تَمْغْرَبيتْ وعنف الهوية الخالصة المتفوقة
لا أحد كان يتوقع أن يدبر النقاش بشأن “تَمْغْرَبيتْ” بكل التشنج الذي لاحظناه طيلة الشهر الذي ودعناه، كما كان مستبعدا توقع حصول كل هذا الشرخ الملاحظ بين نشطاء من الحركة الأمازيغية، فريق يحمل هم الإنخراط في التأسيس لاستثنائية وطنية مغربية يجد فيها كل مغربي ذاته من خلال تملك جميع المغاربة لكل أبعاد هويتنا الوطنية الجامعة وفي صلبها الأمازيغية، وفريق آخر لا يعترف بتَمْغْرَبيتْ وبالهوية المغربية المتعددة الأبعاد، يقسم المغاربة إلى أمازيغ ومستعربين متحولين جنسيا.
لقد سارت الأمور عكس ما كان متوقعا حدوثه، فلم تقع الواقعة بين الإسلاميين المتشبثين بوطنهم المتخيل “دولة الخلافة”، وبين كل أنصارالإستثنائية المغربية والمغرب أولا. كما انزوى جانبا كل التواقين لإخراج الوطن القومي العربي من دهاليز الخيال إلى أرض الواقع. فالإسلاميون والقوميون العرب المغاربة تركوا المبادرة لبعض النشطاء الأمازيغ من أجل تكميم أفواه دعاة تَمْغْرَبيتْ والإجهاز على حقهم في التفكير وفي الإختلاف.
فما الذي دفع بعض النشطاء الأمازيغ للقيام بهذه المهام، التي لا تشرف الحركة الأمازيغية، نيابة عن الإسلاميين والقوميين العرب؟
الإنحراف عن مبدأ النسبية الثقافية
تعتمد النسبية الثقافية على الاختلاف وتعايش الثقافات بدل اقتتالها، وهي لا تؤمن بوجود تراتبية بينها أو سلم مفاضلة، كما لا تؤمن بتفوق إحداها على الأخرى. لقد تسلحت الحركة الأمازيغية بهذا المبدأ، منذ تأسيسها سنة 1967، في مقارعة حجة قوة القوميين العرب وتغولهم بقوة حجة مشروعها النسبي التعددي؛ فلم تكن تنادي بالهوية المفردة الخالصة، ولا بإحلال اللغة الأمازيغية مكان اللغة العربية، بل كانت تطالب بالتنوع في ظل الوحدة. وقد ساعدها ذلك في تحقيق المكتسبات تلو الأخرى.
هناك وثيقتان أساسيتان مرجعيتان تؤطران العمل الأمازيغي، ميثاق أكادير وبيان الإعتراف بأمازيغية المغرب، فالأول حصل حوله إجماع سنة 1991 وكان مرجعا للعمل الأمازيغي طيلة عشرية التسعينيات، أما الوثيقة الثانية فقد خلقت حولها دينامية وجدلا كبيرين ساهما في إطلاق مسلسل إنصاف الأمازيغية سنة 2001 بإشراف مباشر من الملك. إن القاسم المشترك بين كلتا الوثيقتين هو احترام مبدأ النسبية الثقافية والمشروع النسبي التعددي الأمازيغي.
بعد مكاسب العشرية الماضية ( 2001- 2011 ) وفي مقدمتها دسترة الأمازيغية، ظهر انحراف كبير عن مبادئ الحركة الأمازيغية في أوساط بعض النشطاء، فمنهم من اعتبر بأن الوثيقتين متجاوزتان، ومنهم من يعتبر الوحدة في التنوع كما جاء في الوثيقتين إجْرَاما في حق الأمازيغية. فالهوية بالنسبة لهؤلاء ثابتة لا تتغير فهي تتعالى على منطق الزمان والتاريخ ؛ فهوية المغربي في القرن الواحد والعشرين، كما يقولون، يجب أن تكون مطابقة لهوية أمازيغ المملكة المورية في القرن الثاني قبل الميلاد.
الجهل بالفرق بين الإستراتيجية والتكتيك
المطالبون اليوم بهوية أمازيغية مفردة خالصة متفوقة على ما يسمونها بالهويات الوافدة، يعتبرون أنفسهم في حل من خطاب الحركة الأمازيغية كما أسست له الوثيقتين المذكورتين، ويعتبرونه مجرد تكتيك مرحلي وجب استبداله بخطاب جديد قائم على مواجهة المتحولين جنسيا (les transidentitaires) ، والعمل على علاجهم من آفة التحول الجنسي بترياق الهوية الأمازيغية الفريدة الخالصة والمتفوقة على غيرها من أبعاد الهوية في بلادنا!
لا اعتقد بأن حَمَلَةَ خطاب علاج آفة التحول الجنسي بترياق الهوية الأمازيغية الخالصة، قد قرؤوا حرفا من ما كتبه الجنرال والفيلسوف الصيني صاحب كتاب فن الحرب “صن تزو” (696 ق م – 551 ق م )، ولا اطلعوا على وصايا الجنرال والمؤرخ الحربي البروسي “كارل فون كلاوزفتز” (1780 – 1831) ؛ فلو اطلعوا على ما كتبوه وما كَتَبَ بعدهم الكثير من القادة الإستراتيجيين في العالم، لأدركوا بأن الهلاك يأتي من استبدال ما هو استراتيجي بما هو تكتيكي، كما يأتي من الجهل بالفروق بين ما هو ثابت وما هو متغير وبين ما هو استراتيجي وماهو آني ومرحلي.
تكمن أهم مظاهر الإختلاف بين الإستراتيجية والتكتيك، في ان الإستراتيجية لا تمتلك أي هامش من المناورة، ولا يجب أن تمتلكه لأنها تعبر عن الجغرافيا والتاريخ والهوية والعقيدة والثقافة والحضارة والسيادة. فلا يمكن لبعض نشطاء الحركة الأمازيغية اليوم استبدال جغرافية المغرب بجغرافية “تامازغا” لمقاومة كل تفكير في التاسيس لاستثنائية مغربية تُمَيزُ أُمتَنَا وفي صلبها الأمازيغية، كما لا يمكنهم القول بأن شعوب تامازغا يجمع بينها التاريخ المشترك، فالتاريخ المغربي ليس هو تاريخ دولة الجزائر، وقس على ذلك بالنسبة للهوية والثقافة والحضارة والسيادة.
على عكس الإستراتيجية، يمكن القول بأن التكتيك مناورة، ولكن مناورة في التكتيك وليس في الإستراتيجية، والمقصود بالمناورة هو التفاعل الإيجابي وليس التفاعل السلبي مع الواقع. المناورة هي تشريح للواقع السياسي للوقوف على مراكز القوة والضعف وعلى مكامن القدرة والمرونة، فالمناورة تسعى إلى تحقيق الأهداف الإستراتيجية بشكل مرحلي يتفق مع الواقع والإمكانيات.
إن استراتيجية الحركة الأمازيغية ليست شيئا آخرسوى الإعتراف بأمازيغية المغرب في إطار الوحدة في التنوع ؛ هي كذلك وستبقى كذلك حتى يتملك المغاربة جميعا ثقافتهم وهويتهم الأمازيغية، وتنجح المأسسة لتقوم اللغة الأمازيغية بوظائفها كاملة إلى جانب اللغة العربية. وكل محاولة لاستبدال إستراتيجية الحركة الأمازيغية بتكتيكات ومناورات بئيسة ستكون له عواقب وخيمة على مستقبل لغتنا وثقافتنا.
على سبيل الختم
ليس في هذا المقال ما يدعو النشطاء الأمازيغ إلى استبدال خطاب واستراتيجية الحركة الأمازيغية بخطاب واستراتيجية “تَاضَا تَمْغْرَبيتْ” أو باقي الحركات التي تدعو إلى التأسيس لاستثنائية مغربية تعيد الإعتبار لكل ابعاد هويتنا المغربية وفي صلبها الأمازيغية. فخطاب تَمْغْرَبيتْ وليد ديناميات متعددة لعل أهمها الدينامية التي أطلقتها الحركة الأمازيغية، لذلك فهو دعامة لمطالبها المشروعة والعادلة، وليس بديلا عن خطابها.
إن الطريقة التي ننظر بها إلى غيرنا من المواطنين يمكن ان تزج بالبعض منهم في معتقلات هوياتية ضيقة، كما يمكنها أن تحررهم منها، لذلك على مبتدعي “خطاب الهوية الخالصة والتحول الجنسي” الإنتباه إلى ذلك، إن كان مستقبل الأمازيغية والمغرب يهمهم.
ناشط حقوقي وباحث، ساهم في تأسيس العديد من الجمعيات. رئيس منظمة تاماينوت سابقا، عضو مؤسس للفضاء الجمعوي بالمغرب، والرئيس المؤسس للمرصد الأمازيغي للحقوق والحريات ولتكتل تمغربيت للإلتقائيات المواطنة.