“صدى الإبداع” أو الجهل “العالم”
خصص برنامج “صدى الإبداع” الذي يبث على القناة الأولى حلقة ليلة 15 شتنبر الماضية للحديث عن “الذاكرة الغنائية بالمغرب”؛ فماذا قيل فيها؟.
كاووس ما قبل الخلق والتكوين
قيل بالحرف إنه “في فترة الثلاثينيات (من القرن الماضي) كانت هناك فوضى عارمة في مجال الغناء والموسيقى؛ وكانت أشياء فولكلورية، كانت أهازيج، كانت أنواع من الموسيقى تكاد تكون فوضوية الشكل (…)”، إلى أن تكونت في مدينة فاس فرقة موسيقية سمت نفسها “التخت الموسيقي”، استعارت القوالب المعروفة في الشرق العربي من موشحات وأدوار وطقطوقات… ويعلق صاحب هذا “التأريخ” (أنور حكيم) قائلا: “هذا يؤكد أن المغاربة خصهوم غير هذاك التلاقح الفني والثقافي ما بين المغرب والمشرق أُو يَدْليوْ بالدلو ديالهم في هذا المجال”.
كان مؤرخنا، وهو يلقي بحقائقه هذه، يتحدث بنبرات توراتية، مستعيرا لغة التوراة في تصوره تاريخ الموسيقى المغربية. جاء في سِفْر التكوين، الإصحاح الأول: “وكانت الأرض خَرِبَةً وخاليةً، وعلى وجه الغَمْرِ ظُلْمةٌ … وقال الله ‘لِيَكُنْ نور’، فكان نور… وفصل الله بين النور والظلمة”.. وهو في هذا يجري مجرى غيره من المثقفين المغاربة الذين يصدرون عن ذات المنظور الأيديولوجي الذي مفاده أن العروبة في المغرب تَجُبُّ ما قبلها وما بعدها؛ إذ قبل ظهور الأغنية العربية المعاصرة لم يكن بالمغرب غناء ولا موسيقى حقيقيان، بل “أنواع من الموسيقى تكاد تكون فوضوية الشكل”.
هذا الكلام نفسه قيل عن الشعر والقصة وغيرهما من صنوف التعبير الجمالي التي لا تتأتّى عن الثقافة-النموذج-المرجع-المعيار. فكل ما لا يفهمه العقل ‘العربي’ ولا يستسيغه الذوق ‘العربي’ فهو يتراوح بين العدم والفوضى: أي اللاّشكل؛ وعليه، فإن الأغنية والموسيقى الأمازيغيين أصوات غير متمفصلة، لا دلالة لها ولا قصدية.. إنها، بعبارة أخرى، امتداد لأصوات الطبيعة (ما قبل الثقافة). ذلك أن الثقافة، ومنها الموسيقى، خاصية عربية؛ لذلك فإن “المغاربة خصهوم غير هذا التلاقح الفني والثقافي بين المغرب والمشرق أو يدليو بالدلو ديالهم في هذا المجال” (كلام المؤرخ)..حسب هذا التصور العرب-مركزي يكون المغاربة طبيعةً تحتاج إلى لقاح ثقافي مشرقي لكي ينتجوا أشكالا ثقافية ذات معنى، يخرجون بها من حالة الفوضى واللاّشكل.
ورغم أن المشارقة لا يكفّون عن تذكير المستَلَبين من المغاربة بأن عليهم أن يأتوهم بشيء آخر يختص به المغرب، لا أن يردوا إليهم بضاعتهم، فإن هؤلاء لا يريدون الانفطام، مستعذبين التلذذ بتعذيب الذات كلما كانوا عرضة لـ’عقدة التفوق’ المشرقية التي لا يكفون عن التشكي منها: إنه عذاب الحب الذي هو أحلى عذاب، على رأي المرحومة أم كلثوم…
يقول الباحث في الذاكرة الغنائية المغربية راويا سيرة محمد المزكلدي: “المثير في الأمر أنهما (صاحب السيرة ومحمد السقاط) أول ملحن ومطرب غاديين إعرّْفو بالأغنية المغربية. بمجرد ما كيلتقيو برموز الأغنية العربية في تلك المرحلة، أمثال رياض السنباطي، محمد القصبجي، محمد عبد الوهاب، الخ، مَلِّي كيقدمو ليهم بعض القطع، كيقدمو قصائد بالعربية الفصحى أغلبها للراحل أحمد البيضاوي؛ فكان السؤال من طرفهم، كيقولو ليهم: فين هي الأغنية المغربية؟ هذا الشي راه كأنه بضاعتنا رُدت إلينا. هذه قصائد ملحنة بطريقة رصينة بطبيعة الحال، لأن فيها جهد، فيها هذا، ولكن بغينا شي حاجة اللي فيها تمغربيت”.
لكن إذا كان المشارقة لا يريدون من المغاربة أن يقدموا إليهم مشرقا مكررا، بل يريدون أن يسمعوا منهم “شيئا مراكشيا”، فإن هَمَّ أجيال كاملة من الضحايا الراضين بالمثاقفة اللامتوازنة، ومنهم القائمون على برنامج “صدى الإبداع” وضيوفهم، هو – تحديدا – إفراغ (évacuation) المُعْطى الأمازيغي، الذي هو عَيْنُ هذه “التمغربيت”، التي تدل صيغتها الصرفية الأمازيغية ذاتها على ذلك المعطى الذي لا يريدون تسميته باسمه.
عمى وصمم إيديولوجيان
عبر آلاف السنين من التفاعل مع الوجود بكل أبعاده بلور الإنسان المغربي أشكال تعبير جمالي متعددة ومتنوعة؛ صاغها بشتى المواد: أصوات لغوية وغير لغوية ومواد طبيعية وألوان وغيرها؛ فتميز بشخصية متفردة بها يُذكَرُ بصفته شعبا من شعوب الأرض، لا يَنْدَغِمُ في غيره من الشعوب ولا يُرَدُّ إليها ولا يُختزَلُ فيها..هذا هو الواقع الأنثروبولوجي والتاريخي؛ لكن الأيديولوجيين لا يروقهم سماع هذا الواقع ورؤيته، ويفضلون الاستعاضة عنه بـ”واقع” زائف مصطنع، هو عبارة عن مرآة كاذبة لا تعكس سوى الوجوه الشائهة لصانعيها؛ وخلال ذلك، يفرغون المعطى الأمازيغي الذي، لكونهم يجهلونه، لا يشكل في نظرهم إلا نوعا من الهيولى السابقة للأشكال. لقد “فَبْرَكوا” ثقافة بديلا لا جذور لها ولا قوام، مستعملين ما اقترضوه من عناصر متنافرة من الثقافة المرجع، وسموها ثقافة عصرية (أغنية عصرية، موسيقى عصرية…)، ونصبوها باعتبارها “الثقافة” بـ”ال” التعريف، فلا ثقافة قبلها ولا معها ولا بعدها. هكذا فإن الأغنية المغربية العصرية هي حصرا الأغنية التي ليست سوى رَجْعِ صدىَ للأغنية الشرقية. أما الأغنية الأمازيغية الأصيلة، النابعة من الوجدان والأرض المغربيين، فهي في نظرهم “العالِم” أصوات طبيعية وهمهمات مبهمة لا ترقى إلى أن تسمى أغنية أو موسيقى.
خطر المُستَلَب السعيد
إن أسوأ أنواع الاستلاب استلابُ المثقفين؛ ذلك أن استلابهم لا يقتصر عليهم، بل ينتقل إلى غيرهم ممن لا يملكون ما يكفي من الحس النقدي الذي يمكِّنهم من تفكيك مقولات هؤلاء الذين يظهرون بمظهر العلماء العارفين: مظهر يزيده قوةً كونُهم يُسوِّقون ضلالاتهم عبر وسائط سمعية بصرية عمومية، بما يصاحب ظهورَهم من مؤثرات خاصة ترتبط بالإخراج الذي يسعى إلى إضفاء جو من الهيبة العلمية على البرنامج وضيوفه.
صدى بدون صوت
يعتقد القيمون على برنامج “صدى الإبداع” اعتقادا راسخا أن الثقافة المغربية ثقافة عربية وفرنسية حصرا؛ فلا يُستدعى إلى البرنامج إلا من يدور في فلك تَيْنِكَ الثقافتين؛ ولا يُعْلَن فيه إلا عما يصدر في لغتيهما من أعمال. ولا يبدو أن الإقصاء المنهجي للثقافة الأمازيغية من هذا البرنامج الثقافي الذي يبث على قناة عمومية يمولها الملزمون الأمازيغيون بضرائبهم – لا يبدو أنه يزعج الهيئة العليا للسمعي-البصري، ما دام ذلك يكرس الأيديولوجيا السائدة لدى القيمين على مؤسسات الدولة.
أن الإمعان في خنق صوت الإبداع الأمازيغي يجعل صدى البرنامج المذكور صدى بدون صوت غير صوت الصخب المراد به التشويش على الصوت الأصلي الأصيل.