أمَازيغُ الأندلُس: رَوضُ الفردَوس – هل كان العرب فعلا في الأندلس؟


إنًّ مَا تَعرَّضَ له الأمازيغ في بلاد الأندلس من ظلم كبير واقصاء مجحف، لم يتعرض له أي شعب من شعوب الكون على مر التاريخ. وإن كان الأمازيغ حتى في أوطانهم بشمال افريقيا، أو “بلاد البربر” كما يسمى في المصادر التاريخية، تعرضوا لإقصاء مُمَنهج نتيجة مسلسل الغزوات التي عاشتها مناطقهم في حقب تاريخية مختلفة. وكانوا ضحية لمواقف نمطية وجاهزة، تكرست في الأذهان والمتون مع مرور الزمن. إلا أن ما حصل معهم في الأندلس من تقزيم ونسيان ونكران لكل ما خلفوه من إرث حضاري وثقافي وزخم سياسي، وبناء عمراني وإنتاج ابداعي، دام عدة قرون. كان فعلا مقصودا ومدبرا، خلف جروحا عميقة ونزيفا ينخر تاريخ وذاكرة الأندلس من الداخل.

فَكُلَّمَا وُصف تاريخ الأندلس وحضارته باعتباره تاريخا “للعرب” وحدهم دون سواهم، كلما عانى ذلك الصرح الحضاري العظيم من البتر والانتقاص والاقصاء. وإلى اليوم تُقدم لنا الثقافة الأندلسية باعتبارها “ثقافة عربية إسلامية” صرفة، وهو وَصفٌ غير منصف ناتج عن التصور الذهني الذي تم تشكيله تجاه الأمازيغ الذي يُنظر إليهم بنظرة تحقيرية ودونية، بالرغم من أنهم كانوا ملوكا وأمراء وعلماء. وسبب ذلك التصور الذهني المكرس، هو موقف سياسي/ إيديولوجي تولد عن صراع سياسي وثقافي كبير، وهو بين المشرق والمغرب، بدأ منذ دخول العرب إلى شمال افريقيا، ولكن ترسخ بشكل كبير بعد ثورة المغاربة عن الخلافة المشرقية، بعد أن أخذوا زمام المبادرة السياسة ورسم المسافات المذهبية والثقافية بين ما هو سائد في الشرق، وبين ما يطمح إليه المغرب من استقلالية واختلاف داخل المنظومة الإسلامية. ولا يختلف ما وقع للأمازيغ في الأندلس مع ما وقع لهم في مناطق أخرى، من سيادة مواقف معينة تجاههم.

وذلك ما لاحظه مؤلف كتاب “مفاخر البربر” سنة 1312 م، وأفرد كتابًا كاملا للتعريف بأعلام وأنساب الأمازيغ في الأندلس، بعدما شاهد وعاش ما يعانيه الأمازيغ بالرغم من أنه عاصر دولة أمازيغية عظمى، وهي دولة بني مرين الزناتية، ويقول في مستهل كتابه عن الدوافع التي دفعته لتأليف كتاب يدافع فيه عن الأمازيغ وأنسابهم، ويقول: “فإنه لما كانت البربر عند كثير من جهلة الناس، أخس الأمم وأجهلها، وأعراها من الفضائل، وأبعدها عن المكارم، رأيت أن أذكر ملوكهم في الإسلام ورؤسائهم وأنسابهم وبعض أعلامهم.” ومؤلف هذا المصدر التاريخي المهم لم يذكر اسمه على الكتاب وعرف بالمؤلف “المجهول”.( يرى محقق الكتاب الباحث عبدالقادر بوباية، أن اسم الكتاب هو ابي علي صالح عبدالحليم الإيلاني). ربما كان يعرف مصيره لو وضع اسمه على كتاب خاص حول مفاخر الامازيغ، ويتضح من كلامه عن الدوافع والأسباب التي دفعته للتأليف، هي ما كُتب ونُشر عن الأمازيغ من مواقف وأحكام قيمة، ووجهات نظر البعض تجاههم، حيث يتم نعتهم بأخس الأمم وأجهلها وأعراها من الفضائل… ليكون كتابه هذا بمثابة رد واضح عن الذين يروجون تلك الأباطيل والأكاذيب على الأمازيغ. ولكي يصحح تلك الأفكار الجاهزة التي أساءت كثيرا لهم، قام بتأليف كتاب يجمع فيه ما استطاع أن يجمعه من مفاخرهم وأعمالهم وبطولاتهم ومنجزاتهم في شتى الميادين. ومن خلال قراءة الكتاب يتضح أن مؤلفه فعلا، قام بما يمليه عليه الضمير والوعي بالذات الأمازيغية المغربية، في ذكر المكارم وهدم المزاعم، واعلاء من شأن قومه وشعبه ورفع مكانته بين باقي الأمم والأقوام، ودحض كل الأخبار والأقوال التي تحط من كرامتهم.

وفي السياق نفسه؛ سنقوم في هذه المقالة بذكر بعضا من أخبار الأمازيغ ومساهمتهم الحضارية في تاريخ الأندلس، سواء تعلق الأمر بنشر الإسلام أو تأسيس الإمارات والدول أو في مساهمتهم في ميدان الفكر والعلم والحرب والثورة، وذلك باختصار شديد، نظرا لتشعب الموضوع وتوسعه.

فتح مسروق من محارب مرموق

تجمع كل المصادر التاريخية على أن الفاتح الحقيقي للأندلس هو الزعيم الامازيغي الذي يسمى “طارق ابن زياد”، لأن اسمه الحقيقي يظل مجهولا واندثر مع مجاهل التاريخ والأزمان، وبعبارة أدق، وقع ضحية التدليس والدعاية المغرضة التي نفذتها بإحكام قل نظيره؛ الآلة الايديولوجية الرهيبة لدولة بني أمية. حيث حولت حدث كبير يتمثل في فتح/ غزو الامازيغ للضفة الأخرى، إلى حدث بسيط وعابر يتمثل في الخطاب المنسوب إلى “طارق بن زياد”، مطلعها “البحر أمامكم والعدو ورائكم”، وهي خطبة اشتهرت أكثر مما اشتهر طارق بن زياد نفسه، وهي رسالة على شكل خطاب طويل مكتوب في مكان بعيد عن محيط الزعيم الأمازيغي، وربما قد يكون ذلك الخطاب مكتوب في دمشق، نظرا للغة العربية البليغة التي كتب بها، والتي يجهلها الزعيم “طارق بن زياد” ومن معه من الجيوش. وهي خطبة تزرعها البرامج المدرسية في ذاكرة الأجيال المتعاقبة، دون العمل على تعريفهم بهوية وثقافة الزعيم والمحارب الذي اقترن به حدث “فتح الأندلس”، وذلك ما يوحي على أن قائل ذلك الخطاب بتلك اللغة العربية الفصحى، لن يكون إلا زعيما “عربيا” جاء من المشرق فاتحا للأندلس، ويخطب في قوم يعرفون ما يقول، والحال أن العكس هو الذي وقع. فلا يوجد ما يثبت أن ذلك الخطاب فعلا قاله “طارق بن زياد”، ولا نجده في المصادر التاريخية ذات الثقة والمصداقية سواء المعاصرة له أو التي جاءت بعده، إلا بعد مرور عدة قرون، فبقي ذلك “أسطورة مؤسسة” من أساطير دعاة الأمويين. أكثر من ذلك؛ لا يخجل بعض النسابة العرب في ربط أصل “طارق بن زياد” باليمن وبالأصول المشرقية.

تاريخيا دخل “طارق بن زياد” إلى الأندلس سنة 92 ه / 711م، وأعقب عليه “موسى بن نصير” الذي كان واليا على إفريقية، وممثلا للجيوش الأموية بها، في السنة الموالية أي في سنة 93 ه، وتتحدث بعض المصادر العربية على أن الفاتح الحقيقي هو “موسى بن نصير” على اعتبار أن “طارق ابن زياد” كان مواليا له، أو تابعا له حيث جعله وليا على طنجة ونواحيها بعد أن قام “بن نصير” بغزو أغلب جهات المغرب الأقصى، وأن غزو بن زياد للأندلس كان بأمر من “بن نصير”. ولكن بالرصد المتأني وبالقراءة الدقيقة للمصادر التاريخية المختلفة التي نقلت أخبار هذه الوقائع، والتي كتبت الكثير عن غزوات “موسى بن نصير” وقساوته في الهجوم والفتك بالأمازيغ لإخماد الثورات التي قاموا بها ضد الولاة الأمويين، وأثناء عمليات الفتح التي قادها بعد “حسان بن النعمان”، فإننا نرجح، أن المحارب الامازيغي قام بالتحرك إلى الضفة الأخرى من تلقاء نفسه، ووفقا لشروط وسياقات تاريخية طارئة، أهمها الغزوات العنيفة التي كان يقوم بها “بن نصير” في حق الأمازيغ، مما جعل “طارق بن زياد” يتحرك نحو الشمال هروبا من بطش الأمويين، وبحثا عن آفاق ومجالات أخرى. وما يرجح هذا الكلام، ما أوردته المصادر العربية حول العلاقة المرتبكة والمتوترة بين الحاكم العربي الأموي “بن نصير” والمحارب الأمازيغي “بن زياد”، وهي علاقة حقد وحسد الأول على الثاني بعد أن نجح في الوصول إلى الأندلس. “ابن عبد الحكم” ذكر في كتابه أن موسى غضب على طارق وسجنه وهم بقتله لولا شفاعة “مغيث الرومي” مولى الخليفة “الوليد بن عبدالملك”. وذكر العديد من المؤرخين أخبارا كثيرة حول هذا الصراع، وإن نشك في صدقيتها التاريخية؛ ولكن نستشف منها طبيعة العلاقة بين الرجلين، فقد ذكر صاحب “أخبار مجموعة في فتح الاندلس”، أنه حين التقى طارق بموسى في الاندلس، نزل الأول عن جواده، بينما وضع موسى السوط على رأسه، كما تذكر مصادر أخرى كلام عنيف أرسله موسى لطارق قبل أن يلتحق به، يأمره بالتوقف. وهنا نتسائل إذا كان الزعيم الامازيغي تابعا لموسى بن نصير وأمره بنشر الإسلام في الاندلس، لماذا يكاتبه ويأمره بالتوقف عن الغزو؟ ولماذا يهين كرامته إلى درجة أن الخلاف وصل إلى الخليفة بدمشق، وربما بسبب ذلك تم نقل طارق بن زياد إلى عاصمة الأمويين في دمشق، وهناك؛ هلك وتوفي في ظروف غامضة سنة 720 م.

فيوجد جدال كبير في قضية ضبط الاسم الحقيقي ونسب “طارق بن زياد” وأصله. حيث يرد في المصادر بصيغ مختلفة ومتعددة، فنجده عند “ابن عذاري” كما يلي: “طارق ابن زياد بن عبدالله بن رفهو بن ورفجوم بن يزنغاسن بن ولهاص بن يطوفت بن نفزوا” ويراه “هشام جعيط” أنه من قبيلة “نفزة” ليس بنفزاوة التي في طرابلس الليبية، وإنما ب”نفزة” التي توجد بضواحي طنجة. ويرى الكثير من الباحثين المعاصرين أنه يرجح أن يكون فعلا ابن قبيلة نفزة التي توجد في الريف بشمال المغرب.

أما المؤرخ الامازيغي “صدقي علي أزايكو” المتخصص في قراءة المصادر العربية والأجنبية التي تناولت بداية ما يسمى ب”الفتوحات الإسلامية”، فيقول أن “طارق ابن زياد” “قد يكون واحدا من أبناء داهيا”. مجمل القول؛ يبقى نسب وتاريخ “طارق ابن زياد” مجهولا وغامضا، لأسباب سياسية معروفة، جعلت اهتمام المؤرخين وكتاب الأخبار يهتمون بخطاب مزعوم ومنسوب كتب بدمشق بلغة سلطانية، ولم يهتموا بشخصية الزعيم الفاتح الامازيغي طارق. ونفس الشيء وقع مع الزعيم والمقاوم الأمازيغي “أكسيل” الذي قتل “عقبة بن نافع” سنة 683م، فتدرس مناقبه وبطولاته ومساراته في المدارس المغربية وفي كل بلدان شمال افريقيا، باعتباره بطلا قوميا ودينيا، ولا توجد أية معلومة على المقاومين الوطنيين الذين واجهوا عقبة وأمثاله، كتهيا وأكسيل وغيرهم. ويتم الحديث عنهم عرضا. هم أيضا يستحقون الذكر والتعريف والتدريس، ومن حق جميع أبناء المغرب الكبير أن يدرسوا تجارب وبطولات أسلافهم. فلماذا تقوم دول شمال افريقيا بتقزيم تاريخها؟

الأمازيغ أكثر كثافة في الأندلس

أكد الباحث “محمد حقي” في أطروحته الرصينة جدا حول موضوع “البربر في الأندلس” أن الامازيغ دخلوا إلى الجزيرة الابيرية بأعداد كبيرة وبشكل كثيف، فبعد عرضه للأرقام التي وردت في جل المصادر وقارنها فيما بينها. رجح الباحث أن العدد الذي عبر إلى الضفة الشمالية مع جيش “طارق ابن زياد” سنة 711م يقارب 12 ألف مهاجر، كلهم من الامازيغ. وتولت بعد ذلك عمليات الهجرة نحو الشمال عبر مراحل، لخصها الباحث في ثلاث مراحل مهمة غطت فترة زمنية تتجاوز 4 قرون، انتقل خلالها الأمازيغ إلى الأندلس عبر هجرات جماعية. بالإضافة ألى الهجرات التي حدثت أثناء قيام الدول الأمازيغية الكبرى بعد القرن 11م، المرابطون والموحدون والمرينيون. وهي فترة غطت هي الأخرى أربعة قرون. ويتوزع الأمازيغ عبر مختلف الجهات والمناطق والمدن داخل بلاد الأندلس، ورصد الباحث “محمد حقي” خريطة استيطان الأمازيغ، وإن كان أغلبهم استقر في المناطق الجبلية والريفية، إلا أن عددا مهما منهم استقر بالمدن خاصة مدينة قرطبة. وجاء عند “ابن الخطيب” أن الامازيغ بعد قيامهم بعدة تمردات، وخاصة بعد انتصار المستعين على هشام المؤيد بالله سنة 1012م، عمل الأمازيغ على اقتسام البلاد الاندلسية فيما بينهم، وحصل أغلبهم على كور جنوب شرق قرطبة، فحصل صنهاجة على البيرة، وبنو برزال وبنو يفرن على جيان وذواتها. وبنو دمر وأوزداجة على شذونة ومورور، ومغراوة على جوف البلاد.

وكثيرة هي القبائل الأمازيغية التي هاجرت بلاد المغرب واستقرت بالأندلس، وانتقلت بشكل جماعي بالنساء والأطفال، من صنهاجة وزناتة ومصمودة. وفي حديثه عن بيوتات الامازيغ في الأندلس، ذكر صاحب “مفاخر البربر” عددا من المجموعات الامازيغية وهي: صنهاجة، زناتة، مكناسة، مديونة، مغلية، ملزوزة، بنورزين، ولهاصة، نفزة، هوارة، مصمودة، أوربة، كتامة، لمتونة.

ولكن السؤال المطروح هو: بأية لغة كان يتخاطب هؤلاء الأمازيغ في الأندلس؟

وفي محاولة للإجابة عن هذا السؤال، نصطدم بشح المعلومة والاخبار عن هذا الموضوع، ونصطدم أيضا بالعقلية الاقصائية التي كانت تهيمن على جميع الكتاب والمؤرخين، من خلال ازدرائهم من اللغة الأمازيغية واجتناب تدوين أخبار ومعطيات مرتبطة بلغة التخاطب اليومي، ولغة الفئات الاجتماعية السفلى، لأن أغلب المؤرخين كانوا موظفين في بلاطات الأمراء والملوك. وتبقى نتف قليلة جدا متناثرة بين طيات النصوص والمتون، نستشف منها أن اللغة الامازيغية كانت منتشرة جدا في كل المناطق التي استقر بها الامازيغ. وأفيد هذه الشواهد التاريخية النادرة ما نقله لنا “ابن القوطية” أثناء حديثه عن ثورة “عبدالغفار وعمرو بن طالوت” ضد “عبدالرحمان الداخل” سنة 768م، قال : فسمع كلام البربر يتكلمون في العسكر بالبربرية، فدعا بمواليه من البربر من بني الخليع وبني وانسوس وغيرهم. فقال خاطبوا بني عمكم وعظوهم…فلما أظل الليل دنوا من المعسكر وخاطبوهم بالبربرية، فأجابوهم إلى ما أحبوه”. وهذا دليل على أن الامازيغية كانت متداولة جدا بين الأمازيغ في الأندلس، وحتى تلك القبائل التي كانت موالية للامويين من بني خليع وبني وانسوس وغيرها، بالرغم من اشتغالها مع عبدالرحمان الداخل فلاتزال تتحدث بالأمازيغية إلى جانب العربية، وساعدت هذه القبائل الامازيغية في تصفية النزاعات السياسية وكبح التمردات، بمعنى كانت لغة عصبية ولغة تضامن وتعاضد، ولغة تواصل وحيوية ذات وظيفة اجتماعية وسياسية. وذلك ما فطن له “عبدالرحمان الداخل” حين أمر الامازيغ التابعين له، بالحديث مع ابناء عمومتهم الثوار. ولم تكن الامازيغية حبيسة الفئات السفلى من المجتمع، وإنما كانت لغة يتخاطب بها الملوك في الاندلس، ك”زيري بن مناد” مؤسس مملكة غرناطة، وملوك آخرين، وذلك ما نقله لنا ابن الخطيب اثناء حديثه عن “باديس بن حبوس” عندما تخلص من أحد أعدائه سنة 1036 م، قائلا: “وجعل يراطن أخاه بالبربرية” وهذا ملك من ملوك الطوائف.

إذن؛ فاللغة الأمازيغية كانت متداولة بشكل كبير داخل المجتمع أفقيا وعموديا، وكانت متداولة في البوادي والمدن، وداخل القصور والبلاطات، ولكن نصطدم بشح وانعدام المعلومات عنها، لأن حركية التعريب كانت تتجه بسرعة وبكثافة لتكون اللغة العربية هي السائدة نخبويا وشعبيا. وبالرغم من صمت المصادر عن حقيقة الوجود الامازيغي في الاندلس وتضخيمهم في الحديث عن الحضور العربي، فيه نوعا من الأسطرة وكثيرا من الايديولوجيا، غير أن تقدم علوم الاركيولوجيا والانثروبولوجيا وتطور الحفريات، سيكشف المزيد من الحقائق التي تم تغييبها، ولعل الابحاث العلمية الدقيقة المنجزة مؤخرا على العديد من المدافن والمقابر بمناطق متفرقة من الأندلس، كشفت عن جزء هام من هذه الأسرار، خاصة التي تتعلق بأصول الشعوب وحقيقة الهجرات، وأكدت هذه الدراسات علميا أن اسبانيا حاليا لم تعرف في فترة من فترات تاريخها الطويل، الا جنسين إثنين من الشعوب، الأول هو الانسان الايبيري، والشمال الافريقي، يعني الامازيغي، وهذا الأخير تواجد بجنوب اسبانيا قبل صعود جيوش طارق بن زياد بكثير…وهذه الحقائق والمستجدات تتيح لنا إمكانية قراءة تاريخ “الفتح الاسلامي” من جديد، وهذا ورش جديد للباحثين المهتمين.

الأمازيغ ملوك وعلماء بالأندلس:

قبل أن يثور الأمازيغ على الحكم الأموي ويؤسسون امارات سياسية مستقلة، اشتغلوا معهم داخل أجهزة الدولة في شتى الوظائف وشغلوا مناصب كثيرة، ولا يمكن الحديث عن جميع الأمراء والموظفين الكبار الذين طبعوا التاريخ الامازيغي الأندلسي. لذلك، سنعرج على أسرتين أمازيغيتين، ذكرهما الباحث “محمد حقي” في دراسته، وهما أسرة “بني الزجالي” والتي تنتمي إلى قبيلة “مديونة” من زناتة حسب ما أورده “إبن حزم”، وهي من أهم بيوتات الامازيغ المشهورة والمرموقة في الاندلس، أسسها الأديب والكاتب “محمد بن سعيد الزجالي” واسمه الأصلي هو “وارشكين”، وقد تناسل العلم والفكر والآداب في هذه الأسرة العلمية، وتم تعيين مؤسسها في البداية كاتبا للوزراء من طرف الأمير “عبدالرحمان الثاني”، ثم عينه في كتابته الخاصة فيما بعد. والتحقت أسرة الزجالي إلى مدينة قرطبة وانتشر نسلها واشتهر اسمها في مراتب الدولة. وبعد وفاة “محمد بن سعيد”، تولى أحد أبنائه الوزارة إلى حين وفاته سنة 881م، وخلال عهد “عبدالرحمان الناصر” هيمن “آل الزجالي” على كثير من المناصب الإدارية، وخاصة منهم “عبدالرحمان بن عبدالله الزجالي” الذي تقلد عدة مناصب وزارية.

أما الاسرة الأمازيغية الثانية فهي أسرة “بني ذي النون”، هي تختلف عن الأسرة الأولى لأنها أسرة أميرية انتقلت من طاعة الامويين إلى مرحلة التعاون معهم ثم إلى العصيان والقطيعة.(أنطر محمد حقي). فهي أسرة تعود أصولها إلى قبيلة هوارة، مؤسسها جاء مع جيوش طارق بن زياد، اسمه الأصلي هو “زنون” ثم تحول إلى “ذو النون”، اشتهرت هذه الأسرة بالشجاعة والفروسية والقتال، كانت تملك أراضي شاسعة نتيجة تزعمها لعمليات الجهاد، وتمكنت من جمع ثروات هائلة بمنطقة تسمى “أقاقلة” بكورة شنت برية. وكان اتصالها بالدولة الأموية حين كلفها الأمير محمد بتأديب “طليطلة” في سنة 874م، ونجحوا في الحاق هزائم متتالية لأهاليها. لكن ولاء هذه الأسرة للدولة الأموية لم يدم طويلا، فسرعان ما أعلن موسى بن ذي النون الثورة عليها، وقام بتوسيع نفوذه إلى أن جاور مدينة بلنسية. وتحالفت هذه الأسرة مع ثوار آخرين ودخلوا في صراع مع الامويين على عدة حصون وقلاع.

وذكر صاحب مفاخر البربر، أن “إسماعيل بن ذي النون” هو من بين أوائل ثوار الامازيغ في الأندلس، واستقل بالحكم في مدينة طليطلة واحوازها إلى مدينة بلنسية، وبقيت تلك البلاد بيده وبيد أولاده وأحفاده. وتعتبر دولة “زيري بن مناد” الصنهاجية أهم تجربة سياسية مشهودة للامازيغ في تاريخ الأندلس، لانهم تركوا إرثا حضاريا وعمرانيا وثقافيا مهما، كانت أهم تجلياته هو تأسيس مدينة غرناطة سنة 1013م، وأقاموا بها إمارة سياسية مستقلة ودامت فترة طويلة، إلى أن زحفت عليهم جيوش بنو عمومتهم صنهاجة الصحراء (المرابطون) بقيادة “يوسف ابن تاشفين”، وأخرجوهم منها سنة 1090م، واعتقل الأمير “عبدالله بن بلكين” وأخوه تميم أمير مالگة، ورحلهم الى المغرب، الأول سجنه في معتقل أغمات مع المعتمد بن عباد، والثاني رحله إلى نول.

كما ثار أمازيغ بنو “برزال” وأميرهم “محمد بن عبدالله البرزيلي”، وهم زناتة من بني يفرن، شيدوا إمارة خاصة بهم في منطقة بقرمونة.

هذه بعض المعطيات المختصرة جدا حول الدور السياسي الذي كان للأمازيغ في القرون الأولى بعد الفتح، قبل وصول الدول الامازيغية الكبرى التي قامت بتوحيد الأندلس مع بلاد المغرب.

لم يكن هؤلاء الأمازيغ فقط حطب الحروب يشتغلون كجيوش وكمرتزقة، ويقودون المعارك والغارات، وإنما كانوا أيضا؛ يهتمون بالعلم والمعرفة والثقافة.

فيعج تاريخ الأندلس بأسماء العلماء الأمازيغ في شتى أصناف وضروب العلم في ذلك العصر، ولكن تواجهنا إشكالية عويصة في عملية إحصاء العلماء الأمازيغ بسبب ما تعرضت له أسمائهم من تعريب وتصحيف، وكذلك بسبب ما طال أنساب الأمازيغ من طمس واهمال، لأسباب ذاتية وموضوعية، لا سيما إذا علمنا أن فئة العلماء والفقهاء هي الأكثر تهافتا واسراعا إلى تبني أنساب عربية. وقد أحصى الباحث “محمد حقي” من خلال اطلاعه المحكم على أغلب المصادر الأندلسية والمغربي التي كتبت خلال العصر الوسيط، ما يناهز 108 شخصية علمية أمازيغية. ونذكر بعض الأسماء كالعالم “عمر بن حمدون المغيلي”، و”يحي بن يحي الليثي”، و”أبو موسى عبد الرحمان الهواري” وآخرون كثر، ينتمون إلى نخبة العلماء والفقهاء والأدباء، والذين ساهموا بسخاء في إثراء الحياة العلمية والثقافية بالأندلس، وأغلبهم عاش في القرنين الثامن والتاسع الميلادي. واشتغل الأمازيغ في شتى أنواع العلوم والمعارف، من علوم القرآن والحديث، وفقه وشعر آداب، وعلم الكلام والهندسة، والحساب والفلك والزراعة والمنطق ثم التاريخ.

ويظهر أنهم تميزوا وتبحروا في كل العلوم التي كانت سائدة في الأندلس آنذاك، على غرار كل البلدان التي انتشر فيها الإسلام، حيث طغت كثيرا العلوم الدينية واللغوية، نظرا لتوجهات الدول الإسلامية التي كانت تهتم أكثير بترسيخ هذه العلوم لأنها تتماشى مع طبيعة هذه الدول وتتلائم مع مشروعيتها السياسية وايديولوجيتها.

ومن بين العلماء الامازيغ الذين اشتغلوا في العلوم العقلية نجد اسم “عبدالله بن محمد المغيلي القرطبي” توفي سنة 945م، كان متخصصا في الحساب، وكذلك “سهل ابن إبراهيم بن نوح الاستيجي”. أما في الهندسة نجد “عبدالرحمان بن زيد” من أسرة آل ذكوان، وكان عالما بارعا فيها. و”إسماعيل بن تاجيت” وأخوه اللذان تخصصا في صناعة القسم.

أما في علم الفلك، فاشتهر فيه العالم الامازيغي “عباس بن ناصح المصمودي الجزيري”، وكان متخصصا في علم النجوم واعتبر أول من أدخله إلى الأندلس وقام بتدريسه. كما نبغ في علم المنطق العالم “عبدالرحمان ابن إسماعيل الاقليدي”. أما في حقل الزراعة فقد اشتهر فيه “عبدالله بن محمد المغيلي” وهو عالم بالزراعة.

وفي علم التاريخ فقد اهتم به امازيغ الأندلس كثيرا، وألفوا فيه كتب كثيرة، البعض منها اختفى واندثر وضاع، ومنهم المؤرخ “أبو عبدالله محمد بن حمادو البرنسي”، مؤلف كتاب ” المقتبس في أخبار المغرب والأندلس”، والمؤرخ “محمد بن عبدالله بن أبي زمنين”، وفي علم كلام اشتهر فيهم العالم والعارف “منذر بن سعيد البلوطي”، قاضي الجماعة الذي قال فيه ابن حزم أنه كان هو رأس المعتزلة بالأندلس وكبيرهم وأستاذهم.

ويلاحظ أن الامازيغ ساهموا في كل العلوم وفروعها طيلة تواجدهم بالاندلس لما يقارب 8 قرون، ولا يمكن في هذه المقالة أن نقدم كل أسماء علماء الأمازيغ ومنجزاتهم ومناقبهم وأعمالهم، طيلة هذه المدة الطويلة. لأنهم كانوا في مقدمة الحدث التاريخي منذ بدابة الفتح/ الغزو، وتركوا بصمات واضحة وراسخة، وقاموا بعمل جليل وجبار في إرساء معالم الحضارة والثقافة الأندلسية. كما يعود لهم الفضل في نشر الإسلام في الأندلس والدفاع عن حرمة المسلمين وتحصينهم، وكذلك في توحيد كل مناطق الأندلس تحت دول امبراطورية عظمى.

وهدف هذه الدراسة، هو إبراز الدور الكبير الذي لعبه الامازيغ في هذا البناء الحضاري المهم، لأنه لاحظنا الاجحاف الذي تعرضوا له، وتنسب كل منجزاتهم وأعمالهم إلى غيرهم، الأمر الذي جعل تاريخ الأندلس ينظر إليه من زاوية أحادية واقصائية، ولم ينظر إليه باعتباره كتاريخ المشترك الثقافي والانساني، فحضارة الأندلس هي حضارة مشتركة ساهمت في بنائها العديد من الشعوب المتوسطية، ذات الهوية المتعددة. ولأهداف سياسية لم تعط للأندلس حتى هويته المغربية الأصيلة، في حين تم تزييف واقع التثاقف والتمازج الحضاري، وألصقت للأندلس هوية أحادية تتأسس على ايديلوجية “العروبة”. وحتى حين عاد الأندلسيون إلى المغرب بعد سقوط غرناطة 1492، اتخذوا لأنفسهم هوية مشرقية صرفة، ونسوا أن الاندلس عمره وبناه المغاربة، وكان دائما فضاء للتعدد والتنوع الثقافي واللغوي.

ونتعجب اليوم، حين نسمع أن بعض معالم الحضارة والثقافة من معمار وزخرفة وموسيقى التي تصنف أنها اندلسية، (نتعجب) حين يتم ربطها بالثقافة العربية. فهذه أخطاء جسيمة ارتكبت في الماضي، حين اشتغلت الدولة المغربية بسلخ هويتها وثقافتها وتقمصت هوية أحادية مصطنعة، مبنية على العروبة مع اقصاء الأبعاد الأخرى، واليوم حين تراجعت الدولة عن أخطائها جزئيا، وتصالحت مع نفسها في تبني الهوية في أبعادها المتعددة، واعترفت بالتنوع الثقافي، فلابد لها أن تتصالح مع التاريخ بدون عقد ولا مركب نقص. وننظر إلى الماضي بنظرة شمولية متفتحة، لنتمكن من تدريس التاريخ للأجيال المقبلة بشكل موضوعي متصالح مع الذات، يغرس فيهم جذور الوطنية الحقيقة بكل افتخار واعتزاز.
وعليه فلابد من إعادة الاعتبار لتاريخ الأندلس، وغربلته من الاساطير والأكاذيب. فهو تاريخ مشترك ساهم فيه الامازيغ بقسط وافر بمعية أقوام أخرى.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments