ما أغفله النقاش حول آيا صوفيا
السجال الذي أثاره تحويل كنيسة “آيا صوفيا” إلى مسجد لم يلامس جوهر الموضوع وزاغ عن الدرس العميق الذي كان ينبغي تعلمه من مثل هذه الأخطاء التاريخية، فسواء الذين كانوا مع ما أقدم عليه “إردوغان” أو كانوا ضدّه، فإن أحدا لم ينتبه إلى أن هذا العمل حدث في 2020، بينما تحويل مساجد المسلمين إلى كنائس حدث بإسبانيا مثلا قبل أربعة قرون، ولا أحد يتصور أن تقوم إسبانيا اليوم بفعل ذلك، لأن الكلّ يعرف بأن الدول الأوروبية تعيش في سياق قيمي وفكري مغاير كليا لقرونها الوسطى، بينما ما زال المسلمون يعيشون على أخطاء الماضي ويعتبرون تكرارها فتحا عظيما. فالعواطف التي واكبت تدشين “آية صوفيا” مسجدا كلها تعبر عن مقدار حنين المسلمين إلى الماضي، وحجم انغماسهم في نزعة الانتقام من التفوق الغربي باعتماد عقيدتهم فقط.
إن تحويل المساجد إلى كنائس وتحويل الكنائس إلى مساجد أو هدم المعابد المخالفة لدين المنتصر هي عادة قديمة تعود إلى عصور كان فيها أساس التوسع الأمبراطوري دينيا، وكانت الشرعية السياسية دينية بالأساس، وكان الغزو أو المقاومة مرتبطين ارتباطا كبيرا بالعقائد، أما اليوم ففي ظلّ الدولة الحديثة لا أحد يمكنه إحياء الصراع القديم وتصفية الحساب مع وقائع تاريخية قديمة إلا إذا ظلّ سجين الماضي لا يبرحه.
ولم ينتبه الذين يخوضون هذا السّجال كذلك إلى أنّ ما حدث بتركيا اليوم جاء متزامنا مع عمل إنساني رائع متمثل في سماح مواطنين ألمان لمسلمين خلال الفترة العصيبة للحجر الصحي الأخير، بأن يُؤدّوا صلواتهم في كنيسة في غياب مسجد قريب منهم، وظهر المسلمون في فيديو وهم منشرحون فرحون بأداء طقوسهم التعبدية في كنيسة قائلين إنهم شعُروا برهبة وإحساس روحي قوي هو نفسه الذي يشعرون به داخل مسجد، هذه هي روح القرن الواحد والعشرين، والتي لا تتلاءم مطلقا مع ما حدث في تركيا إردوغان، حيث ما زال الانتقام لعصور غابرة يشغل حاكما لا يفهم بأن تراجعه الانتخابي لا يمكن تداركه بالتشدّد الديني وتملق وجدان العامة.
فالمطلوب وضع كل فعل في سياقه الصحيح، وفي إطار روح العصر الذي نحن فيه، هل يمكن مثلا أن يُحول أي بلد أوروبي اليوم مسجدا إلى كنيسة، انتقاما لما فعله المسلمون قبل قرون طويلة ؟ هذا من ضروب المستحيل، مع العلم أن كنائس فارغة لم يعد يرتادها أحد تحولت إلى مساجد لوجود طلب من طرف الجالية المسلمة، ولو حدث هذا الأمر قبل قرنين فقط لأثار الكثير لأن قيم ذلك العصر ليست هي قيم اليوم.
وما دمنا في نطاق ربط وقائع بسياقاتها، لا بأس من التذكير بأن الرغبة الملحة لإردوغان في تشييد رموز دينية كبيرة ما فتئت تراوده منذ مدة، وبعد صراع طويل مع القوى العلمانية من أجل تشييد مسجد في ساحة “تقسيم” الشهيرة، ذات الرموز العلمانية، وبعد بنائه لمسجد “تشامليجا” الضخم الذي أصبح أكبر مسجد بتركيا، وبميزانية ضخمة غير مُبررة، صارت “آيا صوفيا” ضحيته السهلة بعد ذلك. هذا مع العلم أن إسطمبول تتوفر على 3317 مسجدا لوحدها. وإردوغان بهذه المشاريع التي يحاول بها التغطية عن تراجع ترتيب تركيا عالميا في الجانب الاقتصادي، كما يحاول تعويض عدم قدرته على استعمال الدين مباشرة في السياسة بسبب علمانية الدولة، وبسبب انتزاعه لصلاحيات الحاكم المطلق في الدستور، إنما يهدف إلى تجييش مسلمي الداخل، وكذا ومتابعة مشروعه مع قطر في التحول إلى قائد “إخواني” دولي، ما جعله يحشر أنفه في كثير من البؤر المتوترة كسوريا وليبيا، فاتحا أبواب الجحيم لمرور مليشيات الإخوان “جبهة النصرة”، وعصابات السلفيين “داعش”، محاولا بذلك محاكاة الدول الغربية بائعة السلاح ومشعلة الحرائق، بينما الفرق بينه وبين هذه الدول هو أن اقتصاد تركيا لا يتحمل مثل هذه المغامرات، وقد ينعكس بشكل سلبي على الازدهار النسبي الذي تحقق في السنوات الأخيرة، كما قد يؤدي إلى إشعال فتيل الفتنة الدينية والطائفية داخل تركيا نفسها، التي حمتها علمانيتها حتى الآن من حرائق الجوار الإقليمي.
إذا كان نجاح إردوغان في الجانب الاقتصادي ـ الاجتماعي طوال العقدين الأخيرين قد أثار إعجاب الكثيرين، فإن مناوراته الدينية والعسكرية الأخيرة هي بمثابة العدّ العكسي لتجربته السياسية، التي قد لا تعرف نهاية سعيدة.
أحمد عصيد كاتب وشاعر وباحث في الثقافة الامازيغية وحقوقي مناضل من اجل القضايا الأمازيغية والقضايا الإنسانية عامة
كلام صحيح الى حد ما استاذي الكريم لكنه يميل الى تبني وجهة نظر الاخر بمعنى رؤية الامر من زاوية احادية.