل إذا كانت العربية تستعمل في الكتابة فقط؟ المشكل أن التلميذ الذي يلتحق بالمدرسة وهو يتقن لغته الفطرية، أو لغة أخرى اكتسبها في الشارع بمخالطة أطفال تكون تلك لغتهم الفطرية، مثل الطفل الأمازيغي الذي يتقن الدارجة التي تعلّمها مع أطفال الحي في منطقة دارجفونية، واللتيْن (اللغة الأولى والثانية) بهما أو بإحداهما يتواصل في البيت والشارع ولدى البقّال ومع أطفال الحي، واللتيْن ينبغي أن تكون لغة المدرسة منتمية إلى إحداهما وامتدادا لها، سيُفاجأ بلغة أجنبية لا يعرفها ولا يجيدها ولا يفهمها وهي العربية الفصحى. وهذه الهوة بين لغة البيت والشارع ولغة التعليم والمدرسة، والتي لا يدركها أو يتجاهلها التعريبيون، هي التي تشكّل الهوة بين أسباب التعليم الناجح وأسباب التعليم الفاشل، مثل تعليمنا (لمزيد من التفاصيل بخصوص هذا الموضوع يمكن الاطلاع على مقال: “الأسباب الحقيقية لضعف مستوى اللغة العربية هند التلاميذ”). لماذا؟ لأن المدرسة، التي تعتمد العربية كلغة تدريس، يصبح هدفها، نظرا لكون العربية لغة غير متداولة في الحياة ولا علاقة لها بلغة التلميذ الفطرية، ليس أن يتعلّم التلميذ التفكير السليم ويكتسب المعارف والمهارات والعلوم، بل أن يتعلم العربية أولا ليتعلم بها أشياء أخرى. وهذا التعلّم للعربية قد يستغرق كل حياته المدرسية ودون تحقيق النتيجة التي هي إتقانه للعربية، وذلك لكونها لغة غير متداولة في الحياة، كما سبقت الإشارة. وهكذا تتحول الوسيلة، التي هي اللغة، إلى غاية في حد ذاتها، وتغيب معها وبسببها الغايات الحقيقية والأصلية للتعليم، وهي تزويد المتعلم بالمعارف والعلوم والمهارات والخبرات… والنتيجة أن المتعلم يتخرج في نهاية مساره التعليمي وهو لا يملك معرفة ولا مهارة ولا علما ولا خبرة. لأنه كان منشغلا طيلة دراسته بتعلم، ليس المعارف والعلوم، بل العربية المستعصية أصلا لأنها لغة غير حية وغير متداولة.
ونظرا للعلاقة الوطيدة بين اللغة والفكر حيث تلعب الأولى دورا هامّا ومحوريا في تشكّل الفكر ونموّ التفكير، عبر ما توفّره من معانٍ ومفاهيم تمثّل أفكارا يتوقف تملّكها وتوظيفها على التعبير عنها باللغة (ألفاظ وتعابير)، فإن لغة معاقة وقاصرة لأنها نصف حية مثل العربية، تجعل الذين تلقوا تعليما بها معاقين وقاصرين في فكرهم وتفكيرهم وتكوينهم. وهذا هو مصدر الإعاقة والقصور الملازميْن للنظام التعليمي المغربي منذ أن فُرضت العربية كلغة للتدريس مع أواخر سبعينيات القرن الماضي، بعد أن كانت، منذ الاستقلال إلى هذا التاريخ، لغة تُدرّس فقط. وإذا كانت الفرنسية أو غيرها من اللغات الأجنبية مثل الإنجليزية والإسبانية، ليست بلغات فطرية للمغاربة، إلا أن استعمالها للتدريس، في غياب اللغة الفطرية الحقيقية والطبيعية للمغاربة، مثل الأمازيغية والدارجة، هو أفضل بكثير، على مستوى نجاعة ومردودية النظام التعليمي، من اعتماد العربية. لماذا؟ لأن هذه اللغات هي موجودة أصلا كلغات طبيعية ومتداولة في بلدانها الأصلية، وتستعمل في التخاطب اليومي. وحتى التلاميذ المغاربة يستطيعون التخاطب في ما بينهم بهذه اللغات عندما يتعلمونها، عكس العربية التي لن يستعملها أي مغربي في التخاطب مع مغربي آخر حتى لو كانا دكتورين في العربية وآدابها، وكاتبيْن ألفا كتبا عديدة بالعربية.
والنتيجة أن العربية قد تصلح، لكونها، ورغم أنها معاقة وقاصرة على مستوى وظيفة الاستعمال الشفوي في الحياة، لغةً كتابية راقية وذات عبقرية فذّة لا ينكرها إلا الجاهلون بها وبتاريخها وآدابها وإنتاجها الفكري والثقافي، (قد تصلح) للسياسة؛ للصحافة المكتوبة؛ للتأليف؛ للكتابة الأدبية الجميلة؛ للرواية والشعر؛ للوعظ الديني؛ للحب والهجاء؛ للدعاء والتأبين؛ للتدريس بها في التعليم العالي الجامعي… لكنها لا تصلح أن تكون لغة تعليم ناجح وتكوين مفيد للتلميذ في المرحلة الابتدائية والثانوية. لماذا؟ لأن في هذه المرحلة، الممتدة من التعليم الأولى حتى نهاية مستوى التأهيلي (الباكالوريا)، يتشكّل تفكير التلميذ ويكتسب المهارات المعرفية الأساسية، وتتبلور رؤيته للعالم وفهمه للأشياء والمجتمع والتاريخ… وعندما تتدخّل لغة نصف حية في إنتاج هذا التفكيرَ، وصنع هذه المهارات وصوغ هذه الروية والفهم، فإن كل هذه المقوّمات، من تفكير ومهارات ورؤية وفهم، تكون هي نفسها نصف حية، أي قاصرة وناقصة ومتخلفة ومتجاوزة وغير صالحة، نظرا لما أشرنا إليه من تأثير اللغة على تشكّل الفكر ونموّ التفكير.. وهذا ما يجعل العربية غير ملائمة أصلا لاكتساب العلوم الحقة، من فيزياء وكيمياء وفلك وطب وبيولوجيا وهندسة… نعم يمكن لعالم تلقى تكوينه العلمي بلغة حية ومتداولة، أن يستعمل العربية في مرحلة لاحقة، كأن يدرّس بها في المستوى الجامعي، لأنها لن تعيقه عن اكتساب العلم الذي سبق أن حصّله باستعمال غير اللغة العربية.
والأخطر في اللغة، عندما تكون لغة أساسية للتدريس، هو أن التلميذ يتعلّم أية لغة أجنبية في المدرسة انطلاقا من لغته الأساسية هذه. وعندما تكون هذه الأخيرة حية ومتداولة، ويتقنها التلميذ بشكل جيّد، فإنه يتعلّم اللغات الأجنبية المدرَّسة له بشكل سهل وطبيعي وجيّد. وهذا ما يفسّر أن التلميذ المغربي يعاني من ضعف كبير في تعلّم وإتقان اللغات الأجنبية التي يدرسها. لماذا؟ لأنه يعاني أصلا من ضعف كبير في تعلّم وإتقان العربية، والتي هي، باعتبارها لغته الأساسية للتدريس، الأصل والقاعدة لتعلم وإتقان اللغات الأخرى (مناقشة هذه المسألة في موضوع: “رفقا باللغة العربية أيها التعريبيون”).
العربية والسياسة والسلطة:
رغم النتائج الكارثيية لتعريب التعليم في المغرب وفرض العربية لغة أساسية للتدريس في الابتدائي والثانوي، وهي النتائج التي لا يجهلها المسؤولون، إلا أن هؤلاء سادرون في قتل العليم بتعريبه، غير عابئين بقتل مستقل الوطن والمواطنين. لماذا؟ هل هؤلاء لا يعرفون أن المشكل الأول للتعليم هو مشكل لغة التدريس، وأن حلّه الأول يقتضي تغيير لغة التدريس؟ نعم إنهم يعرفون ذلك. والشاهد أن أبناءهم لا يدرسون بالعربية، وهم أنفسهم لا يجيدون العربية التي لم يحتاجوا إليها لشغل مناصبهم السامية والنافذة. لماذا يفرضون إذن على الشعب ما يرفضونه لأبنائهم وأنفسهم؟
لأن العربية، كلغة مرتبطة بالدين والتراث والتقليد والسلفية، ملازمة للاستبداد الذي تمثّل مظهرَه اللغوي، مثل الدين الذي تستعمله وتحتكره الدولة الدينية، ويمثّل أحد أهمّ آليات ومظاهر استبدادها. وهذا واضح وبارز بالنسبة للدولة المخزنية في المغرب، التي تبني شرعيتها على الإسلام الذي تُعتبر العربية جزءا منه. ومن هنا نفهم أن العربية، إذا كانت نقمة على التعليم الذي أوصلته إلى الدرك الأسفل، فإنها نعمة على الحكم الذي تعزّز العربية شرعيته الدينية. وهذا ما يفسّر أن الدولة المغربية تشتغل، في مرافقها الحيوية، باللغة الفرنسية لكنها تحكم باللغة العربية. ولهذا فإنه من الصعب أن تكون هناك ديموقراطية حقيقية حين تكون لغة السلطة لغة لا يتقنها ولا يستعملها الشعب كلغته الفطرية (لغة الأم) والطبيعية، كالأمازيغية والدارجة في المغرب. وهذا الوضع اللغوي جعل المغاربة شبه رهائن للغة العربية، لا تسمح لهم بأية انطلاقة تنموية حقيقية لأن التعليم، الذي هو وسيلة تحقيق هذه التنمية، معاق ومُقعد، تكبّله العربية وتمنعه من النهوض والسير إلى الأمام.
ونظرا لطبيعة النظام السياسي المغربي ولجبن الطبقة السياسية، لا يبدو أن إصلاحا حقيقيا للتعليم يلوح في الأفق، يؤدّي إلى تغيير لغة التدريس. فهذا التغيير يتطلب شجاعة سياسية وأخلاقية لا تزال غائبة سواء عند النظام الحاكم أو عند الأحزاب السياسية التي أصبحت جزءا من هذا النظام. فالعربية، في استعمالها السياسي، أداة أخرى للقمع، الذي تتجلى درجته القصوى في حرمان الإنسان المغربي من تنمية أنسب وتأهيل أفضل واستثمار أمثل لقدراته وإمكاناته، عبر استثمارها وتطويرها عن طريق تعليم ناجح لاستعمالها الناجح في الإبداع الفكري والإنتاج العلمي والابتكار التكنولوجي.
ما جدوى اعتماد العربية إذن كلغة أساسية للتدريس إن لم يكن ذلك شرطا للتكوين المعرفي والفكري والعلمي للتلميذ؟ بل ما جدوى اعتماد العربية كلغة أساسية للتدريس إن لم يكن ذلك شرطا للحفاظ على الهوية الأمازيغية للمغرب، ولا شرطا لصحة إسلام المغاربة، ولا شرطا لتعليم ناجح ومفيد ومنتج؟
كاتب ومفكر وباحث ومناضل أمازيغي منحدر من منطقة الريف ومدير نشر جريدة تاويزا. ألف العديد من الكتب والمقالات التنويرية القيمة