محمد بودهان: التعريب كخدعة للحفاظ على الامتيازات الطبقية (1/2)


قصة مقال قديم حول التعريب:

وأنا أستجمع عناصرَ كتابة موضوع حول التعريب ولغة التدريس بمناسبة إقرار القانون الإطار رقم 51.17، المتعلق بمنظومة التربية والتكوين، الذي صادق عليه مجلس النواب يوم الاثنين 22 يوليوز 2019، أبيّن فيه (الموضوع) أن الطبقة التي تحتلّ مواقع مهيمنة ومؤثّرة، ماديا ورمزيا، تستعمل اللغة كأداة للحفاظ على مواقعها، ومنع الطبقات الشعبية من أن تحتل، هي أيضا، مثل هذه المواقع ذات النفوذ المادي والرمزي، (وأنا أستجمع) انتابني إحساس ما يُسمّى بالفرنسية(déjà-vu) ، أي إحساس أن هذه الأفكار سبق أن كتبتها ونشرتها، وخصوصا أنني كتبت الكثير عن التعليم والتعريب ولغة التدريس، وهو ما لا يسمح بتذكّر واستحضار كل الأفكار التي تضمنتها تلك الكتابات، التي انصبت على نفس الموضوع، الذي هو التعليم ولغة التدريس. وحتى لا أكرّر، دون قصد، أفكارا حول هذا الموضوع (التعليم ولغة التدريس) سبق أن نشرتها سابقا، عدت إلى فحص لائحة من المقالات التي سبق أن نشرتها دون أن أُدرجها ضمن كتبي ذات الصلة بالموضوع، مثل كتابيّ “في الهوية الأمازيغية للمغرب”، و”في العربية والدارجة والتحوّل الجنسي الهوياتي”، اللذيْن يتضمّنان مجموعة من المقالات ذات العلاقة بالتعريب. فكانت المفاجأة أنني عثرت على مقال بالفرنسية بعنوان: “L’arabisation de l’enseignement: un subterfuge pour préserver les privilèges de classe!” (تعريب التعليم: حيلة للحفاظ على الامتيازات الطبقية)، كتبته في أبريل 1995 وأرسلته إلى المجلة الأمازيغية الفصلية “تيفيناغ Tifinagh”، التي ستنشره بالعدد 7 لشهر سبتمبر 1995. كما سبق أن أرسلته، مترجما إلى العربية بعنوان “التعريب كـميكانيسم للحفاظ على الامتيازات الطبقية”، إلى يومية “الاتحاد الاشتراكي” التي نشرته بتاريخ 11 يونيو 1995 بصفحة “آراء ومناقشات”.

لما قرأت الموضوع في مصدريه، الفرنسي الأصلي والعربي، اللذيْن لا زلت أحتفظ بهما، حتى أن لا أكرّر ما جاء فيه من أفكار في المقالة الجديدة التي كنت بصدد إعدادها، كما أشرت، اقتنعت أن التحليل الذي قاربت به التعريب في 1995 لا يزال، من وجهة نظري، صالحا لتفسير “ظاهرة” التعريب، ومسألة اختيار لغة التدريس بصفة عامة. فقرّرت أن أعيد نشره، بعد إضافة الأقسام التوضيحية الثلاثة الأولى القصيرة، والقسمين ما قبل الأخير والأخير الخاص بدلالة التراجع عن التعريب، مع تعديلات طفيفة على النص الأصلي، لا تعدو أن تكون تصحيحا فقط لترجمة بعض التعابير من الفرنسية إلى العربية.

التعريب بين اللغة والهوية:

إذا كان لسياسة التعريب، كما مورست بالمغرب، جانبها الهوياتي، الذي يخص أولا وأساسا مسألة الهوية التي تعمل هذه السياسة على تعريبها، أي التحويل الجنسي للمغاربة من جنسهم الأمازيغي الإفريقي إلى جنس عربي أسيوي، كغاية وسبب لهذا التعريب، فإن له جانبه اللغوي الذي تُستعمل فيه اللغة كرهان اجتماعي وطبقي للاستئثار بمواقع الهيمنة، المادية (السياسية والاقتصادية) والرمزية (الثقافية والفكرية والإيديولوجية)، وإعادة إنتاجها.

هذه المناقشة تقارب هذا الجانب اللغوي للتعريب ـ اللغوي وليس الهوياتي ـ بتبيان أن الصراع بين تعريب وفرنسة التعليم، هو صراع طبقي بين فئة مهيمنة، تحتكر السلطة والثروة، وتعمل على فرض التعريب على الفئات الأخرى من الشعب لتحافظ بذلك على هيمنتها وامتيازاتها السياسية والاقتصادية، عبر شغلها للمناصب والوظائف “النبيلة” والنافذة، بفضل التعليم الذي تلقّته ـ ويتلقّاه أبناؤها ـ باللغة الأجنبية.

كتاب “إعادة الإنتاج”:

هذه المقاربة “الطبقية” لموضوع التعريب، استوحيتها من كتاب “إعادة الإنتاج ـ عناصر من أجل نظرية لنظام التعليم”، لمؤلّفيْه “بيير بورديو” و “كلود باسرون”(Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron, “La Reproduction – éléments pour une théorie du système d’enseignement”, les éditions de Minuit; 1983). وهو كتاب يبرهن فيه الكاتبان أن وظيفة التعليم الحقيقية، ليست هي المعلن عنها في البرامج والوثائق الرسمية، بل هي تلك المضمرة dissimulée، المتمثّلة في خدمة مصالح الطبقة النافذة وإعادة إنتاج العلاقات الطبقية Rapports de classe التي بها تحافظ تلك الطبقة على وضعها الامتيازي المهيمن، ماديا ورمزيا. ولهذا يعمل النظام التعليمي، كما يوضّح المؤلفان، على إنتاج منتوج معيد لشروط إنتاج ذلك المنتوج.

وإذا كان الكتاب يحلّل نظام التعليم، ليس بفرنسا التي ينتمي إليها الكاتبان، ولا في علاقته بلغة التدريس بهذا البلد، وإنما بصفته تلك، أي كنظام للتعليم، لا يخص لغة التدريس بفرنسا ولا بغيرها من البلدان، إلا أنني سأطبّق المفاهيم التي بنى عليها المؤلفان تحليلهما على مسألة التعريب ولغة التدريس بالمغرب. لماذا؟ لأن هذه المسألة هي التي تجتمع فيها كل الشروط الضرورية لأداء نظام التعليم بالمغرب لوظيفته الحقيقية، أي وظيفته المضمرة، المشار إليها أعلاه. ولأجل ذلك وظّفتُ، في هذا المقال، المفاهيم الأساسية التي يستخدمها الكاتبان، مثل: الرأسمال الثقافي، الرأسمال الاجتماعي، إعادة الإنتاج، العنف الرمزي…

المستوى التعليمي كمحدّد ونتيجة للمستوى الاجتماعي:

رغم أن الاستعمار الفرنسي لم يكن يهمه تعليم المغاربة وتثقيفهم إلا بالقدر الذي يحتاج إليه ويخدم مصالحه، إلا أن ذلك لم يمنع فئة منهم من الاستفادة من فترة الحماية، بإدخال أبنائهم إلى المدارس العصرية الفرنسية، حيث تعلّموا اللغة الفرنسية، واكتسبوا بفضلها مستوى معرفيا وثقافيا متقدمّا جدا بالنسبة لباقي المغاربة في تلك الحقبة. ويتكوّن هؤلاء المحظوظون، كما هو معروف، من أبناء الأعيان والعائلات الموسرة، والمتعاونين مع الإدارة الاستعمارية، وأصحاب الجاه والنفوذ المقرّبين من المخزن المحمي، من ذوي الأصل الحضري، في الغالب. أما بقية أبناء الشعب المغربي، فقد كانوا محرومين من هذه الامتيازات التعليمية، بل كانوا محرومين من كل شيء، كما كانت حال سكان الجبال الذين كانوا منشغلين بمقاومة المستعمر، فلم تتح لهم نفس الفرص لتعليم أبنائهم في المدارس العصرية، التي كانت موجودة في المدن الكبيرة فقط.

وبعد أن أحكمت فرنسا سيطرتها على هذه المناطق، ابتداء من 1936، استمرت في حرمانها من أية إصلاحات أو تجهيزات أو خدمات، كالتي وفّرتها بالمناطق الحضرية المسالمة والمتعاونة، بل لقد ضاعفت من تهميش وتجهيل (نشر الجهل) وتفقير سكان هذه المناطق عقابا لهم على مقاومتهم وعدم تعاونهم. ومع بداية الاستقلال، كان الفرق كبيرا بين فئة صغيرة من المغاربة يملكون رأسمالا ثقافيا وتعليميا، وفئة عريضة ـ بل الشعب المغربي بكامله تقريبا ـ غارقة في الجهل والأمية.

وستظهر نتائج هذا التفاوت، في الرأسمال الثقافي والتعليمي، بين الفئتين، غداة الاستقلال، عندما بدأت مغربة الأطر وتعويض الفرنسيين بالمغاربة في التسيير والمسؤوليات، والوظائف والمناصب. فقد كانت هذه الأخيرة، بطبيعة الحال، من نصيب المنتمين إلى الفئة الأولى، بحكم مستواهم التعليمي وإتقانهم للغة الفرنسية. فكان منهم رجال السلطة، والمسؤولون الحكوميون، ومسيّرو الشركات، ورؤساء المؤسسات العمومية، ومديرو المدارس والثانويات، والمدرّسون بها (كانت مهنة التدريس، في هذه المرحلة، وظيفة مهمة ومحترمة)، والمحامون، والموثّقون… لقد ركّزت هذه النخبة، في أيديها، بفضل التعليم العصري الذي تلقّته في المدارس الفرنسية لعهد الحماية، كل الوظائف والمسؤوليات التي كانت مصدرا لمراكز اجتماعية محترمة، وشرطا لاكتساب النفوذ والسلطة، وكذلك المال والثروة. الشيء الذي مكّنها من إعادة إنتاج شروط تفوّقها وامتيازاتها كنخبة وطبقة متميّزة.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه النخبة استفادت من التعليم الفرنسي العصري بفضل ما كان لها من ثروة ومكانة وجاه ونفوذ، وقرب من الإدارة الاستعمارية ومن المخزن المحمي، كما سبقت الإشارة. وها هي، بعد الاستقلال، تشكّل، كذلك، نخبة ذات ثروة ومكانة، ونفوذ وسلطة وقرب من مراكز القرار، بفضل مستواها الثقافي والتعليمي. فالامتيازات الاجتماعية الطبقية تُترجم إلى امتيازات ثقافية وتعليمية، تعيد بدورها إنتاج تلك الامتيازات الاجتماعية الطبقية، لكون إحدى الخصائص الجوهرية لنظام التعليم، هي أنه ينتج منتوجا معيدا لشروط إنتاج ذلك المنتوج، كما بيّن مؤلفا “إعادة الإنتاج” كما سبقت الإشارة. فالسبب، في إطار العلاقة بين المستوى الثقافي التعليمي والمستوى الاجتماعي الاقتصادي، يصبح نتيجة، والنتيجة تصبح بدورها سببا. فهناك دائما دائرة مغلقة تتكوّن من عناصر، هي في نفس الوقت سبب ونتيجة لبعضها البعض، حيث يؤدّي الامتياز الاجتماعي إلى اكتساب امتياز ثقافي وتعليمي، يُنتج بدوره امتيازا اجتماعيا، كما يوضّح الرسم التالي:

وهذه حلقة مغلقة، من الصعب الخروج منها دون تكسير أحد عناصرها. وهذا ما ستقوم به المدرسة المغربية، بتعميمها للتعليم وإقرار مجانيته ودمقرطته لغويا.

الآثار الاجتماعية لتعميم التعليم ومجانيته ودمقرطته لغويا:

يمكن القول إن من بين مبادئ التعليم الأربعة ـ المغربة، التعميم، التعريب والتوحيد ـ، التي نادت بها ما يُعرف بـ”الحركة الوطنية”، حظي تعميم التعليم بعناية كبيرة منذ الحكومات الأولى التي تعاقبت على السلطة بعد الاستقلال. فقد أنشِئت المدارس في كافة انحاء المملكة، وخصوصا ـ وهذا هو الأهم ـ في المناطق الريفية البعيدة عن المراكز الحضرية، والتي ظلت محرومة من نور التعليم العصري طيلة فترة الحماية. والأهم كذلك بهذا الخصوص، أن الكثير من أبناء الطبقات المعوزة والأسر القروية الفقيرة، التحقوا بالمدرسة العصرية ـ بعد أن كان ذك مقصورا على أبناء الأثرياء والأعيان بالحواضر والمدن ـ، وذلك بفضل سياسة مجانية التعليم وتعميمه، التي انتهجتها، بصدق وجدّية، حكومات العقدين الأولين لما بعد الاستقلال.

وقد كانت اللغة العربية حاضرة في البرامج الدراسية لهذه المرحلة، إلا أنها كانت تُدرّس كلغة ولا تُعتمد كلغة للتدريس. ورغم أن تعريب المواد، التي تنتمي إلى حقل العلوم الإنسانية كالاجتماعيات والفلسفة بالتعليم الثانوي، شُرع فيه منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي، إلا أن هذا التعريب الجزئي، والثانوي، لم يكن له تأثير كبير على لغة التدريس الرئيسية، التي ظلت هي اللغة الفرنسية، التي كانت تُلقّن بها العلوم والرياضيات منذ السنة الثالثة من التعليم الابتدائي. والأهم، بخصوص مسألة اللغة بالنسبة للتعليم العصري الجديد، أن نفس اللغة التي كان يدرس بها ابن الأسرة الفقيرة بالقرية النائية، هي نفسها اللغة التي كان يدرس بها ابن الأسرة الموسرة بالمدينة. وهذا ما أعنيه بعبارة “الدمقرطة اللغوية” التي أستعملها في هذه المناقشة.

وقد بدأت سياسة تعميم التعليم ومجانيته ودمقرطته اللغوية تعطي أكلها ونتائجها مع سبعينيات القرن الماضي. وكل الاستطراد السابق كان ضروريا من أجل الوصول إلى هذه النتائج وفهمها، كمرحلة منطقية لفهم دور تعريب التعليم في الحفاظ على تفوّق وامتيازات طبقة نخبوية ونافذة، والإبقاء على الحدود الطبقية بينها وبين باقي الطبقات الاجتماعية الأخرى.

فبفضل التعليم العصري، المجاني والعمومي، المستعمِل لنفس اللغة للتدريس، وهي الفرنسية كلغة أولى وأساسية، أصبح أبناء الطبقات الفقيرة والعائلات القروية الريفية (نسبة إلى الأرياف وليس منطقة الريف)، يشغلون هم أيضا، مع سبعينيات القرن الماضي، وبفضل مستواهم التعليمي والتكويني، الوظائف والمناصب التي كانت، قبل تعميم التعليم ومجانيته ودمقرطته اللغوية، حكرا على أبناء الأثرياء والوجهاء الذين درسوا بالمدارس الفرنسية. فكان من أبناء هذه الطبقات، الفقيرة والقروية، رجال سلطة، وأساتذة، ومحامون، وموثّقون، وأطباء، ومهندسون، ومديرو شركات… ومنهم من تسلّق مراتب عليا في المسؤوليات الحكومية، مع ما توفّره هذه المناصب من مكانة ونفوذ وسلطة، وما تمنحه من إمكانات كبيرة لتغيير الوضع الاجتماعي الطبقي لأصحاب تلك المناصب.

هكذا أصبح التعليم، إذن، وبفضل تعميمه ومجانيته ودمقرطته اللغوية، وسيلة فعّالة وناجعة للارتقاء الاجتماعي، ولاختراق الحدود بين الطبقات الاجتماعية بالشكل الذي يسمح لقادم من طبقة شعبية وفقيرة، أن ينتمي إلى طبقة النخبة الراقية، الموسرة والنافذة. وهكذا، فبعد أن أصبح بمقدور أبناء الطبقات الشعبية الوصول، هم أيضا، إلى المناصب الهامة والنافذة بفضل تعميم التعليم ومجانيته ودمقرطته اللغوية، لم تعد طبقة معيّنة هي التي تتولّى وحدها تسيير شؤون البلاد، وشغل المناصب الهامة والنافذة، بسبب ثقافتها وتكوينها ومستواها التعليمي الجيد، الذي كانت تحتكره، بفضل امتيازاتها الطبقية التي كانت تسمح لها بالحصول على مستوى ثقافي وتعليمي وتكويني يعيد إنتاج تلك الامتيازات، وهو ما كان يشكّل، كما رأينا في الرسم أعلاه، دائرة مغلقة تتحرّك داخلها تلك الطبقة وحدها، وتمنع أبناء الطبقات الأخرى من الولوج إليها.

لقد كسّر تعميم التعليم ومجانيته ودمقرطته اللغويةُ هذه الدائرة المغلقة بـ”تحييده” لأهم عنصر فيها، والذي هو التوفّر مسبّقا على امتيازات اجتماعية (رأسمال اجتماعي)، تشمل الثروة والنفوذ والسلطة والقرب من صنّاع القرار… فلم يعد للثروة ولا لأي امتياز اجتماعي دورٌ في أن يتلقّى هذا المغربي تعليما ليس في متناول مغربي آخر، وهذا بفضل تعميم التعليم ومجانيته ودمقرطته اللغوية، حيث أصبح الجميع يستفيدون من نفس التعليم، بغض النظر عن أوضاعهم الاجتماعية، الشيء الذي نتج عنه، كما رأينا، تلاشي الحدود الطبقية بين النخبة والدهماء، وأصبح بإمكان ابن الطبقات الشعبية أن يغيّر وضعه الاجتماعي الأصلي، ويرتقي إلى مواقع اجتماعية عليا ونافذة، وذلك بفضل تكوينه وثقافته وشواهده التعليمية، التي أصبح الحصول عليها متاحا وممكنا بسبب تعميم التعليم ومجانيته ودمقرطته اللغوية.

فلم يعد، إذن، الرأسمال الاجتماعي، المتكوّن من مجموع الامتيازات الاجتماعية من ثروة ونفوذ وسلطة وقرب من مراكز القرار…، كما سبقت الإشارة، هو مصدر الرأسمال الثقافي والتعليمي والمعرفي، بل أصبح هذا الأخير هو مصدر لتكوين رأسمال اجتماعي. والنتيجة أن الطبقة، التي تمتلك رأسمالا اجتماعيا، لم تعد هي وحدها القادرة على تحويله إلى رأسمال ثقافي وتعليمي ومعرفي، يسمح لها وحدها بشغل مواقع مهيمنة في المجتمع، ما دام قد أصبح من الممكن الحصول على هذا الرأسمال، الثقافي والتعليمي والمعرفي، دون استثمار سابق لأي رأسمال اجتماعي، وذلك بفضل تعميم التعليم ومجانيته ودمقرطته اللغوية.

وهكذا أصبحت الطبقات الشعبية والفقيرة ـ ودائما بفضل تعميم التعليم ومجانيته ودمقرطته اللغوية ـ تنافس وتزاحم الطبقات النخبوية على “نخبويتها” ومواقعها وامتيازاتها الطبقية. فلم يعد شكل العلاقة بين الامتياز الاجتماعي والامتياز الثقافي دائرة مغلقة، تبدأ من الامتيازات الاجتماعية وتنتهي بها، كما رأينا في الرسم السابق، بل أصبح شكلا مفتوحا ذا مدخلين، حيث نجد، من جهة، أن تعميم ومجانية التعليم بدون تعريب يؤدّيان إلى اكتساب الطبقات الفقيرة، التي لا تملك مسبقا امتيازا اجتماعيا، امتيازا ثقافيا يؤهّلها لشغل مناصب ممتازة، تُنتج امتيازا اجتماعيا؛ ونجد، من جهة ثانية، أن الامتياز الاجتماعي ـ الذي كانت تعيد إنتاجه المناصبُ الممتازة التي تشغلها الطبقات التي تملك هذا الامتياز الاجتماعي، بفضل امتيازها الثقافي الناتج عن نفس الامتياز الاجتماعي ـ هو (الامتياز الاجتماعي) وضع statut مشترك ـ بعد أن كان حكرا على الطبقة الموسرة ـ تلتقي فيه وتستفيد منه كلتا الطبقتين، سواء الفقيرة التي كانت محرومة أصلا من أي امتياز اجتماعي، أو الطبقة الموسرة التي كانت تتوفّر منذ البداية على امتياز اجتماعي، كما يوضّح الرسم التالي:

أمام هذا الواقع الجديد، لم يكن للطبقات النافذة والمهيمنة، ماديا ورمزيا، من خيار حتى تحافظ على نفوذها وهيمنتها، إلا “تحييد” العامل الذي أنتج هذا الواقع الجديد، أي “تحييد” دور التعليم، المجاني والعمومي والمستعمل للغة الأجنبية كلغة أولى وأساسية، في الارتقاء الاجتماعي. وهنا تم “الاستنجاد” بالتعريب للقيام بهذه المهمة وتحقيق هذا الهدف.

تعريب التعليم ضد تعميمه ومجانيته:

إذا عرفنا أن فلسفة النظام التعليمي قامت، في مغرب الاستقلال، على المبادئ الأربعة المعروفة (المغربة، التعميم، المجانية والتعريب)، التي نادت بها وطبّقتها المدعوة بـ”الحركة الوطنية”، فإن القول بأن تعريب التعليم هو ضد تعميمه ومجانيته، كما جاء في عنوان هذا القسم من المقال، قد يبدو نشَازا لا يستقيم مع هذه الفلسفة، مناقضا لها ومتعارضا معها. ولهذا فإن القارئ قد يستغرب، بل قد يستنكر ـ وانا أتفهّم ذلك ـ، كيف أن تعريب التعليم سيُستعمل لضرب مبدأي التعميم والمجانية، اللذيْن قامت عليهما المدرسة المغربية ضمن المبادئ الأربعة، التي كانت بمثابة أركان فلسفة التعليم بالمغرب. ما يثير هذا النشاز والتناقض والاستغراب، هو النظر إلى نظام التعليم في المغرب من خلال وظيفته التمويهية والخادعة، الظاهرة والمعلن عنها والمصرّح بها. لكن عندما ننظر إليه من خلال وظيفته الحقيقية، لكن المضمرة، كما سبق أن شرحنا، فسيكون إبطال التعريب لمفعول التعميم والمجانية شيئا منطقيا ومفهوما وواضحا.

لنشرح المسألة بشيء من التفصيل:

إن تعريب التعليم بدأ مع أواخر السبعينيات من القرن الماضي بتعريب المواد العلمية، منطلقا من المستوى الابتدائي، ثم عُمّم تدريجيا إلى المستوى الإعدادي وأخير المستوى الثانوي، متوقفا عند السنة النهائية منه، دون أن يشمل تعريب التعليم العالي، حيث استمر تدريس التخصّصات العلمية باللغة الفرنسية، كما هو معروف.

نلاحظ على هذا التعريب ما يلي:

1 ـ اقتصر، كما أشرت، على المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية، مع إبقاء تلقين العلوم بالجامعة باللغة الفرنسية.

2 ـ اقتصر على التعليم المجاني والعمومي الذي تموّله الدولة، مع استمرار مؤسسات راقية لتعليم خاص نخبوي في اعتماد اللغة الأجنبية كلغة أساسية للتدريس، فضلا عن مدارس البعثة الفرنسية التي يتشكّل غالبية تلاميذها من أبناء الطبقات النخبوية، الموسرة والنافذة.

3 ـ لم يواكبه تعريب مماثل ـ باستثناء قطاع القضاء ـ للإدارة ولمؤسسات الدولة وللمعاملات الاقتصادية والتجارية للشركات والأبناك…

4 ـ لا تزال المناصب “النبيلة” تتطلّب، لشغلها، تكوينا باللغة الأجنبية.

5 ـ لا تزال الفرنسية هي لغة التدريس في معاهد التخصصات الراقية و”النبيلة”، مثل الطب والصيدلة، والهندسة، والتجارة، والإعلاميات…

6 ـ الشركات والمقاولات الاقتصادية لا توظّف، لمهام التسيير والإدارة، إلا ذوي تكوين باللغة الأجنبية.

7 ـ لا زال يُنظر إلى اللغة الفرنسية، على مستوى القناعات والذهنيات وحتى المخيال الاجتماعي، كامتياز وحظوة، رغم ما يقال بأن التعريب تقرر لوضع حدّ لنفوذها وهيمنتها.

أمام هذا الواقع، يحقّ لنا أن نتساءل: ما الفائدة وما الهدف من تعريب التعليم، بهذا الشكل الانتقائي المحدود، المريب الذي يوحي بأنه غير بريء، مع بقاء سوق الشغل “النبيل”، أي الوظائف والمناصب النخبوية النافذة، مقصورا على ذوي التكوين باللغة الأجنبية؟

فلشغل هذه المناصب “النبيلة”، ماديا ورمزيا، لا بد من تكوين باللغة الأجنبية، كما يفرض ذلك سوق الشغل “النبيل”. لكن التعليم العمومي المجاني لا يعطي إلا تكوينا معرّبا، مما يجعل خرّيجيه المعرّبين يُمنعون عمليا، بحكم تكوينهم المعرّب، من شغل تلك المناصب “النبيلة” و”المحترمة”. وبما أن أبناء الأسر الموسرة لهم الإمكانات المادية للدراسة بالمؤسسات الخاصة الراقية، التي تستعمل اللغة الأجنبية كلغة أساسية، أو في مدارس البعثة الفرنسية، أو في الخارج حيث يتلقّون تعليمهم باللغة الأجنبية، فإن هذه المناصب النافذة، ماديا ورمزيا، سوف لن تكون إلا من نصيبهم. وهو ما ينتج عنه أن تعميم التعليم ومجانيته أصبحا بلا أي أثر، ولا أي مفعول يظهر في تمكين الذي تلقى تكوينا معرّبا من أن يحصل على نفس مناصب الشغل، “النبيلة” والنافذة، التي يحصل عليها أبناء العائلات الموسرة، الذين تلقوا تكوينا باللغة الأجنبية. وهذا يعني أن التعريب استعمل لتعطيل، عمليا، مبدأي تعميم التعليم ومجانيته.

وهكذا نعود إلى تلك الحلقة المغلقة الأولى السابقة، والتي كسّرها تعميم التعليم ومجانيته ودمقرطته اللغوية: امتياز اجتماعي (إمكانات مادية) يعطي امتيازا تعليميا (تكوين باللغة الأجنبية في تخصصات “نبيلة” ومطلوبة)، يخلق بدوره امتيازا اجتماعيا (مراكز ومناصب نافذة). هكذا يصبح تعميم التعليم ومجانيته في حكم غير الموجوديْن عمليا، ما دام تأثيرهما كوسيلة للارتقاء الاجتماعي، من خلال شغل المناصب والوظائف “النبيلة”، ماديا ورمزيا، أصبح عمليا منعدما.

قد يُعترض على هذا التحليل بأن الجامعات والمعاهد المتخصصة، التي تؤهل لشغل المناصب الراقية، هي مفتوحة في وجه جميع المغاربة. لكن هذه الجامعات والمعاهد تختار طلبتها بشروط أو بمباراة يكون فيهما إتقان اللغة الأجنبية حاسما في قبول ونجاح المترشح لولوج هذه الجامعات والمعاهد. كما أن التخرّج منها، بنجاح، هو مضمون، في الغالب، لمن وفد عليها من مؤسسات فرنسية، أو خاصة من النوع الراقي haut standing، تُلقّن فيها مواد التخصص باللغة الأجنبية. إن هذا التفضيل للغة التكوين الأجنبية على اللغة العربية، لولوج كليات ومعاهد التخصصات “النبيلة”، يقوم دليلا على صحة هذا التحليل والاستدلال.

إذا كانت سياسة تعميم التعليم ومجانيته ودمقرطته اللغوية، على الخصوص، قد سوّت، من حيث تكافؤ الفرص، بين ابن الطبقات الشعبية والفقيرة وابن الطبقات الثرية والنخبوية، إذ أصبح بإمكان الأول أن يحصل على نفس الشواهد التعليمية، ويتقلّد نفس الوظائف مثل الثاني، فها هو تعريب التعليم جاء ليمنع ابن الفقير من الحصول على شواهد “ممتازة”، لأنه لا يتوفّر على نفس الإمكانات المادية، مثل ابن الغني، حتى يدرس بالمؤسسات الخاصة الراقية، أو بمدارس البعثة الفرنسية، أو بالخارج. وبهذا يكون تعريب التعليم قد نجح، كما سبق القول، في “تحييد” دور التعليم المجاني والعمومي في الارتقاء الاجتماعي، واختراق الحدود بين الطبقات الاجتماعية، ليصبح هذا الارتقاء مشروطا، مرة أخرى، بتوظيف رأسمال اجتماعي موجود وجاهز، يصنع رأسمالا ثقافيا وتعليميا، يكون بدوره مصدرا لرأسمال اجتماعي. وهكذا يُحكم إغلاق الحلقة مرة أخرى، ويصعب أن يلجها ابن الطبقات الشعبية، الذي لا يتوفر على رأسمال اجتماعي منذ البداية. والنتيجة أننا نجد أنفسنا أمام حلقتين مغلقتين، مستقلتين إحداهما عن الأخرى، إحداهما خاصة بالطبقات الموسرة والنافذة، تبيّن كيف يؤدّي المستوى الاقتصادي المرتفع لهذه الطبقات إلى إعادة إنتاج، بفضل تعليم نخبوي، نفس المستوى الاقتصادي المرتفع؛ والحلقة الثانية خاصة بالطبقات الشعبية الفقيرة، وتبيّن كيف يؤدّي المستوى الاقتصادي الضعيف والهشّ لهذه الطبقات إلى إعادة إنتاج، عبر تعليم معرّب، نفس المستوى الاقتصادي الضعيف والهشّ، كما يوضّح الرسم التالي:

واضح إذن أن التعريب أفرغ مبدأي تعميم التعليم ومجانيته من مضمونهما، وعطّل وظيفتهما بهدف منع من ينتمي إلى الطبقات الفقيرة من الصعود الاجتماعي وتغيير وضعه الطبقي الأصلي. ولهذا نلاحظ أن مجموعة من الإجراءات والتغييرات قد صاحبت عملية التعريب، تصبّ كلها في نفس الهدف:

1 ـ لقد تقرر تعريب المواد العلمية بالتعليم الثانوي ابتداء من ثمانينيات القرن الماضي، أي في الوقت الذي بدأت فيه الطبقات الفقيرة تستفيد من الآثار الاجتماعية الإيجابية لتعميم التعليم ومجانيته بدون تعريب.

2 ـ لقد اقتصر التعريب على الابتدائي والثانوي (بما فيه المستوى الإعدادي)، وهما مرحلتان تعرفان إقبالا كبيرا من طرف التلاميذ أبناء الطبقات الفقيرة، مما يؤكّد أن المستهدف الأول بالتعريب هم هؤلاء أبناء هذه الطبقات الفقيرة حتى لا ينافسوا، بما قد يحصلون عليه من مستوى ثقافي وتعليمي ومعرفي جيد، بفضل لغة التدريس الأجنبية للتعليم غير المعرّب، أبناء الطبقات الموسرة التي ستفقد بذلك استئثارها بالوظائف والمناصب، التي تتيحها مواقعها الاجتماعية والطبقية، المتقدمة والمهيمنة.

3 ـ تشجيع التعليم الخاص، والتحفيز عليه والترغيب فيه، حتى أنه عرف توسّعا كبيرا غير مسبوق، كما يعرف الجميع.

4 ـ التلميح، كل مرة، بإمكان إنهاء مجانية التعليم.

5 ـ تدهور مطّرد لمستوى التعليم العمومي المجاني المعرّب، أي لمستوى المتخرجين منه. وهذا يعني إضعافا للرأسمال الثقافي، التعليمي والمعرفي، لأبناء الطبقات الفقيرة الذين يستفيدون من هذا التعليم.

6 ـ ونتيجة لهذا التدهور، أصبح التعليم المجاني العمومي المعرّب، أكثر فأكثر، قطاعا عقيما، “متخصصا” في إنتاج العاطلين، لعدم ملاءمة التكوين الذي يتلقّاه المتخرج من هذا التعليم المعرّب مع سوق الشغل. والمتضررون الأولون من كل هذا هم أبناء الطبقات الفقيرة الذين يتابعون دراستهم بالتعليم العمومي المعرّب.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments