سيرة أمير أمازيغي في الأندلس
سَادت سردية تاريخية مغلوطة حول الأمازيغ وعلاقتهم بالكتابة والتأليف، بكونهم شعب تطغى عليه الشفوية ومنغرس في المنظومة الشفهية، وكونه شعبٌ لا يكتب. لاسيما في الكتابة التاريخية، بحكم أنهم يصنعون التاريخ لكن لا يكتبونه بأياديهم. إلا أن المتمعن في الإسطوغرافية التاريخية في شمال إفريقيا والأندلس والقارئ للمتون التاريخية والمصادر الدفينة، سيدرك أن هذه السردية التاريخية التي غُلف بها تاريخ الأمازيغ، هي سردية مغلوطة، وغير حقيقية. والحاصل هو أن البعض حاول تحييد موقف الأمازيغ من تاريخهم، وإغراق الكتابة التاريخية بنصوص تستهدف الحقيقة التاريخية وتوجيهها نحو تسييد مواقف وأفكار يطغى عليها البُعد الأحادي الذي يمجد طرف أو عنصر عرقي معين على أطراف ومكونات أخرى فاعلة في بنية التاريخ. وهذه الآفة لازمت الكتابة التاريخية منذ العهود الأزلية في شمال إفريقيا، فكلما وصلت جيوش الشعوب الغازية إلى شواطئ وأراضي بلاد الأمازيغ ( بلاد البربر في المصادر الغربية والعربية) إلاٌ وكتبت تاريخَ المنطقة بحروف لغتها وبمدادها المزيف، الذي يحتقر الأمازيغ ويحط من قيمتهم وشأنهم، ويُعلي من شأن تلك الشعوب التي احتلت المنطقة، وقد ظهر هذا بشكل جلي أثناء غزو روما لبلاد الأمازيغ، واستفحل أكثر أثناء الغزو الأموي- العربي، ثم الغزو التركي، كما طفى على السطح مرة أخرى وبشكل قوي أثناء الاستعمار الفرنسي والإسباني للمنطقة منذ سنة 1830.
وتبقى فترة حكم الأمازيغ في الأندلس أكثر الفترات التي كُتب تاريخها بكثير من الغلو، وأكثر الفترات تعرضا للتحريف والتزوير، فتاريخ الأندلس كله ملغوم، بفعل طغيان الكتابة الايديولوجية، وتمجيد الوجود العربي المبالغ فيه، إلى حد أنه يتم تقديم كل المنجز الحضاري والثقافي في الأندلس كأنه منجز عربي خالص، وتصور الأندلس كأنه رقعة جغرافية تقع بضواحي دمشق أو بغداد أو كواحة وسط صحاري الشرق الحارقة، فلم يتم مراعاة البعد الجغرافي الكبير بين الشرق والأندلس الواقع في اقصى شرق المتوسط، وكذلك التعدد الثقافي والعرقي الحاصل في شبه الجزيرة الإبيرية إبان تلك الحقب الزمنية، وما عاشتها المنطقة بشكل عام من اضطراب سياسي وصراعات مذهبية ودينية وطائفية، أرخت بظلالها على طريقة كتابة التاريخ وتأليف الصور النمطية. لكن حرارة وحماسة الصراع والحروب الدينية بين المسيحية والإسلام، وبين المذاهب الإسلامية، والتي كان الأندلس مرتعا لها، أدت بالكتابة التاريخية إلى نوع من الزيغ الأيديولوجي وغلبة الأسطرة وتمجيد كل ما له علاقة بالثقافة العربية الإسلامية. لكن هذا لا يبرر حجم الهجوم على الامازيغ والسعي نحو إخفاء كل ما له صلة وارتباط بالحضارة الامازيغية. لاسيما إخفاء موقفهم وموقعهم وصوتهم في كتابة تاريخ الأندلس، حيث يتم تصفية وجودهم بشكل ممنهج ومقصود. وفي هذا الصدد؛ لابد أن نذكر ب كتاب “مفاخر البربر” الذي سلط الضوء على وجود الأمازيغ ودورهم الكبير في بناء تاريخ وحضارة الأندلس، ودافع عنهم مؤلف الكتاب باستماتة قوية وصريحة، وخوفا على سلامته وعن حياته، قام بنشر الكتاب دون إعلان عن اسمه، وعُرف الكتاب باسم مجهول، ويظهر من خلال هذه الإشارة أن الأمازيغ لا يشعرون بالأمان في الدفاع عن أنفسهم والكتابة عن تاريخهم وعن أسرهم، فالتعبير عن الموقف آنذاك كان ليس بالأمر الهين، بسبب عدم وجود حرية تعبير للحديث عن الحضور الأمازيغي ومساهمته في الأندلس، كأنه “ملف حساس” على اعتبار أن تاريخ هذه المنطقة كان محفوظا لعنصر عرقي دون غيره، وقد استمرت هذه الثقافة إلى عهد قريب، وربما لاتزال مستمرة.
وتُعتبر سيرة المَلك الأمازيغي بمدينة غرناطة، “عبدالله بن بلگين”، من بين أدق وأحق المصادر التاريخية في تاريخ الأندلس، وأصدقها وأنفسها، كما أكد ذلك، مكتشف الكتاب وناشره “ليفي بروفنصال” سنة 1955، لأنه لم يتعرض للتحريف والتلفيق، كما أن كَاتبه هو أمير أمازيغي كان أسيرا في مدينة أغمات. فكر في أن يؤلف ويكتب سيرة ذاتية يجمع فيها تاريخ تسلسل عائلته الأمازيغية التي أسست مدينة غرناطة الاسبانية وحَكمتها لعدة عقود، وهو يفعل ذلك، فإنه يدرك تمام الادراك حجم التهميش والاقبار الذي سيطال تاريخ أسرته الأمازيغية الصنهاجية التي ساهمت بشكل وفير في بناء حضارة وتاريخ الأندلس.
فمَن يكون هذا الأمير الامازيغي الكاتب والمؤرخ؟
إنه الأمير عبدالله بن بلگين بن باديس بن حبوس بن زيري، وهو الملك الثالث لمملكة غرناطة الامازيغية التي تم تأسيسها من قبل أسرة من صنهاجة إيزناگن، ولد سنة 1064 م وعين بعد وفاة والده بلگين/ بولگين عام 1077. وكان أخوه تميم أميرا مستقلا على مالگة. وخاض الملك عبدالله حروبا كثيرة دفاعا عن مملكته ضد الملك ألفونسو السادس أمير قشتالة، وضد الأمير المعتمد بن عباد، وحروب أخرى كثيرة في ظل الصراعات السياسية بين أمراء الاندلس وبين الملك الفونسو السادس. وشارك الملك الامازيغي عبدالله في معركة الزلاقة التي تزعمها الملك الصنهاجي الآخر القادم من الصحراء يوسف بن تاشفين. هذا الأخير عاد وحاصر عاصمة المملكة الزيرية بغرناطة سنة 1090م واحتلها واعتقل الأمير عبدالله وبعث به إلى مكناس ثم إلى أغمات أسيرا والتي عاش فيها إلى أن توفي. وبها كتب مذكراته التي سماها “كتاب التبيان عن الحادثة الكائنة بدولة زيري في غرناطة”. وبالرغم من أهمية هذا الكتاب النفيس، واللغة الجميلة والبديعة التي كتب بها، إلا أنه عانى من النسيان واللامبالاة من قبل المؤلفين والمؤرخين، وقُبر الكتاب في المهملات، وكاد أن يضيع بسبب ذلك كما ضعت كتب ومؤلفات أمازيغية أخرى، إلى أن جاء “ليفي بروفنصال” في خمسينيات القرن الماضي، وانتشل المخطوط من رفوف خزانة القرويين بفاس، وقام بطبعه واصداره في حلة جديدة وأنيقة. وقد انتبه برونفصال بوجود هذا الكتاب حين كان يهتم بنشر كتب ومخطوطات حول تاريخ الأندلس، وخاصة مؤلفات “لسان الدين بن الخطيب”، حيث قرأ ضمنها عبارة أورها بن الخطيب في احدى مؤلفاته مفادها: ” وقفت على ديوان بخط عبدالله بن بلقين ألفه بعد خلعه بمدينة أغمات وقرر فيه أحواله والحادثة عليه مما يستظرف من مثله، أتحفني به المسجد بأغمات رحمه الله”. والمعروف أن بن الخطيب زار أغمات وجبال درن في عام 1390م، وقد تحدث عن رحلته إلى الأطلس الكبير في نفاضة الجراب.
واستهل الأمير كتابه بالحديث عن قدوم أمازيغ “آيت زيري” إلى الأندلس وحلولهم بمنطقة إلبيرة، وللإشارة فإن “آيت زيري” كانت لهم دولة أمازيغية قوية وممتدة كانت تبسط سلطتها على أجزاء مهمة وشاسعة في بلاد الأمازيغ، وبعد تحولات سياسية واضطرابات اجتماعية طارئة في المنطقة والأندلس، فكر وجهاء وزعماء من أمراء إيزناگن العبور إلى الأندلس التي كانت تعيش تحت وزر الحروب الطائفية والانتقامات السياسية بين أمراءها. وفي ذلك السياق حل إيزناگن إلى إلبيرة، بقيادة “زاوي بن زيري بن مناد” وهو المؤسس الفعلي لمملكة آيت زيري بغرناطة. وجاء في كتاب التبيان للأمير عبدالله: ” فلما رأى سلاطين صنهاجة وبنو زيري اقتطاع كل أمير في بلد لنفسه، وذهاب ما كانوا عليه من عز وأثر، عزموا بالرحيل عن الأندلس والجواز إلى العدوة (…) وكان أهل إلبيرة في بسط من الأرض، وكان بهم من الغش بعضهم لبعض، …ولا يرجعون إلى طاعة ولا حكم والٍ، … فلما بصروا باختلاف سلاطين الأندلس وأنها أضرمت نارا، وتوقعوا أن يتخطفهم الناس، وجهوا إلى زاوي المذكور شاكين مما هم فيه.”
وقد استجاب أمراء إيزناگن لطلب أهل إلبيرة، ليقوموا بحماية بلدهم وممتلكاتهم مقابل أداء إتاوات مالية على ذلك، ونزلوا بها، وبايعوهم وقدموا لهم الطاعة.” فلما طاعت لهم البلاد، اجتمع رأيهم على أن يتقارعوا عليها، وكانت عادة في البربر، كي لا يأنف أحدهم مما يصير إلى أخيه، فرجعت إلبيرة قرعة زاوي، وحصن آشر مع جيان في قرعة حبوس إبن أخيه جدنا، رحمة الله عليهم، وتعاقد جميعهم على أنه إن طرق عدو جهة صاحبه، يكون الآخر يحميها بنفسه ورجاله”.
وبعد أن تمكن أمراء إيزناگن من السيطرة على منطقة إلبيرة، وتوزيع مناطقها عليهم، خططوا للانتقال إلى منطقة أخرى لتحصين دفاعاتهم وقلاعهم، ومن ثمة جاءت خطة بناء مدينة أغرناطة. في موقع جغرافي اختاره أمراء إيزناگن بعناية ودقة، وجاء في الكتاب: “فوقعت أعينهم على بسط جميل، قد جمع الأنهار والأشجار، وجميع ما يليه من البلد كله ينسقي من واد شنيلي المنحدر من جبل شُلَيْر، وبصروا بالجبل الذي فيه الآن غرناطة موسطة للبلد كله… فأفتنهم المكان وعملوا عليه كل حساب، ورأوا أنه في وسط النعم وجمهور الرعايا، وأن العدو متى نازله لم يطق له إحصارا… وتولى كل امرئ منهم إقامة داره من أندلسٍ وبربرٍ.” ويبين لنا هذا النص من كتاب الأمير أن الأمازيغ هم من خطط لبناء مدينة غرناطة الحالية، وهم الذين سكنوا فيها منذ البداية إضافة إلى الأندلسيين الذين يتشكلون من أقوام مختلفة وبينهم أيضا الأمازيغ الذي دخلوا منطقة إلبيرة منذ الفترات الأولى لغزو الأندلس بقيادة أمغار المعروف بطارق بن زياد.
لم يكن تأسيس مملكة امازيغية بالأندلس وبناء عاصمتها في غرناطة، حدثا عاديا في كل المنطقة، بله كان حدثا تاريخيا مهما كان له ما بعده، وتسبب في ردود فعل كثيرة لدى ملوك الطوائف في المدن المجاورة، أدت إلى نشوب حروب كثيرة، ومنها الحرب التي أعلنها الملك المرتضى ضد بنو زيري والذي خرج زاحفا للهجوم على الامازيغ في غرناطة، لكنه تعرض لهزيمة شنعاء من قبل إيزناگن بالرغم من قلة عددهم وعتادهم. وقد فصل الكتاب في هذه الحروب التي جرت بين أمراء إيزناگن وملوك الطوائف والملك الفونسو. وقال الأمير عبدالله بن بلكين في سيرته متحدثا عن انتصار أجداده عن الملك المرتضى: “فخرجوا إليهم بأنفس جريئة وعلى الموت موطٌنة، وقلوب حنقة وللموت طالبة، فلم يكن إلا كصفقة بالكف على الكف حتى ولوهم الأدبار وانهزموا أمامهم مذعورين يكلبون النجاة بأنفسهم، لا يلوى منهم أحد على صاحبه، واتبعتهم صنهاجة وانبسطت عليهم أيدي البربر، يقتلون منهم نهمة أنفسهم، ويأخذون أموالهم وما تركوه من أسلحتهم.”
واعتنى الأمير عبدالله في سيرته بتاريخ سلالة مملكته الأمازيغية في غرناطة، وذكر مفاخرها وأخبارها والدسائس والمؤامرات التي عانت منها جراء الصراع والمنافسة بين أمرائها وأبنائهم. وقد تحدث الأمير في تباينه عن فترة حكم الملك الأمازيغي “حبوس بن ماكسن” التي ازدهرت فيها إمارة إيزناگن وعاشت فيها الأوج والاستقرار والقوة والرفاه، بفعل سياسية الملك “حبوس” الذي أرسى دعائم الحكم الامازيغي المبني على التشاور والحوار، فقد كان واعيا بخطورة الصراعات البينية داخل الأسرة الحاكمة، فحرص على التعامل مع الأمراء الذين يحكمون في الجهات والنواحي بالاستشارة والاشراك في اتخاذ القرار، وكان رفيقا بهم، ومُحسنا إليهم. وكانت للملك “حبوس بن ماكسن” يقول لأمراء صنهاجة مقولة مشهورة مفادها :” إن صنهاجة عندي مثل الأسنان في الفم إن عدمت منهم واحدا، لا نخلفه أبدا”. ويبدو أن هذه المقولة التي نقلها لنا الأمير عبدالله في سيرته، هي مثل شعبي أمازيغي لا يزال مستمرا إلى اليوم.
كما تطرق الكتاب إلى فترة حكم الأمير “باديس بن حبوس” وتوسعاته وحروبه مع أمير مدينة ألمرية وانتصاره عليه واستيلاءه على مدينة مالگة ومدينة جيان، وكذلك فترة حكم الأمير بلكين سيف الدولة وهو جد مؤلف الكتاب. كما تحدث الأمير عبدالله عن نفسه وملكه وطريقة تدبيره لمملكة غرناطة، والصراعات الكثيرة التي خاضها مع وزرائه مع جيرانه ملوك الطوائف وأخيه تميم بن بكين، والثورات التي تعرض لها حكمه.
الأمير الأسير تحدث أيضا عن بداية صعود المرابطين صنهاجة الصحراء إلى الأندلس الذين خاضوا معركة الزلاقة التي انتصر فيها يوسف بن تاشفين على الفونسو السادس، وشارك فيها الأمير عبدالله بن بلكين، وأمراء الطوائف. وقدم لنا الأمير في سيرته معلومات دقيقة عن سياقات قدوم المرابطين واستعدادهم للمعركة، واجتماع يوسف بن تاشفين مع ملوك الطوائف بعد انتصاره في موقعة الزلاقة. ثم العودة الثانية ليوسف بن تاشفين إلى الأندلس واسقاط امارات وممالك الطوائف واعتقال ملوكها وأمرائها. وقد أفرد الأمير حيزا مهما في سيرته لطريقة دخول المرابطين لمدينة غرناطة وظروف استسلامه ليوسف ابن تاشفين الذي أسقط حكم “آيت زيري”، وكيفية نهب جيش هذا الأخير لممتلكات قصر غرناطة وأموال وذهب أميرها عبدالله ابن بلكين. الذي قال عن استسلامه أثناء محاصرته ما يلي: “وقد كان أرسل إلي قرور يطلب خط يدي بإسلام المدينة وإخراج من لي فيها من الحشم، فبادرت على المقام، إذ الالتواء عن ذلك مما لا ينفع ولو فعلت، لكان ذلك زيادة في الهوان، ولم يفد شيئا، وأنا قد حصلت في القبضة”.
وقد نهبت جيوش المرابطون كل ما وجدوه في قصر غرناطة، وبحثوا عن الأموال المدفونة والودائع وفتشوا كل جوانب القصر بحثا عن الذهب والأموال، وقد علموا بأماكن وجودها سلفا، وأجبروا الأمير وعبيده وخدمه على الاعتراف بأماكن وجود الأموال، وفتشوا حتى الثياب التي ارتادها الأمير وعائلته وأمه، ” ولم يترك لنا خادم إلا حيل بيننا وبينه، وفتش عليهم ألا تكن في أوساطهم خبيئة، وجعل قرور يقول لي ولأمي : اكشفا لي عن ثيابكما، فقد أخبر السلطان( بن تاشفين) أن خيرة الجوهر على أوساطكما، فتبرأنا له عن ذلك، ونزعتُ له عن الثياب، ثم جعل ينفض المخدات عن الصوف، ويفتش بينها … ثم أمر بحفر الأرض التي عليها الخباء خوفا من أن ندفن فيه شيئا.” وبعد أن تم الاستيلاء على كل شيء، تم نفي الأمير عبدالله بن بلكين واقتياده إلى سبتة ثم إلى مكناس التي مكث فيها إلى حلول عودة ابن تاشفين من الأندلس وجيئ به أسيرا رفقة الأمير المعتمد بن عباد، إلى مدينة أغمات، ونزلوا بمنزل يوسف ابن تاشفين بذات المدينة.
سيرة الأمير الامازيغي بن بلكين، تعد مصدرا مهما ونفيسا في معرفة الكثير من المعطيات والمعلومات التاريخية الدقيقة في تاريخ الاندلس، وتاريخ الملوك الأمازيغ وحياتهم اليومية وطريقة تدبيرهم لشؤون ملكهم، ومساهمتهم في بناء الحضارة الأندلسية، فمعلوم أن الأمازيغ هم الذين قاموا بغزو الأندلس، لكن تاريخ حكمهم ووجوده به، تعرض للتزييف، فقد كتب الأمير في سيرته التبيان، أن مملكة غرناطة أسسها أمراء إيزناگن، لكن جندها يتكون أساسا من إيزناتن، وقد تحدث الأمير عن حوادث كثيرة وقعت بينه وبين إيزناتن (زناتة)، لذلك فأمازيغ الأندلس يشكلون مختلف فئات المجتمع.
ونستفيد من هذه السيرة أن أمراء الامازيغ وغيرهم الذين زحفوا إلى الاندلس لم يكن الجهاد هو الغرض الرئيسي للتحرك صوب شمال المتوسط، وإنما الكسب والذهب والمال والجاه، هو الذي كان الدافع الأساسي والغرض الرئيسي، وإنما الجهاد اتخذ شعارا أيديولوجيا لتغليف الغزو واعطاءه شرعية دينية، وجعله أي الجهاد فعلا مقدسا. وقد اتضح ذلك في الغزو الثاني ليوسف بن تاشفين الصنهاجي للأندلس، واسقاطه مملكة غرناطة التي كان يحكمها السلطان الصنهاجي أيضا الأمير عبدالله بن بلكين، فقد كان غرض بن تاشفين هو الحصول على المال والذهب الجواهر النفيسة التي كانت داخل قصر غرناطة.
إن هذه السيرة وصاحبها الأمير عبدالله بن بلكين، بالرغم من أهميتها وقيمتها التاريخية والعلمية، ودقة معطياتها، ونذرتها، حيث قلما نجد ملك أو أمير يكتب يومياته وسيرته، ويكتب بنوع من الصراح والبوح والاعتراف، عن فترة حكمه وأيامه الزاهرة، ثم عن مأساته وسقوطه واستسلامه ثم أسره ونفيه. وبالرغم من كل ذلك، فإنه ظل اسمه منسيا ومضمرا في منعرجات التاريخ والآثار، فرفيقه في الحكم والأسر والمنفى المعتمد بن عباد، أصبح اسمه مشهورا ومحفوظا في كل مكان حاليا في المغرب، وقبره حظي بعناية كبيرة، تمة إعادة بنائه وترميمه وأصبح ضريحا ومزارا في اغمات، في حين ظل قبر الأمير الامازيغي عبدالله بن بلكين مجهولا لا يعرفه أحد، بالرغم من أنه هو الآخر كان أميرا وشاعرا وكاتبا نبيها..
وقصة الأمير “المعتمد بن عباد” والأمير “عبدالله بن بلكين”… شاهدة على رسوخ التمييز الذي يرسم مسافات متباينة ومتفاوتة تفصلنا عن ثقافة الإنصاف والمساواة في قراءة التاريخ…
عبدالله بوشطارت.
مناضل أمازيغي وإعلامي وكاتب وباحث في التاريخ