لماذا تحقّقت تكهّنات ماركس بخصوص ديكتاتورية البروليتاريا؟
ديكتاتورية االبروليتاريا في النظرية الماركسية:
مما تشتهر به النظرية الماركسية هو تنبؤها، بناء على تحليل علمي وموضوعي، حسب اعتقاد ماركس وأتباعه، بنهاية النظام الرأسمالي وحلول النظام الشيوعي مكانه، واختفاء الدولة التي يرتبط وجودها بوجود هذا النظام الرأسمالي نفسه. وستلعب ما تسمّيه الأدبيات الماركسية بـ”ديكتاتورية البروليتاريا”، أي ديكتاتورية طبقة العمال، دورا رئيسيا في إنجاز وإنجاح هذا التحوّل التاريخي الثوري، حيث تمثّل هذه الديكتاتورية العمّالية «مرحلة انتقالية تلي مباشرة الثورة الاشتراكية، وتتميّز باستبدال الدولة البورجوازية بدولة تمارس فيها البروليتاريا وحدها السلطة، وهو ما يمكّن من الانتقال إلى مجتمع بلا دولة ولا طبقات» (Encyclopédie Larousse, “dictature du prolétariat”). ويوضّح ماركس، في نقده لبرنامج غوطا Critique du programme de Gotha في 1875، هذا الدور الضروري لديكتاتورية البروليتاريا للقضاء على الرأسمالية بقوله: «بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي، هناك فترة التحوّل الثوري للأول إلى الثاني. وتصاحب هذه الفترةَ أيضا مرحلةُ انتقال سياسي، لا يمكن أن تكون فيها الدولة شيئا آخر إلا الديكتاتورية الثورية للبروليتاريا».
مجرد نظرية طوباوية ومهدوية؟
ماذا تحقّق من هذه النظرية الماركسية حول حركة التاريخ وتطوّر المجتمعات، ومستقبل الاقتصاد ونهاية الرأسمالية؟ ربما لا شيء، بعد أن انتصرت هذه الرأسمالية التي بشّرت الماركسية، عبر ماديتها التاريخية ومنهجها الجدلي ومفهومها للصراع الطبقي كمحرّك للتاريخ، أنها تعيش آخر مراحلها، وأنها تسير بخطى حثيثة نحو نهايتها الحتمية القريبة. أما العمال، الذين كانت تراهن عليهم هذه النظرية الماركسية لوضع حدّ لهذه الرأسمالية، فلا زالوا تحت رحمة هذه الرأسمالية، ويعملون أجراء عند الرأسماليين المالكين للرساميل ولوسائل الإنتاج. أما الدولة، التي توقّعت الماركسية أن ديكتاتورية البروليتاريا ستقضي عليها، فقد ازدادت قوة وسلطة ونفوذا، وحتى ديكتاتورية إذ أصبحت حاضرة في كل مكان، وتراقب كل صغيرة وكبيرة.
النتيجة أن كل النظرية الماركسية حول مآل المجتمعات الرأسمالية، وخصوصا قيام ديكتاتورية البروليتاريا كمرحلة ضرورية لبناء المجتمع الشيوعي وإلغاء الدولة، لم تكن إلا نظرية تندرج ضمن الرؤى المهدوية (نسبة إلى فكرة المهدي المنتظر) التي تقدّم تصورا طوباويا، دينيا وغيبيا Eschatologique، حول نهاية العالم والتاريخ، لا علاقة له بالعلم ولا بالحقيقة ولا بالواقع.
فهل هذا صحيح؟ أي هل صحيح أن نظرية ماركس حول نهاية الرأسمالية وقيام ديكتاتورية البروليتاريا، على الخصوص، كتمهيد للمجتمع الشيوعي، هي مجرد يوطوبيا Utopie، بمدلولها اليوناني الأصلي، الذي يعني ذلك الشيء الذي لا ولن يوجد في أي مكان؟
استغلال الرأسمالية للعمال يؤدّي حتما إلى نهايتها:
النظام الرأسمالي الذي حلّله ماركس وتكهّن بنهايته، هو ذلك الذي ساد في القرن التاسع عشر، عصر الثورة الصناعية التي كانت سببا ونتيجة لهذا النظام نفسه، طوّرته وتطوّرت به، نمّته ونمت به، ازدهرت وتوسّعت به وساهمت في ازدهاره وتوسّعه. فالإنتاج الصناعي، في شكله الأول الذي كان يحتاج إلى الكثير من المواد الخامة، كان هو السمة الغالبة على الاقتصاد الرأسمالي لهذه الفترة. ولأنه كان يقوم على الصناعة الثقيلة، المتمثلة في تحويل المواد الخامة لصنع الآلات المستخدمة بدورها في الإنتاج الصناعي، فقد كانت حاجته إلى اليد العاملة متزايدة مع تزايد عدد معامل تحويل المواد الخامة إلى منتوجات صناعية. هذه اليد العاملة كانت تشتغل في ظروف سيئة وبئيسة جدا، وتعمل أكثر من اثنتي عشرة ساعة في اليوم، ولا يُعترف لها بأية حقوق كتلك التي يستفيد منها اليوم العمال. وإذا عرفنا أن العمل الآلي، المعتمِد على استعمال التقنية لتعويض القوة العضلية للإنسان، كان لا زال في بداياته الأولى، سنعرف أن العمل كان يعتمد أساسا على هذه القوة العضلية للعامل، وهو ما يجعل سويعات فقط من العمل شيئا شاقّا ومُنهكا، مما يعني أن أزيد من اثنتي عشرة ساعة من العمل كانت عذابا لا يُحتمل، وجحيما لا يطاق، يدمّر صحة العامل في مدة وجيزة. وكل ذلك مقابل أجر زهيد يكفيه فقط لتوفير الحدّ الأدنى من الطعام الضروري لتجديد قدرته على العمل والتحمّل. وإذا أضفنا إلى ذلك غياب أي قانون للشغل يحمي العامل، الذي لم يكن يستفيد لا من عطل، ولا من تعويضات عائلية، ولا من تأمين على المرض ولا على حوادث الشغل، ولا من تقاعد، نستنتج ونفهم أنه صحيح أن العامل الذي يثور على هذا النظام ليس له ما يخسره سوى القيود التي تكبّله، حسب النداء الشهير لماركس في “البيان الشيوعي”: «يا عمال العالم اتحدوا، فليس لكم ما تخسرونه سوى قيودكم»، وأنه صحيح أكثر أن الثورة على هذا النظام الرأسمالي كانت أمرا حتميا لا مناص منه. هذه الحتمية هي التي جعلت ماركس يتحدث عن نهاية الرأسمالية، وقيام ديكتاتورية البروليتاريا وانتصار الشيوعية، كمعطى علمي وموضوعي يؤكده “التحليل الملموس للواقع الملموس”، حسب العبارة الشهيرة في الأدبيات الماركسية.
يعطينا إذن هذا “التحليل الملوس للواقع الملموس” المعادلة التالية، التي تُفضي إلى القضاء على الرأسمالية وقيام ديكتاتورية البروليتاريا، تمهيدا لانتصار الشيوعية: الرأسمالية (الطبقة البورجوازية المالكة لوسائل الإنتاج والمستغلّة للعمّال) + البروليتاريا (طبقة العمال) تساوي (تؤدّي حتما إلى) زوال هذه الرأسمالية، لأن اجتماعهما (البروليتاريا والرأسمالية التي تستغلّها) يقوم على صراع (الصراع الطبقي) وتناقض لا حل له إلا اختفاء النظام الرأسمالي بتحوّله إلى نظام شيوعي، نتيجة تراكم التغيّرات الكمية والجزئية إلى أن تصل مستوى تحوّل كيفي وكلي، ينتقل معه هذا النظام الرأسمالي إلى نظام اقتصادي واجتماعي وسياسي مخالف جذريا للأول، وهو النظام الشيوعي. فأصل التحوّل الكيفي، الذي يؤدي إلى قيام النظام الشيوعي، هو إذن تحوّل يعتري النظام الرأسمالي، الذي هو العنصر الأول في المعادلة التي تؤدي إلى سقوط هذا النظام.
لماذا لا بد من تحوّل في الرأسمالية وليس في طبقة العمال؟
لكن لماذا لا تؤدّي نفس المعادلة، ليس إلى تحوّل في الرأسمالية، العنصر الأول في المعادلة، بل إلى تحوّل في طبقة العمال، التي هي العنصر الثاني في هذه المعادلة؟
فما نلاحظه اليوم، ولا سيما منذ سقوط جدار برلين في 1989، هو الهيمنة المطلقة للرأسمالية، وخصوصا بعد أن أصبحت ذات طابع مالي Financier (دور أكبر ومتنامٍ للمؤسسات المالية) يمثّل المرحلة الثانية من تطوّرها، بعد أن كانت ذات طابع صناعي فقط في زمن ماركس، وهو ما كان يميّز مرحلتها الأولى. بل يمكن أن نضيف أنها بصدد الانتقال، منذ بداية القرن الواحد والعشرين، إلى مرحلتها الثالثة التي تتميّز بالاعتماد على الاقتصاد الرقمي. هذه الهيمنة تثبت لنا أن الرأسمالية، بدل أن تضعف وتنهار وتموت، تقوّت وانتعشت وازدهرت. وهذا ما يؤكّده أن أنظمة اشتراكية كان يُنتظر منها أن تكون بداية لموت الرأسمالية، تحوّلت هي نفسها إلى أنظمة رأسمالية، مثل روسيا والصين، التي هي اليوم مركز حيوي للرأسمالية العالمية رغم أن الحزب الحاكم بالصين لا يزال يحمل اسم الحزب الشيوعي.
هذا ما هو حاصل اليوم بعد أن أصبحت الرأسمالية منتصرة بشكل شامل وساحق، لكن مع فرق كبير بين عامل القرن التاسع عشر، الذي كان ماركس ينتظر منه أن يثور ضد الرأسمالية ويؤسس لديكتاتورية البروليتاريا، وعامل هذه الرأسمالية المنتصرة. فهذا الأخير، ولا سيما ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين، يعمل أٌقل من أربعين ساعة في الأسبوع، كما في غالبية البلدان الأوروبية حيث نشأت الرأسمالية، وهي مدة تعادل عمل ثلاثة أيام فقط بالنسبة لعامل القرن التاسع عشر، الذي كانت تتشكّل منه طبقة البروليتاريا، حسب تحليل ماركس؛ ويتقاضى أجرا محترما يسمح له بعيش كريم. إلا أن الفرق الكبير، والجذري، بين الصنفين من العمال، هو أن العامل الجديد يحصل على حقوق ومزايا كانت خارج المفكَّر فيه بالنسبة للعامل الذي يتحدث عنه ماركس. فهو يستفيد من عطلة سنوية، ومن تقاعد تستفيد منه حتى أرملته بعد وفاته، ومن ضمان اجتماعي، ومن تأمين على المرض وعلى حوادث الشغل، ومن تعويضات عائلية على الأولاد، ومن حق إعلان الإضراب عن العمل للضغط على أرباب العمل، الذين أصبحوا يضربون للإضرابات العمّالية ألف حساب. كما يُمنع على رب العمل طرده تعسّفيا من العمل. بل إنه يتقاضى أجرا، كما في العديد من الدول، حتى عندما لا يجد عملا يمارسه، وهو الأجر المعروف بالتعويض عن البطالة.
ثم إن الظروف التي يشتغل فيها هذا العامل أصبحت، بالنظر إلى تطور التقنية واستعمالها لتحسين عمل الإنسان، مريحة وغير مُتعبة كما كانت عليه ظروف العمل في عهد ماركس. يضاف إلى كل هذه المزايا أن العامل أصبح بإمكانه تطوير قدراته ومواهبه في مجال عمله بفضل التأهيل والتكوين المستمر، وما يستتبع ذلك من ترقّ وانتقال إلى سلالم ودرجات أعلى، وهو ما يجعله يحبّ عمله ويحفزّه على الاجتهاد والابتكار، ويكسّر الروتين الذي ينتج عن أداء نفس الأفعال والقيام بنفس الحركات لسنين طويلة، كما كان يفعل عامل القرن التاسع عشر. ولهذا إذا كان الشغل في القرن التاسع عشر استلابا للعامل، وقتلا لطاقاته، وحدّا من إمكاناته ولجما لمقدراته، فإنه اليوم فرصة لتحرّر العامل، وتطوير قدراته، وتنمية إمكاناته وطاقاته. ومن هنا فإن طبقة العمال تضم اليوم، ليس فقط أصحاب العمل اليدوي والعضلي، كالبنّاء والنجّار والسائق والميكانيكي والحداد والمزارع…، بل تضم الأستاذ والطبيب والمهندس والتاجر ومدير الشركة وربان الطائرة والقاضي والشرطي…
كل هذه المزايا الاجتماعية (أي ذات الصلة بالشغل كما في عبارة “القانون الاجتماعي” التي تعني قانون الشغل)، والظروف المريحة والمحفّزات المشجعة، تجعل العامل الجديد يعيش ملِكا داخل الرأسمالية المنتصرة. وهو ما أصبح معه بمقدور عامل من ألمانيا أو بريطانيا أو هولاندا أو أستراليا، مثلا، أن يملك فيلا فخمة، ويشتري سيارة فاخرة، ويُمضي عطلة رأس السنة في منتجع شرم الشيخ بمصر، ويقتني “رياضا” بمراكش يقضي به سنوات تقاعده. لقد تحوّل هو نفسه إلى بورجوازي بعد أن كان ماركس ينتظر منه أن يقضي على البورجوازية.
فالذي تحوّل إذن، في طرفي العلاقة بين الرأسمالية وطبقة العمال، ليست هي الرأسمالية، التي ازدادت قوة وانتصارا، كما أشرت، بل طبقة العمال التي أصبحت تستفيد، وبشكل لافت لا يمكن إنكاره، من هذه الرأسمالية، من خلال ما توفره لها من حقوق ومزايا لم تكن تحلم بها في عهد ماركس في القرن التاسع عشر.
من عامل سيقضي على الرأسمالية إلى عامل يحميها:
فأي عامل، بكل هذه الامتيازات والحقوق، التي يوفرها له النظام الرأسمالي، سيفكّر في الثورة على هذا النظام والقضاء عليه؟ ألن يكون ذلك بمثابة انتحار اقتصادي ومهني لهذا العامل؟
النتيجة أن النظام الرأسمالي، إذا لم يتحوّل إلى نظام شيوعي حسب تكهّنات ماركس، فلا يعني ذلك أن ماركس أخطأ في تحليله وتكهّناته، وإنما لأن العمال (طبقة البروليتاريا)، الذين يمثّلون العنصر الثاني في المعادلة الي تفسّر انهيار الرأسمالية، كما سبق أن أوضحت، لم يعودوا هم نفس العمال الذين قصدهم ماركس عندما كان يتحدث عن طبقة البروليتاريا، والذين كانوا يعيشون الضيم والظلم، محرومين من أبسط الحقوق، ضحايا لاستغلال بشع، يعملون في ظروف بئيسة ولاإنسانية… فاستمرار وجود مثل هؤلاء العمال، بنفس المواصفات وبنفس ظروف العمل، كان سيؤدّي حتما إلى انهيار الرأسمالية، تأكيدا لتوقّعات ماركس.
أما وأن هؤلاء العمال قذ اختفوا، فقد اختفى معهم السبب المؤدي إلى انهيار الرأسمالية. والنتيجة أن الرأسمالية لا زالت بخير وعافية، بل ازدادت توسّعا وهيمنة وانتصارا. لماذا؟ لأن العامل، الذي كان يُنتظر منه، حسب توقعات ماركس، أن يقضي عليها، والذي لم يكن ليخسر بذلك إلا أغلاله وقيوده، كما قال ماركس، حسب ما سبقت الإشارة إليه، هو الذي يحمي اليوم هذه الرأسمالية، ويساهم في بقائها واستمرارها. لماذا؟ لأن القضاء عليها يعني القضاء على كل تلك الامتيازات الهامة، التي عددنا بعضا منها، والتي يحصل عليها ويستفيد منها بفضل هذه الرأسمالية نفسها. فقضاؤه على الرأسمالية لا يعني أنه لن يخسر سوى استلابه وأغلاله، كما قال ماركس بالنسبة لعمال القرن التاسع عشر، بل سيخسر وجوده هو كإنسان يحقّق إنسانيته، ويمارس حريته من خلال العمل والإنتاج والإبداع في مجال الشغل.
هل يمكن للعامل في النظام الشيوعي أن يتمتّع بنفس الحقوق؟
أما القول بأن مثل هذه المكاسب، التي يحصل عليها العامل في إطار النظام الرأسمالي، سيحتفظ عليها، وقد يحصل على أفضل منها، في إطار النظام الشيوعي حسب ما بشّرت به الماركسية، فهو قول مردود. لماذا؟ لأن التجارب الاشتراكية والشيوعية لما بعد الحرب العالمية الثانية، ببعض دول أوروبا الشرقية، بما فيها الاتحاد السوفياتي السابق، وأمريكا اللاتينية وأسيا، أثبتت أن حقوق العامل، في هذه الأنظمة الاشتراكية والشيوعية، كانت أقل بكثير من تلك التي يتمتع بها نظيره في الدول الرأسمالية. وهذا أحد الأسباب التي قد تفسّر أن هذه الدول، الاشتراكية والشيوعية، لم تستطع أن تبلغ مستوى التقدم الاقتصادي لدول أوروبا والولايات المتحدة، ذات الاقتصاد الرأسمالي. لماذا كانت هذه الدول، ذات الاقتصاد الرأسمالي، متقدمة عن الدول ذات الاقتصاد الاشتراكي والشيوعي؟ لأن العامل، في الدول الأولى، يساهم بدور فعال في التنمية الاقتصادية لهذه الدول. لماذا؟ لأنه عندما يعمل لمصلحة الرأسمالية فهو مقتنع، نظرا لما يجنبه من عمله من امتيازات ومكاسب وحقوق، أنه يعمل أيضا لنفسه ولمصلحته. وهذا محفّز للعمل بصدق وجدية، ودافع على الابتكار والإبداع في العمل. أما في الدول الأولى، الاشتراكية والشيوعية، فالعامل مقتنع، نظرا للقليل من الامتيازات والحقوق التي يحصل عليها من عمله مقارنة مع العامل الذي يشتغل في إطار اقتصاد رأسمالي، أنه يعمل لمصلحة الحزب الحاكم وإيديولوجيته، دون أن يكون لذلك أي أثر على تنمية شخصيته كفرد، ولا على تحسين وضعه المادّي كعامل يُكسبه عملُه مزيدا من الحقوق والامتيازات. وهذا ما لا يحفّز طبعا على العمل بجدية واجتهاد، وابتكار وإبداع. وهو ما لا يوفّر، في النهاية، أحد الشروط المطلوبة للتنمية الاقتصادية، لأن العامل، الذي هو العنصر الضروري لهذه التنمية، غير معني بها، وبالتالي فهو لا يبذل مجهودا من أجل أن تتحقق هذه التنمية. وهذا ما يفسّر أن هذه الدول، الاشتراكية والشيوعية، لم يسبق لها أن عرفت تنمية في مستوى تلك التي عرفتها أوروبا الرأسمالية والولايات المتحدة واليابان، إلا بعد أن تبنّت النهج الرأسمالي، كما فعلت روسيا والصين، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وإذا كانت مردودية العامل، على مستوى الإنتاجية والفعالية والابتكار والاجتهاد، وفي إطار نظام شيوعي، هي أقل من مردودية العامل في إطار نظام رأسمالي، فإن أحد الأسباب التي تفسّر هذا الفرق ـ وقد تفسّر حتى الفرق في الحقوق والامتيازات بين العامليْن ـ، هو أن النظام الثاني يمنح العامل حرية أكبر، أو يجعله على الأقل يعتقد في قرارة نفسه بأنه يتمتّع بتلك الحرية ويمارسها. أما النظام الأول، فحتى لو افترضنا ـ وهذا مستبعد طبعا ـ أنه يوفّر للعامل مثل هذه الحرية، إلا أن طبيعة النظام الشيوعي تجعل هذا العامل يعتقد في قرارة نفسه أنه محروم منها، ويتصرّف بالتالي بناء على هذا الاعتقاد. ولهذا يمكن القول إن مما يدخل في عبقرية النظام الرأسمالي، التي تجعل منه نظاما من الصعب القضاء عليه وتجاوزه، هو تقديسه وحمايته للحرية الفردية، إلى درجة أن بعض مظاهر العبودية، التي لا يخلو منها هذا النظام، هي عبودية طوعية يختارها صاحبها بكل حرية واقتناع، مثل ذلك الموظّف/العامل الذي يستلف قرضا من البنك لشراء دار، فيصبح شبه عبد “مملوك” لهذا البنك لسنوات، وربما لعشرات السنين. إلا أن هذه العبودية يكون قد اختارها هو بكل حرية ورضا ومسؤولية. في حين أن أشكال العبودية الحاضرة في النظام الشيوعي، لا يختارها الذي وقع ضحية لها، بل يختارها له النظام الشيوعي نفسه.
المفهوم الجديد لديكتاتورية البروليتاريا:
فالمقارنة بين عامل القرن التاسع عشر، الذي بنى عليه ماركس تحليله لعوامل انهيار الرأسمالية، وعامل اليوم، تبرز أن هذا الأخير أصبح يمارس حقا ديكتاتورية البروليتاريا، لكن ليس بمفهوم ماركس، أي ليس تلك الديكتاتورية التي تؤدّي إلى تقويض النظام الرأسمالي واستبداله بنظام شيوعي، ولكن بمعنى أن هذا العامل ـ نظرا لدوره المحوري في عملية الإنتاج الضرورية للاقتصاد الرأسمالي، ونظرا كذلك لما فرضه على هذه الرأسمالية من اعتراف بحقوق كثيرة أصبح يمارسها ويتمتّع بها كعامل في ظل هذه الرأسمالية، ونظرا أيضا للمنافع المتعدّدة التي نجح في إجبار نفس الرأسمالية على توفيرها له يستفيد منها وينعم بها ـ أصبح هو من يتحكّم في بقاء الرأسمالية ونموها وتطوّرها، وهو من يحميها ويضمن لها البقاء والاستمرار، وهو من يوفّر لها شروط ازدهارها وانتصارها.
وإذا كانت هذه العلاقة الجديدة، بين الرأسمالية والطبقة العاملة، تبدو على طرفي نقيض مع المآل الذي تكهّنت به الماركسية للنظام الرأسمالي، فذلك لأن عنصر الاستغلال، الملازم لطبيعة هذا النظام الرأسمالي، لم يعد حكرا على هذا الأخير، الذي كان يستغل العمال ويكسب فائض القيمة من مجهودهم وعملهم. بل أصبح العامل يستغل بدوره هذه الرأسمالية المنتصرة بما يكسبه منها وبفضلها من امتيازات وحقوق ومنافع، كما أشرنا إلى ذلك. هكذا يمكن القول إن طبقة العمال (البروليتاريا) أصبحت تمارس ديكتاتورية حقيقية من خلال تحكّمها في الرأسمالية التي تشتغل لديها. ولا يمكن الحفاظ على هذا التحكّم إلا بالحفاظ على هذه الرأسمالية نفسها. وهنا تكون تكهنات ماركس، بخصوص ديكتاتورية البروليتاريا، قد تحققت، لكن ليس من أجل إنهاء النظام الرأسمالي، بل من أجل دوامه واستمراره وتقويته.
ولا يهم أن قدرة الرأسمالية على التكيّف مع الظروف الجديدة، هي التي فرضت عليها أن تبني علاقتها مع العامل على أسس جديدة يصبح فيها هذا العمل “مدلّلا”، بل ديكتاتورا صغيرا. فما يهم هو النتيجة المرتبطة بالدور الجديد للعامل في حماية هذه الرأسمالية وتقويتها، بدل مناهضتها وإضعافها.
وأخيرا، لا يصحّ الاعتراض على هذا التحليل أن استغلال العمال، وحتى بالشكل الذي ساد في القرن التاسع عشر، لا زال موجودا ومنتشرا في الكثير من المجتمعات في إفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينية… لأن هذا التحليل يصدق على أوروبا الرأسمالية كنموذج، لأنها هي التي كانت مهدا للرأسمالية ونموذجا لاستغلالها البشع للعمال. وديكتاتورية العمال تتجلّى اليوم، وبشكل بارز، في الحقوق والمنافع الكثيرة التي يتمتع بها العامل في الغرب الرأسمالي، وفي مختلف القوانين التي تحميه ضد أي استغلال من طرف أرباب العمل، وضد أي طرد تعسفي من العمل، وفي ما تمنحه له هذه القوانين من حق الإضراب عن العمل، الذي قد يؤدّي، في الحالات القصوى، إلى إغلاق المعمل نهائيا وإعلان إفلاسه، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. أليست هذه وسائل يمارس بها العمال ديكتاتورية حقيقية على أرباب العمل؟
كاتب ومفكر وباحث ومناضل أمازيغي منحدر من منطقة الريف ومدير نشر جريدة تاويزا. ألف العديد من الكتب والمقالات التنويرية القيمة