بين المختار السوسي والحركة الأمازيغية
لست أدري ما علاقة المختار السوسي الفقيه السلفي، بالحركة الأمازيغية التي هي حركة مدنية حديثة، ظهرت بعد وفاة المختار بأزيد من أربع سنوات، وعاشت مفارقات وتحولات لم يعرفها العلامة المرحوم، ولم يكن يتصور ربما حتى إمكان حدوثها. فشتان بين رجل درس علوم القراءات والحديث وأصول الفقه وعلم الأدب واللغة العربيين، وتخرج من القرويين بعد أن مرّ عبر الزاوية والمدرسة القرآنية، وبين نخبة عصرية حديثة درست اللسانيات والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والأركيولوجيا والأدب الحديث وتخرجت من جامعات ومعاهد عصرية تحمل رؤية للعالم غير رؤية الفقهاء، وتنظر إلى المغرب من خلال اليومي والمعيش والحميمي، وعبرالوثيقة الأثرية المادية، وليس عبر كتب التراث والحواشي والمدونات القديمة.
كان المختار علامة عصره وفريد أوانه في العلم والأدب والفضل، لكن بمعيار النخبة التقليدية التي لم تعُد سيدة الميدان بعد أن عرف المغرب الدولة الوطنية الحديثة، وهو ما أدركه المختار السوسي بنباهة عقله اليقظ وحسّه الواقعي، وكتب عنه بروح رياضية وسعة صدر يندُر وجودهما عند الكثيرين ممن يسمون اليوم “علماء”. لقد أدرك في كتابه “المعسول” (الذي سماه آنذاك بعض الذين يمتدحونه اليوم من باب الرياء بـ “المغسول” سخرية واستهزاء) أدرك بحسّ تاريخي مرهف أن المغرب هو بصدد توديع مرحلة بكاملها، وافتتاح عهد جديد بقيم وعلوم ومعارف جديدة، ورغم الحسرة التي تنضح بها كتاباته في هذا الباب، إلا أنه لم يؤاخذ قط على أبناء الجيل الجديد تبنيهم لآراء تخالف آراءه، ولا أنكر عليهم حقهم في أن يعيشوا عصرهم.
هذه المفارقة هي التي لا يبدو أن جريدة “الأسبوع” قد فهمتها جيدا بنشرها لملف خاص حول العلامة المختار السوسي، رامية إلى خلق تصادم غبيّ وتنافر مصطنع وعبثي بين هذا الرمز الوطني الكبير، وبين الحركة الأمازيغية الحديثة والمعاصرة.
لم يكن هدف الجريدة التعريف بالمختار السوسي أو التذكير برجل نسيه الكثيرون عن عمد، لأنه لا ينتمي إلى العائلات الفاسية الرباطية السلاوية، (وإن كان له بين هؤلاء محبّون أصفياء وأصدقاء حقيقيون ومعجبون حدّ التقديس، ويكفي أن نذكر منهم الفقيه التطواني الذي لم يكن يفارقه، والذي توطدت بينه وبين الفقيه السوسي عُرى محبة نادرة المثال)، ولم يكن هدف الجريدة أن تمنح المختار امتياز الظهور على صفحاتها هكذا لوجه الله، كان هدفها إيديولوجيا محضا، أن تعيد إلى طاولة النقاش قرارا وطنيا محسوما ونهائيا لا رجعة فيه، وهو كتابة الأمازيغية بحرفها الأصلي “تيفيناغ”، وهذه المرّة باستعمال المختار السوسي الذي كتب “الشلحة” بالحرف العربي، والجريدة المعنية وهي تقوم بهذا، تبدو كمن يصارع طواحين الهواء، ذلك أنّ الوقائع التي شهدتها العشرية الأخيرة لم تعُد تسمح بأي نكوص أو تراجع فيما يخصّ الأمازيغية هُوية ولغة وثقافة.
هل كان بإمكان الفقيه السلفي أن يكتب لغته أو أية لغة أخرى بحرف غير الحرف العربي، الحرف الوحيد الذي فتح عينيه عليه داخل الزاوية والمدرسة القرآنية، والذي أتقنه لأنه حرف لغة التكوين لديه، والذي سمح له بالإطلالة على عالم المعارف النظرية الواسع، لكن في حدود المنظومة الثقافية العربية ـ الإسلامية طبعا ؟ هل كان من الممكن للمختار السوسي أن يعرف اللغة الأمازيغية بالمعنى المتداول اليوم في المدرسة العمومية وهو الذي لم يكن يتحدث سوى عن “اللسان الشلحي” الذي يقصد به لهجة أهل سوس ؟ هل يتحمل المختار السوسي وزرَ عدم اطلاعه على تاريخ المغرب الماقبل إسلامي وعدم معرفته بملوك المغرب وحضارته قبل مجيء عقبة بن نافع أو إدريس بن عبد الله ؟ وهل نحمّل الحركة الأمازيغية اليوم ذنب معرفتها بكل ذلك واطلاعها على نتائج علوم كانت مجهولة لدى القدماء ، لأنها ثمرة المدنية الحديثة ؟
في الواقع ليست جريدة “الأسبوع” هي أول من استعمل مثل هذا الحجاج الفاسد، فقد عرفنا داخل اتحاد كتاب المغرب منذ عقود نقاشا من هذا النوع، حيث كان مثقفو العروبة يواجهون مطلبنا بالإعتراف باللغة الأمازيغية كلغة كتابة وإبداع بالمغرب، بتذكيرنا بالمختار السوسي الذي كان “يحبّ العربية” ولا يتحدث عن مطالب تخصّ لغته الأصلية، ولم يكن مثقفو الحداثة الذين يواجهوننا بهذا الخطاب آنذاك يعون مقدار التناقض الذي يقعون فيه، لقد كانوا يقدمون لنا نموذج رجل فقيه سلفي، في الوقت الذي يضعون فيه نصب أعينهم في الثقافة العربية نماذج غاية في الحداثة، وكأنهم لا يدركون بأن الأمازيغية المعنية في نقاشنا، إنما هي نتاج تحولات الدولة المغربية الحديثة، وبروز قيم الثقافة العصرية في إطار المرجعية الكونية لحقوق الإنسان، مما يجعل إقحام المختار السوسي في النقاش وقوعا في حالة شرود، وخروجا عن السياق التاريخي بأكمله.
ولكن بالمقابل أليست جريدة الأسبوع ضحية من بين ضحايا كثر من أبناء الشعب المغربي ؟ أليس المسؤول الرئيسي عن كل ذلك هو السياسات العمومية التي تمّ انتهاجها من قبل السلطات على مدى نصف قرن، والتي علمت الناس العربية وجعلتهم “أميين” في الأمازيغية وفي ثقافة وتاريخ وطنهم ؟
وأخيرا وعلى سبيل الختم، وحتى لا يساور الشكّ من بقي في قلوبهم “شيء من حتى”، نذكر بالمعطيات التالية، التي هي الحق الذي يُعوّل عليه في هذا الباب:
ـ أن حرف تيفيناغ ـ المنقوش على الأرض المغربية منذ ما لا يقلّ عن أربعة آلاف سنة، مكسب تاريخي من أكبر المكاسب التي حققتها الحركة الأمازيغة في عصرنا هذا، بنضال أبنائها وتفانيهم وتضحياتهم الجسيمة، وأنّ أي تراجع أو مسّ بهذا المكسب سيكون بمثابة عودة إلى الوراء وإعادة للنزاع الذي تمّ الحسم فيه من قبلُ بتوافق وطني ساهمت فيه منظمات مدنية ومؤسسات عمومية وأحزاب سياسية إضافة إلى قرار الملك محمد السادس، الذي بعث ببرقية تهنئة إلى المجلس الإداري للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بتاريخ 10 فبراير 2003.
ـ أنّ حرف تيفيناغ ليس مجرد حرف للكتابة، بل هو رمز للهوية الأمازيغية للمغرب الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، والتي ينبغي بعد الترسيم أن تظهر في واجهة المؤسسات العمومية والشبه عمومية والعلامات الطرقية في الساحات والأزقة والشوارع، وكتابة الأمازيغية بالحرف العربي لا يرمي إلى أكثر من تعريب الهوية البصرية للمغرب، وهو ما يتنافى مع الدستور الذي يقرّ الأمازيغية بعدا من أبعاد الهوية المغربية ولغة رسمية للبلاد.
ـ أن هذا الحرف الأمازيغي العريق الذي ظلّ لعقود موضوع حظر سلطوي، قد نال علاوة على الإعتراف الوطني اعترافا دوليا من طرف المعهد الدولي لمعيرة الخطوطIso unicode ، وأصبحت له برامج معلوماتية متقدمة ورصيد في المدرسة المغربية.
ـ أن دراسة لوزارة التربية الوطنية المغربية قد أظهرت بالملموس أن هذا الحرف يتعلمه الأطفال بسهولة كبيرة، ويُعجبون بأشكاله الهندسية المتناسقة والخالية من أي تعقيد، وأنه الحرف الأكثر تعبيرا عن الخصائص اللسنية للأمازيغية، نظرا لكثرة العوائق البيداغوجية والتقنية في كتابة الأمازيغية بأي حرف آخر غير حرفها الأصلي.
ـ أن الكثير من الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية قد طالبت بأن تكتب قوانينها الأساسية وأدبياتها باللغة الأمازيغية وبحرف تيفيناغ، وأول حزب مغربي طالب بذلك ـ للأمانة وللتاريخ ـ هو حزب العدالة والتنمية أيام كان الدكتور سعد الدين العثماني أمينا عاما للحزب.
ـ أن معظم الأحزاب السياسية المغربية، ومنها حزبا الإستقلال والعدالة والتنمية، قد استعملت الحروف الأمازيغية تيفيناغ في حملتها الإنتخابية الأخيرة، وهو ما يعتبر موقفا يجبّ ما قبله.
ـ أن التصريح الحكومي الأخير الذي ألقاء رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران أمام البرلمان، قد تضمن بوضوح تعهّد الحكومة بوضع قانون تنظيمي للأمازيغية “مع صيانة المكتسبات المحققة”، والمقصود بها طبعا المبادئ الأربعة التي أدرجت بها الأمازيغية في المؤسسات منذ 2003، وهي الإلزامية والتعميم والتوحيد وحرف تيفيناغ، وهو تعهّد حكيم يرمي إلى فض النزاع بصفة نهائية في موضوع الهوية بالمغرب، وهو الإختيار السليم.
ـ أن “التطرف” الذي تحدثت عنه جريدة “الأسبوع”، ليس هو كتابة الأمازيغية بحرفها الأصلي المتداول داخل المؤسسات الرسمية، أو المطالبة بإنصاف لغة وطنية بمكوناتها الثقافية والرمزية في تظاهرة سلمية بالشارع لعام، بل هو محاولة تعكير الأجواء وتصفية حسابات هامشية وإيقاظ الضغائن بدون مبرّر.
أحمد عصيد كاتب وشاعر وباحث في الثقافة الامازيغية وحقوقي مناضل من اجل القضايا الأمازيغية والقضايا الإنسانية عامة