“كورونا” يستصرخ الإنسان فينا
خلال الأسابيع الأولى التي بدأ فيها فيروس كورونا بالانتشار في الصين، توصل الصينيون بشحنة من المساعدات الطبية اليابانية التي ختمت بعبارة مقتطفة من قصيدة لشاعر صيني يقول فيها:
“لدينا جبال وأنهار مختلفة**لكننا نتشارك الشمس ذاتها والقمر والسماء”.
الإشارة نفسها تكررت هذه المرة من طرف الصينيين أنفسهم عندما أرسلوا قبل أيام قليلة معدات طبية إلى إيطاليا المنكوبة مرفوقة برسالة إنسانية من قصيدة منسوبة للفيلسوف والشاعر الروماني سينيكا يقول فيها:
“نحن أمواج من نفس البحر،
أوراق من نفس الشجرة،
أزهار من نفس الحديقة”.
إنه نشيد الإنسانية الذي يتعالى عن الانتماء العرقي والإيمان الديني والتنافر الإيديولوجي. فنحن نتشارك جميعا الكوكب نفسه، نستدفئ ونستنير بشمس واحدة، ونلتحف سماء واحدة، ونناجي الليل تحت قمر واحد، يضمنا جميعا البحر نفسه، ونستظل بالشجرة ذاتها، وننبت في الحديقة نفسها. نحن مختلفون في أعراقنا وأجناسنا وأدياننا وأفكارنا، لكننا ننتمي إلى حضن واحد يضمنا جميعا.
نحن في زمن كورونا؛ العالم بأسره في مركب واحد. هذا الفيروس لا يميز بين الناس، يقطع الحدود بلا تأشيرة، وينتقل من بلد إلى آخر دون أن ترصده الرادارات أو تلتقطه الكاميرات. إنه يضع طاقية إخفاء تجعله قريبا جدا منا، لكننا لا نراه ولا نستشعر وجوده بيننا. قد نلمسه أو نصافحه أو نستنشقه في أية لحظة…
وفي خضم ذلك تظل إمكانية أن نصبح أرقاما في لائحة ضحاياه احتمالا قائما. لذلك، فإن كل واحد منا على هذا الكوكب معني بهذه الجائحة، وكل واحد منا مطالب اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن يتجاوز أنانيته وانغلاقه الذاتي، ويتخلى عن شرنقته العقدية أو العرقية أو الإيديولوجية لينفتح على الغير.
من المؤكد أن سؤال الأنا والغير لا يقتصر على مجتمع دون آخر، ولا يخص طائفة بعينها، بل يمثل إشكالية حقيقية تتحكم تفاصيلها ومفارقاتها بشكل كبير في طبيعة وواقع العلاقة بين البشر، سواء كانوا أفرادا أم جماعات في كل مناطق العالم.
ذلك أن الآخر المختلف الذي يبدو بوصفه نفيا للأنا هو “أنا آخر” بالمعنى الفلسفي، لذلك كان جون بول سارتر دقيقا عندما اختزل مفهوم الغير في عبارة: “الأنا الذي ليس أنا”. وهذا يعني أن حضوره بهذه الصفة يجعله حاملا لمفارقة أساسية في علاقته بالذات، فهو يؤشر للمخالفة (ليس أنا)، لكنه يشير في الوقت ذاته إلى المشابهة (الأنا).
هذه المفارقة (المشابهة/المخالفة) هي المدخل الرئيسي الذي يؤسس للعلاقة مع هذا الغير باعتباره إنسانا آخر. فعندما يكون المبدأ هو العرق أو الجنس أو الدين، فإن العلاقة مع الغير تكون محكومة بمعيار المخالفة، مما يؤدي إلى التباعد والتنافر والعداوة. أما إذا كانت الإنسانية هي مبدأ وغاية وجودنا وأفعالنا، فإن علاقتنا بالغير لن تتأثر باختلاف الأفكار والمعتقدات والإيديولوجيات والانتماءات، لأن ما يجمعنا هو الإنسان بدون كليشيهات أو لافتات أو أحكام مسبقة.
في زمن “كورونا” إذن سقطت كل الحدود بين الأنا والغير. على الأقل كلنا سواسية أمام الجائحة، وكلنا نعيش نفس الخوف ونفس القلق، ونتشبث بنفس الأمل. أكثر من مليار إنسان في هذا العالم يعيشون في حجر صحي طوعي أو إلزامي. لا فرق بين متدين وكافر، ولا بين غني وفقير، ولا بين حاكم ومحكوم…
فلا دينك يعصمك، ولا عرقك ينجيك، ولا منصبك ينقذك… وحده العلم هو الملاذ، والطب هو الخلاص. وعندما يأتي الترياق سيكون انتصارا للإنسانية جمعاء.
لكن، وفي انتظار الفرج كن إنسانا في تدينك وفي تفكيرك وفي سلوكك… وسيكون بإمكانك أن تشارك في عزف نشيد الإنسانية عندما تحزن لآلام الآخرين، سواء كانوا قريبين أو بعيدين، وتهب لمساعدة المحتاجين قدر استطاعتك، وتنخرط في المجهود المبذول من داخل دائرة اختصاصك ومسؤوليتك، وتتعاطف مع كل الأمم والشعوب التي اجتاحها الوباء بغض النظر عن أديانها أو أعراقها…
سيكون بإمكانك أن تخدم الإنسانية من حيث لا تدري إذا التزمت بالتدابير الوقائية التي يشرحها الخبراء والمتخصصون، وحميت نفسك من الإشاعات والخرافات، والتزمت بالإجراءات الصحية والقانونية التي فرضتها المرحلة… لأنك عندما تكبح نفسك وتهذبها، فأنت تمنعها من إلحاق الأذى بالآخر؛ بالإنسان، أي إنسان.