الأغنية الأمازيغية وضرورة الإنفتاح على العالم


من الملاحظ أن الأغنية الأمازيغية بجميع ألوانها بسوس تعرف تطورا ملحوظا في الشكل كما في المضمون (مجموعات الروايس – المجموعات الغنائية العصرية – المبادرات الفردية العصرية …الخ) ، ساعدها على ذلك انتشار الآلات العصرية (( القيثارة الاٍلكترونية – القيثارة الجافة – La guitare sèche  ، القيثارة باص – La guitare basse  آلة البانجو ، آلات الاٍيقاع المتنوعة العادية والاٍلكترونية ، السانتيتيزور – Synthétiseur  ) بالإضافة اٍلى الآلات الأمازيغتين التقليديتين ( الرباب – لوتار – الناقوس ) بالإضافة طبعا اٍلى آلة طام طام والدربوكة والهجهوج التي أدخلت فيما بعد  ….الخ ))  و التي صارت توظف بشكل أكثر اٍحترافية والتي اٍستفادت بدورها من التقنيات الحديثة ؛ خاصة الميكروفونات ومكبرات الصوت الحديثة التي تمتلك القدرة في تجويد الأصوات وتمويهها وكذلك اٍنتشار تقنية ال ” دجي دجي ” التي لعبت دورا كبيرا في توظيف الأصوات المتطورة جدا في مجال الأغنية العالمية ، وكذلك التقنيات الحديثة في التسجيل والميكساج والتصوير والتوضيب والتنسيق و التوزيع و التمويهات الموسيقية – Les effets musicaux  ، أضف اٍلى ذلك اٍنتشار استوديوهات التسجيل المتطورة والمجهزة بأحدث التقنيات خاصة برمجيات الكومبيوتر التي أصبحت توظف في مجال تنويع الآلات الموسيقية وكذلك الأصوات المختلفة والكورال والتمويهات الموسيقية وبرمجة المقاطع الموسيقية المختلفة …الخ ، والتي صار يشتغل بها تقنيون ومهندسون شباب مؤهلون بدرجة عالية للعمل في مجال الصوتيات والتوضيب الموسيقي .

غير أن هذه الأغنية واٍن كانت قد اٍستفادت من كل هذه الاٍمكانات التقنية ، اٍلا أنها تعرف نقصا كبيرا على مستوى الاٍنتشار العالمي وكذلك من حيث شح المضمون الهادف ، وغياب الاٍبداع ، والاٍنخراط الفعلي في الحداثة الثقافية والفكرية والموسيقية التي تقودها الاٍنتلجسيا الثقافية الأمازيغية ، وكأن هنالك بونا شاسعا بين عمل الفريقين ، وجزرا سيكولوجية تفصل بينهما بحيث لا يستفيد أحدهما من الآخر بشكل اٍيجابي ، حتى واٍن ظهرت بعض المحاولات أو بعض المبادرات هنا وهناك فاٍنها تبقى معزولة ولا تخلق أي صدى  كما لا تخلف أي أثر باتجاه الرقي بالذوق العام الأمازيغي نحو مصاف الذوق الراقي والواعي والملتزم.

  • اٍشكالية الثقافة المهيمنة

تعاني الأغنية الأمازيغية بسوس من اٍشكال هام ورئيسي يتمثل في كونها عبارة عن أغنية تنتج داخل تنويع ألسني لا يمثل سوى 27 % من مجموع عدد الناطقين بالتنويعات الألسنية الأمازيغية بالمغرب  ، وذلك حسب الإحصاء، العام للسكان والسكنى الصادر عن المندوبية للتخطيط لسنة 2014، وهذه الحقيقة تؤثر على درجة اٍنتشار هذه الأغنية أو هذا اللون الموسيقي الذي لا يتجاوز مجال اٍنتشاره مجال اٍنتشار التنويع الأمازيغي الموسوم ب ” تاسوسيت ” وهذا المدى قد يتمدد أو يتقلص اٍدا قمنا باستحضار الحدود الجغرافية الحقيقية لمجال تداول تنويع ” تاسوسيت ” سواء باعتبار انتشار الناطقين بها في المدن المغربية في الشمال والجنوب ( الدار البيضاء – الرباط – طنجة – وجدة  – العيون – الداخلة …الخ ) أو باعتبار المجال الجغرافي والذي يمتد من واد نون جنوبا  اٍلى الصويرة غربا ودمنات شمالا ومحور ورزازت – زاكورة شرقا ، وجبال الأطلس الكبير الغربي والصغير الغربي وسهل سوس ومنطقة الحوز ، ومدن كلميم وتزنيت وطاطا واشتوكة أيت باها جنوبا وأكادير والصويرة  الى المحيط الأطلسي غربا ومراكش وشيشاوة وامي ن تانوت الى دمنات شمالا وورززات اٍلى زاكورة شرقا ، ورغم أن الاٍحصائيات الرسمية تصنف التنويع الألسني ل ” تاسوسيت ” باعتباره الأكثر من حيث عدد الناطقين من بين التنويعات الألسنية الأمازيغية بالمغرب ، مقارنة ب ” تمازيغت الأطلس المتوسط ” و ” تاريفيت ” اٍلا أن هذه المؤشرات كلها لا تكفي للقول بأن الأغنية الأمازيغية بسوس تعرف اٍنتشار واسعا ؛ أولا لأن هناك مؤشر اٍنتشار أو هيمنة ألوان موسيقية أخرى في هذا المجال الجغرافي الخاص ب ” تاسوسيت ” وكذلك مؤشر زحف التمدن وبداية تقلص أعداد الناطقين بهذا الفرع الألسني حتى في منطقة سوس نفسها ، وهذا المؤشر يؤثر بطبيعة على مستوى اٍنتشار الأغنية الأمازيغية الناطقة بهذا الفرع الألسني .

ففيما يخص مؤشر اٍنتشار أو هيمنة ألوان موسيقية أخرى سواء محلية أو أجنبية ، وهو مؤشر مرتبط بالمؤشر الثاني بطبيعة الحال ، فهو راجع اٍلى الاٍنتشار السريع للدارجة المغربية واٍنتشار تداولها في مدن وقرى منطقة سوس ؛ وذلك بفعل اٍنتشار التلفزيون ووسائل التواصل الاٍجتماعي ، وهذا راجع اٍلى عاملين ؛ فأما العامل الأول فمرتبط بالثقافة المهيمنة والتي هي الثقافة العربية ، بحيث أدى هذا العامل اٍلى تغير الذوق العام خاصة في المدن مثل أكادير وتزنيت والصويرة وورززات ومراكش باتجاه تذوق الأغنية العربية العصرية ، سواء التي ننتتج بالمغرب وبطاقات وأصوات مغربية أو تلك التي تنتج خارج المغرب ؛ خاصة في الشرق الأوسط والخليج ، كما أن هناك نسبة مهمة من المتذوقين للأغنية الغربية كذلك ، في حين يبقى مجال تداول الأغنية الأمازيغية وبالأخص التقليدية ( أغنية الروايس ) في القرى والمناطق الجبلية ، البعيدة عن المدن وعن صخب الملاهي والقاعات والصالونات والمهرجانات…الخ ، وفيما يخص المؤشر الثاني والمرتبط بزحف التمدن وبداية تقلص أعداد الناطقين بالفرع الألسني ل ” تاسوسيت ” ، وهما مرتبطان كما أشرت اٍلى ذلك آنفا ، فاٍن الحقائق المستقاة من الميدان ومن خلال الملاحظة بالمعايشة تقول بأن هناك موجة تعريب هادئة وناعمة ، تساهم فيها المدرسة وكذا وسائل الاٍتصال ( خاصة التلفزيون من خلال الأفلام المدبلجة ) ووسائل التواصل الاٍجتماعي ، بحيث نجد أن الشباب في المدن صاروا يتحدثون فيما بينهم بالدارجة المغربية سواء في الملتقيات العائلية أو في الأماكن العامة ، وهذا الأمر اٍمتد اٍلى القرى النائية أيضا ، بحيث نجد أن العائلات التي تقطن بالمدن يتحدث أفرادها الدارجة المغربية أثناء زياراتها للقرى التي تنحدر منها في الأعياد الدينية أو بعض المناسبات ، كما أن أغلب العمال الذين يعملون في المدن المغربية مثل الدار البيضاء والرباط وطنجة صاروا يتحدثون هم وأفراد عائلاتهم بالدارجة المغربية عندما يعودون اٍلى قراهم الأصلية ، كما أن أغلب الشباب بالقرى صاروا يتواصلون فيما بينهم في وسائل التواصل الاٍجتماعي بالدارجة المغربية مكتوبة بالحرف اللاتني عوض الأمازيغية ، وهذا كله له تأثير على الذوق الفني والموسيقي ، بحيث صار الشباب يميلون اٍلى الاٍستماع اٍلى الأغاني العربية سواء الشعبية أو العصرية ، كما له تأثير على أعداد الناطقين بالأمازيغية كذلك الذي أصبح يتناقص بشكل متسارع ، حيث صار معدل اٍنتشار الدارجة المغربية بمنطقة سوس يشكل حوالي 61.05 % حسب الاٍحصائيات الرسمية .  

  • اٍشكالية غياب الاٍبداع

لعل من بين العوامل التي أدت اٍلى عدم اٍنتشار الأغنية الأمازيغية السوسية بالشكل المطلوب والمرغوب هو عامل غياب الاٍبداع، قد يختلف معي القارئ فيحاجج بالقول اٍنه بالعكس في الآونة الأخيرة هناك كم هائل من الاٍنتاجات الفنية التي تتوفر فيها مواصفات الاٍبداع ، بحيث لا يمكن القول بغياب الاٍبداع مطلقا ، وهنا أود أن أعلن أنني أتفق مع هذا الطرح بشكل نسبي ، لأن ما أقصد بغياب الاٍبداع ليس هو الكم الهائل من الاٍنتاجات الفنية التي تنتشر الآن على اليوتيوب ، بل أقصد تلك اللمسة الفنية الباهرة التي تعطي قيمة مضافة للفن والموسيقى والثقافة الأمازيغية ، أعتقد أن ما هو موجود يسير في نفس الخط النمطي ولا نكاد نعثر على شيء مميز اٍلا لماما ، ليس هناك اٍبداع في الموسيقى والألحان والكلمات والأشكال والألوان والأماكن ، وهنا أتحدث عن الأغاني المصورة أو الكليب فيديو – Clip vidéo  ، هناك نمطية وتقليد وليس هناك أي نفس تجديد وأعود مرة أخرى فأقول بنسبية هذا الطرح ، لأني لا أود أن أجور على بعض المبادرات والمحاولات الجادة والهادفة والتي تمثل الاٍبداع المنشود والمرغوب كما أتصوره شخصيا ، ولكنها رغم ذلك تبقى قليلة جدا بل ونادرة وأحيانا مهمشة ، أعتقد أن الاٍبداع يتمثل في الكلمة واللحن والموسيقى والصورة  أي الأشكال والألوان والأماكن ؛ وهو مرتبط بالاٍجتهاد وسعة الفكر والاٍطلاع على التجارب المقارنة وكذا الاٍنفتاح على العالم ، وعدم التقوقع على الذات ، يتعين على الفنان أن يكون ذو ثقافة واسعة ولديه تجارب متعددة ومتنوعة ومطلع على تجارب الشعوب الأخرى وفنونهم بحيث يستطيع أن يأخذ من تجاربهم ما يغذي به اٍبداعه دون الخروج عن القواعد المألوفة ، الاٍبداع وفق تصوري الشخصي هو عملية معقدة ومركبة يمكن تشبيهها بعمل النحلة التي تجلب الرحيق من كل حدب وصوب لتصنع لنا ذلك الشهد اللذيذ من العسل ، أو بعمل العالم في المختبر الذي يمزج المواد الكيماوية بعضها ببعض ليصنع مادة جديدة هي عبارة عن دواء أو بلسم أو لقاح أو شراب …الخ ؛ لا يمكن للشاعر أن يكتب شعرا راقيا اٍلا اٍذا كان مطلعا على شعر من سبقوه من الشعراء ومن هم معاصرون له  سواء المنتمون اٍلى ثقافته أو ثقافات ولغات الأمم الأخرى ، ولا يمكن للكاتب أن يكتب قصة أو رواية أو مسرحية دون أن يكون لديه اٍطلاع على هذه المجالات الاٍبداعية في لغات وثقافات أخرى ، الاٍبداع  الذي لا يستفيد من تجارب الأمم الأخرى هو اٍبداع منكفئ على الذات وهو محكوم عليه بالاٍضمحلال والموت ، أعتقد أن أغلب الاٍنتاجات التي تروج الآن في وسائل التواصل الاٍجتماعي وخاصة اليوتيوب تعتبر نمطية جدا وتنتج داخل نفس النسق المغلق والذي يعيد اٍنتاج ذاته بشكل مغرق في التقليد ، لكن لا يجب أن يفهم من الحديث عن الاٍستفادة من تجارب الأمم الأخرى الدعوة اٍلى استنساخ تجارب هذه الثقافات أو الذوبان الكلي فيها ، بل يجب أخذ ما هو ملائم وممكن وتوظيفه بشكل منطقي وعقلاني ومقبول ، فبالنسبة للأغنية الأمازيغية السوسية هناك قاعدة ذهبية يجب أن تحترم ، ألا وهي المقام الخماسي ، وهناك آلات ثراثية ( الرباب + لوتار ) تعتبر من كنزا ثمينا لا يجب التفريط فيه ، وبخصوص هذه النقطة هناك العديد من الشعوب التي توظف المقام الخماسي ( خاصة الشعوب الآسيوية ) يمكن الاستفادة من تجاربها سواء على مستوى الألحان مع اخضاعها لبعض التعديل حتى تكون ملائمة لمنطق الأغنية الأمازيغية السوسية ، ونفس الأمر يمكن أن ينسحب على الموسيقى العالمية قصد الاٍستفادة من اٍمكانياتها المتنوعة .

لا أريد أن أعطي وصفات جاهزة للإبداع، لأن هذا الأخير عبارة عن بحث مضني عن التجديد والتحديث كذلك، واجتهاد فردي وجماعي في سبيل الحصول على عمل ذي جودة عالية وتقديم قيمة مضافة سواء للمتلقي أو للثقافة الأم أيضا أو الثقافة الكونية أيضا ، وعندما أقول بغياب الاٍبداع فأني أعني أن الأغنية الأمازيغية السوسية تفتقد اٍليه بطبيعة الحال ، ففي مجال الكلمات أرى أنه ليس هناك مجهود يبذل من أجل كتابة قصائد شعرية يمكن أن يلمس فيها المتلقي هذا المجهود المبذول ، مع أن هناك بعض الاٍستثناءات ، ولكنها لاتزال قليلة جدا ، الاٍبداع في الشعر أو الكلمات وفقا لتصوري الخاص ، يقوم على تلاث ركائز أساسية ، الاٍبداع على مستوى الصورة الشعرية ، والاٍبداع على مستوى اللغة المستعملة والاٍبداع على مستوى الموضوع أو التيمة – Thème  .

 فالإبداع على مستوى الصورة الشعرية يقتضي أن يكون للشاعر خيال واسع جدا، فيسافر على متن أجنحته نحو عوالم ساحرة وبعيدة مليئة بالرومانسية والجمال فيجلب منها صوره الشعرية العميقة جدا والغزيرة من حيث المعنى والمبنى والدلالة، والاٍبداع على مستوى اللغة المستعملة يتطلب البحث المضني عن الكلمات والمترادفات الراقية والأصيلة والتي تفي بغرض تقريب المعنى دون السقوط في الاٍبتذال، ومحاولة التخلص من الكلمات الدخيلة والمستهلكة كثيرا قدر الاٍمكان، يجب على الشاعر أو كاتب الكلمات الذي هو شاعر ومبدع حقيقي  أن يعمل على نحت الكلمات الجديدة من جذورها اللغوية الأصلية مثلما يفعل النحات عندما ينحت التماثيل فيصنع منها مشاهد في غاية الروعة ، ألم يكن الشاعر قديما ولايزال عبارة عن معجم يمشي على قدمين؟ ألم يكن الشعراء الروايس القدامى هم من حافظوا على المعجم الأمازيغي الأصيل؟ من المعلوم أن اللغة الشعرية يجب أن تكون لغة سلسة وراقية؛ تخاطب العقل والوجدان معا، ولا يجب أن تكون عبارة عن لغة مباشرة ومبتذلة بمعنى لغة سوقية ، يجب العمل على الرقي بالكلمات نحو ارتياد تلك العوالم السحرية التي تصنعها الصور الشعرية، وهذه الأخيرة لن تبنى بغير امتلاك المعجم الأمازيغي الأصيل والحس الشعري المرهف والموهبة الشعرية الراسخة بطبيعة الحال، أما الاٍبداع على مستوى الموضوع أو التيمة، فهو أساس بناء المعنى والدلالة والمغزى، وبدون توفر هذه الركائز فلا يمكن الحديث عن الاٍبداع أصلا، ألاحظ أن أغلب التيمات المتداولة ليست فيها جدة وليس فيها تحديث ، اٍلا في بعض التجارب القليلة جدا ، في حين لايزال هناك مجال واسع من التيمات بقي خاما ولم يكتشف بعد .

وأعرج على اٍبداع القدامى لأقول بأنهم أبدعوا بالفعل على مستوى التيمات ، بحيث نوعوا فيها  بشكل لافت ؛ فهناك تيمة الغزل والعشق وتعالج برمزية عالية جدا بعيدا عن المباشرة والاٍسفاف ( يتم وصف المرأة أو الحبيبة عموما غالبا بوصف الباز – البلار – الطاوس – أييس / الفرس – أزنكض / الغزال – الحمام / أتبير …الخ ) وقد اٍختص بهذه التمية الرايس الراحل أحمد أمنتاك ، وهناك تيمة الوصف ، يتم من خلالها أو بواسطتها وصف البلدان / تيميزار ، وقد اختص الرايس الراحل الحاج بلعيد في هذا النوع من الوصف ، كنوع  من أدب الرحلة المعروف في الأدب العالمي ، وهناك تيمة الحكي أو الأسطورة ، يتم بواسطتها سرد الحكايات الشفهية والأساطير ، أسطورة حمو أونامير أو القاضي للرايس الراحل عمر واهروش ، وهناك كذلك التيمة الاٍجتماعية والتي تمتاز باستعراض الأوضاع الاٍجتماعية ونقدها وقد اختص الرايس الراحل محمد الدمسيري بهذه التيمة ، قد يفهم بعض القراء أني هنا أدعو ألي استلهام تجارب القدامى بدون تمحيص ، وهذا الاٍدعاء غير صحيح ، ويعني ذلك أن على الفنان أو الشاعر أو الموسيقي الأمازيغي أن يكون على علم وبينة من تراث القدامى وأن يحفظه اٍذا لزم الأمر ليس من أجل اٍعادة اٍجتراره بل من أجل الاٍستفادة منه  ، وهذه  الدعوة كذلك  ليست دعوة للنكوص نحو الوراء ، اٍنما أورد هذا على سبيل المقارنة فحسب ، لأن الاٍبداع والحداثة والتجديد بالنسبة اٍلي هو أن تجد أباك يحرث بمحراث له رفش واحد فتضيف له أنت رفشا آخر (..) أعتقد أنه بخصوص هذه النقطة فقد آن الآوان للتخصص وعدم اٍحتكار الفنان الواحد لكل المجالات كما هو معمول به الآن ، يجب أن يكون لدينا شعراء ( لا أقصد عدم وجود شعراء ) وكتاب كلمات مرموقين وموسيقيين موهوبين ثم المغنون كل يعمل في مجاله الخاص ، والتخصص يساهم في تجويد العمل الفني بحيث ينكب كل طرف على مجاله ويمنحه الاٍهتمام المستحق ، يجب على الفنان الأمازيغي أن يضع في الحسبان وهو ينتج عملا فنيا أنه يتوجه به ليس فقط اٍلى المتلقي المحلي ، بل اٍلى المتلقي العالمي ، وفي هذا الاٍطار يتعين العمل على هذا المنحى بشكل مكثف بحيث يمكن تشبيه الأمر بعارض يعرض بضاعة في معرض دولي هذه الأخيرة يجب أن تكون في قمة الجودة لأن المستهلك ليس عاديا ؛ ولآن العارض يمثل الجهة التي ينحدر منها كما يمثل الدولة التي ينتمي اٍليها كذلك بكل ما تحمل كلمة التمثيل والاٍنتماء من معاني الهوية والخصوصية والتميز بمعنى أنه يساهم في الثقافة الكونية من بوثقة الخصوصية الأمازيغية ، لذا فاٍن زوار المعرض يلاحظون مدى تفرد هذه الخصوصية ومدى رقيها وجاذبيتها ، ويبحثون عن أشياء مختلفة وجميلة ومتحضرة أيضا .

  • اٍشكالية غياب التواصل والاٍنفتاح

اٍذا كان التواصل هو عنوان العصر الحالي، بحيث عرف تطورا ملحوظا في وسائل التواصل الرقمية، فاٍن أي ثقافة لا تستطيع أن تتواصل بشكل جيد سواء مع محيطها الداخلي أو الخارجي، لا شك سوف تحكم على نفسها بالموت البطيء، وفيما يخص الثقافة الأمازيغية فاٍني أعتقد أنها عبارة عن جزر متباعدة وليس هناك أي تواصل فيما بينها، وهذا يؤثر على جودة الاٍبداع الفني الذي يقدم، فالفنان الأمازيغي سواء في اٍطار الأغنية التقليدية ( أغنية الروايس ) أو العصرية ( أغاني المجموعات ) ، لايزال يشتغل بمنطق { خيرنا ما يديه غيرنا } ، بعيدا عن التواصل الثقافي مع المثقف والشاعر الأمازيغي ، وهذا الأخير لايزال يشتغل بدوره في برجه العاجي بعيدا عن مجالات التلاقح الفكري مع الشعراء الروايس والفنانين المسرحيين والسينمائيين ، وحتى لو تم اللقاء بينهم في بعض المناسبات أو المهرجانات ، لا يخرج الأمر عن الصدفة ولا يكون مثمرا ، يجب على الجهات المنظمة للمهرجانات الثقافية أن تنظم موائد مستديرة للتلاقح الفكري والثقافي والتعرف بين الفنانين والمثقفين ، ويجب على الفنانين بجميع أصنافهم أن ينفتحوا على المثقف الأمازيغي وأن يحملوا على عاتقهم هم اٍيصال الثقافة الأمازيغية اٍلى العالم اٍنطلاقا من بوثقة الخصوصية ، لكن في اٍطار من الاٍلتزام والعمل الجاد والراقي كذلك ، وعندما أتحدث عن التواصل والتلاقح الفكري والثقافي ، فاٍني لا أستبعد التواصل والتلاقح الفكري والثقافي الوطني ، بين جميع جهات وقرى ومدن البلاد ، جنوبها وشمالها ، شرقها وغربها ، يجب أن يتم التلاقح الفكري بين جميع المكونات الثقافية المشكلة للنسيج الثقافي الوطني ، بحيث يشكل ذلك مزيجا أو خليطا متجانسا يساهم في التعريف بالثقافة الوطنية على المستوى العالمي بشكل لائق .

في اٍطار الدينامية التي صارت تعرفها الثقافة الأمازيغية في السنوات الأخيرة والتي نتج عنها بروز طاقات فنية شابة اٍنخرط بعضها في تدوين التراث الأمازيغي وأخرى في الاٍبداع بكل أصنافه ( الشعر والقصة والرواية والمسرحية ) وهناك جوائز تنظمها جمعيات المجتمع المدني والمؤسسات الرسمية في هذا الاٍطار ، هذه الطاقات تحاول أن تستلهم روح العصر في أعمالها الفنية سواء في الشكل أو المضمون، غير أن الملاحظ أن أغلب التجارب والمحاولات الفنية المبذولة لا تكاد تخرج عن النمطية المألوفة والتي تشتغل في اٍطار نفس المنطق التقليدي المنغلق على الذات وعدم الاٍنفتاح على الشعر المكتوب ،  و في غياب روح الاٍبداع سواء على مستوى الألحان أو الكلمات (الشعر ) أو التيمات / المواضيع ، لا تزال تجتر نفس المواضيع بشكل مبتذل ، ورغم وجود المئات من الدواوين الشعرية المكتوبة باللغة الأمازيغية لأولئك الشعراء الشباب منهم والرواد ،  رغم ما صارت توفره وسائل التواصل الاٍجتماعي والاٍنترنيت عموما من اٍمكانيات تواصلية هائلة تتجاوز  كل الحدود المحتملة .

اٍن الاٍنفتاح على العالم من نافذة الخصوصية يتطلب أن يكون الفنان متسلحا بمعرفة ذاته بشكل اٍيجابي ، ومعرفة الذات لا تعني الاٍنغلاق أو العودة اٍلى الوراء ، بل اٍن معرفة الذات هي المحرك الأساسي للاٍنطلاق نحو العالم الرحب ، معرفة الذات تقتضي أن يكون الفنان واعيا بكونه يحمل ثقافة ولغة مختلفة ، وضمن هذا التصور سيسعى اٍلى الاٍنخراط في الثقافة الكونية باعتبار ثقافته ولغته الأصلية معطى اٍنساني ذي قيمة مضافة ، سيعمل على المساهمة بهما في التراث الاٍنساني من بوثقة الخصوصية ، وعندما يكون حاملا لهذا الوعي المستنير لاشك سيعرف أهمية ما عنده ، سوف يعرف أن لغته وثقافته تشكلان رصيدا اٍنسانيا مهما ، يجب أن يسعى اٍلى الحفاظ عليه وتطويره ، وسيكون لديه الاٍعتزاز بذاته وترتفع معنوياته باعتبار أن ما لديه من ثقافة ولغة ليس أقل شأنا من ثقافات ولغات الشعوب المكونة للمجتمع الاٍنساني على وجه المعمور مهما كانت متطورة  ، وأن كل لغته وثقافته ماهي اٍلا رصيد اٍنساني مشترك بين جميع أبناء البشرية ، ومن هذا المنطلق يتعين على الفنان الأمازيغي أن يعرف نقاط القوة الكامنة في لغته وثقافته وأن يوظفها بشكل فيه الكثير من الاٍبداع والصنعة ، يجب أن يسعى لاٍقناع أصحاب اللغات والثقافات الأخرى أن ثقافته ولغته هي الأخرى جديرة بالاٍحترام وأن عليها  أن تحتل مكانها ليس فقط بين اللغات والثقافات المحلية والوطنية بل بين اللغات والثقافات العالمية ، وبهذا الخصوص فالثقافة الأمازيغية بدورها فيها ما هو ثراثي وماهو جديد أو حديث ، وماهو تراثي يجب أن يوظف للتعريف بهذه الثقافة على المستوى الكوني ، باعتباره يشكل تلك البصمة المختلفة لهذه الثقافة على المستوى الكوني ، لنأخذ على سبيل المثال الأكسوسوارات الجميلة جدا والألوان المزركشة الموجودة في الزي النسائي الأمازيغي ، اٍنها علامة على تفرد وأصالة الثقافة الأمازيغية ، يجب أن توظف بشكل راقي في سبيل التعريف بتميز الثقافة الأمازيغية ، في الأغاني المصورة الموجهة للعالم  ، يجب أن نترك فرصة للآخرين لكي يكتشفوا ما لدينا من كنوز تراثية رائعة ، وسوف نكسب الاٍحترام الذي نستحقه بعد ذلك .


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments