الهوية والحركات الإمبريالية
الهوية هي الجوهر الذي يتميز به الفرد أو مجموع الأفراد -المجتمع- والتي تعطي له تحديدا معينا على المستوى الثقافي خاصة والذي يمتد إلى المستوى السياسي أيضا، فصاحب هوية معينة ملزم بمواقف سياسية مواكبة ومطابقة لماهية هويته الثقافية. إن الهوية مزيج من العديد من الأبعاد، وغير قابلة للاختزال، وهنا كلمة اختزال سنرى دورها الكارثي على الهوية فيما يأتي في السطور التالية.
إن الهوية التي تتحدد من منطلق الأرض، واللغة، والإنسان، إلى جانب مجموع التقاليد العرفية التي تشكل الرصيد الثقافي للإنسان، هي التي تحفظ في كل مجتمع أو فرد، شغف العمل الجدي والفعال والخالص للمبدأ، بحيث حينما نصادف إنسان ذا سمعة جيدة فتلك السمعة ما هي إلا انعكاس لهويته القيمية والمبدئية التي تتجسد في كل كيانه العملي التجريبي الواقعي، وإلى هذا الحد اتضح بجلي واضح كيف تحتل الهوية مركز قيادة الإنسان سواء كان الأمر يتعلق ببعده الفردي أو الجماعي، وعلى هذا الأساس بالتحديد تراهن الحركات الإمبريالية وتعلق نجاحها من عدمه.
كيف تنجح الحركات الإمبريالية في السيطرة على شعوب ودول بأكملها؟ وما علاقة هذه الحركات الإمبريالية بالهوية؟ لقد حان موضع ربط الإمبريالية الإستعمارية بالهوية كوسيلة نجاح من عدمه، وذلك يتم عبر تقنيات ذات فعالية ناجعة كما يؤكد على ذلك واقع شمال إفريقيا من خلال الحركات الإمبريالية الغربية في علاقتها بالهوية الأحادية العروبية الدخيلة عن الجغرافيا الإفريقية الشمالية.
نحن الآن نجعل أنفسنا أمام التزام مضمونه ربط نجاح الحركة الإمبريالية بضياع الهوية الأم لشعب من الشعوب، باعتبارها ذلك الكيان الذي يجسد الوجود المنفرد والمتميز والذي قد يكون مصدر ازعاج وعائق أمام أطماح امبريالية خارجية.
إن الهوية ليست كيان مادي بقدر ما هي كيان معنوي في ذات كل شخص أو شعب، وهذا الكيان تاريخي تراكمي اجتماعي متطور وفقا لمتطلبات الواقع، إلا أن ذلك التطور الحاصل في الهوية لابد أن يكون نابع من قناعات فكرية داخلية، فالإنسان حينما يغير مبدأ في هويته منطلقا في ذلك من قناعته فهو يغني رصيده الهوياتي ويطوره ليكون أفضل، إلا أن الأمر يكون على النقيض إذا ما حدث ذلك التطور كنتيجة لتدخل خارجي من طرف أية جهة معينة. إذ يمكننا وصف عن تلك التغيرات الهوياتية الوافدة من الخارج على نوع من الإحتلال بحيث أن الهوية ذاتية من الأساس وبالتالي أي خضوع لتغير خارجي فهو سفك للذاتية الأنا وامتزاج مع الذاتية الآخر. والسؤال هنا يتمحور حول الميزة التفاضلية القائمة بين الطرفين، كما أن ذلك التغير الخارجي ليس على الدوام بريء وعرضي، وهنا أقصد إمكانية كونه موجه نحو تحقيق أهداف معينة بشكل مسبق، وإذا كانت هي كذلك فهنا تكمن الحركة الإمبريالية واشتغالها من داخل هوية الآخر مستغلة ذلك كوسيلة للنجاح في تحقيق مساعي أخرى.
إن الهوية باعتبارها كيان جوهري يعبر عن الوجود الحقيقي للأشياء أو بتحديد للإنسان فهي ليست مستقلة عن جوانب أخرى من الحياة الإنسانية، إذن فالهوية فكرية معرفية دينية سياسية اقتصادية تربوية…، بمعنى شاملة كل الشمول ولا يمكن تجزئتها بأي شكل من الأشكال. وفي هذا الإطار تعمل الحركات الإمبريالية من أجل النجاح في تحقيق غاياتها على تجزئ الهوية للطرف الآخر من جهة ومن جهة أخرى تعمل على تشويه جزء معين حتى يغدو شيء دوني غير راقي وغير حضاري، وبهذه الحركة يتحقق الانسلاخ عن الهوية من طرف المعني بهذه الحركة إذا اقتنع بالتشويه الذي يقدم له تحت صياغة ضرب من المبررات والتي قد تكون صائبة وقد تكون خاطئة، والجدال هنا ليس حول تلك المبررات وإنما حول الغاية منها بحيث ولو كانت صائبة فهي تسعى في النهاية إلى عزو الآخر وليس تحقيق الحضارة والإنسانية والأخلاق فقط، وذلك بالذات ما يجعلها هي الأخرى غير إنسانية وغير حضارية، لأن أي غزو هوياتي مقصود يحمل في خباياه أهداف معينة فهو يحجب نفسه عن كل ما له صلة بالأخلاق والإنسانية، وخاصة في ظل جحش الرأسمالية مما يجعله في سياقات متكررة الحدوث والبروز، حامل في ثناياه غايات ربحية اقتصادية.
فإذا كان بإمكاننا أن نتحدث بالملموس حول الحركات الإمبريالية ونجاحها من خلال الغزو الهوياتي يمكننا ربط ذلك مباشرة بالمجال الاستثماري أي الاقتصادي الرأسمالي، وتكون هناك أوراق ثانوية تتخذ وجه إنساني، سياسي، ثقافي… لخدمة الهدف الأساسي.
في سياق متواصل نذكر الهوية الإفريقية الشمالية الغنية بالتنوع عبر التاريخ، وكل عنصر من عناصر هذا التنوع يعيش مع الآخر في إطار تبادلي إنساني لا يتجاوز الخطوط الحمراء نحو الجوهر الهوياتي للآخر. لكن لما تبين للحركات الإمبريالية الغربية إمكانية النجاح في غزو غير مباشر من خلال التدخل في ذلك الكيان الهوياتي وإجراء عليه بعض التغييرات أو الدعوة لها. كانت أول ورقة تم الترويج لها هي كون التعدد في الهوية خطر يتربص الاستقرار العام والوطني، ومن زاوية معينة هو كذلك بالفعل لكن إذا خضع للتحريض وشحن البنية الفكرية القناعاتية للأفراد بعنصر الحقد عن الجوهر الآخر المختلف، وهنا تعمل الإمبريالية الغربية على خلق ذلك التحريض داخل الهوية الإفريقية الشمالية المتنوعة، وحينما تتغلل الفكرة في الأذهان بشكل عميق تبدأ النزعات داخلية تحت مسميات العودة نحو الحضارة والتحضر الذي يراه كل طرف من نصيبه، رغم أن الكل حضاري إنساني طالما إمكانية التعايش ممكنة في ظل وجود الاختلاف الهوياتي، وحينما تبدأ تلك الصراعات، فالسلطة، أي الدولة، تفكر في إيجاد حل للأزمة وهو توحيد الهوية الوطنية عبر الإعلان والنخبة، لكن من طبيعة الضرورة والغاية الإمبريالية الاستعمارية في هذا السياق لعرقلة جهود السلطة، حتى تجبرها على التحالف معها، وذلك التحالف لا يكون عبثي لا يحمل أهداف استراتيجية اقتصادية، وإنما يكون على العكس تماما. بمعنى أوضح كأن تقول الامبريالية: أنا أججت استقرارك الداخلي وإذا كنت تريد التغلب عليه البد من شركة اقتصادية رابحة معي. ويمكنا القول هذا ما حصل تماما في حالة المغرب ومعظم دول شمال افريقيا الأخرى، بحيث بعد أن كان يعيش في وجود اجتماعي متنوع أصبح يسعى إلى توحيد الهوية لصالح الدولة المركزية مقابل التواطؤ مع الحركة الامبريالية، والنتيجة نعرفها جميعا: نجح المغرب نسبيا في توحيد الهوية وجعلها عربية لصالح سيطرة جيدة للدولة المركزية لكن مقابل تبعية اقتصادية استغلالية للثروات الوطنية لصالح الرأسمال الأجنبي.
إلى هذا الحد لا يمكننا الهرب أكثر من مما هربنا، من الأطروحة القائلة بأن الهوية هي الجسر الإمبريالي الناجع نحو أي شخص أو شعب، كما يعبر عن ذلك بوضوح تام القول الآتي: “إذا أردت السيطرة على أحد ما، اجعله أن يعتقد أنه على خطأ”. كما أن الأفراد حينما يقتنعون بالتحريض الذي يؤسس لتشويه جزء ما من هوية أولئك الأفراد، فهم أنفسهم ينسلخون تلقائيا عن الهوية الأصل ويعتنقون البديل الذي تقدمه الإمبريالية، وحينها يغدو هدفها يتحقق بمساعدة حاملي تلك الهوية.