حراك الريف، بين العنف الأمني والقضائي والحقوقي
لما انتهيت من قراءة ملخّص تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان حول “حراك الريف”، حمدت الله لكون التقرير لم يصدر قبل الحكم على المعتقلين، وإلا لكان قد حُكم عليهم بأكثر من عشرين سنة بالنسبة لمن أُدينوا بهذه العقوبة. لماذا؟
لأن الأحكام استندت إلى ما جاء في محاضر البحث التمهيدي. والحال أن هذه المحاضر، نظرا أن القانون يفرض أن تُنجز في وقت قصير (مدة الحراسة النظرية)، ونظرا لقلة الموارد البشرية للشرطة القضائية أمام المئات من معتقلي حراك الريف، تكون قد أغفلت عددا من العناصر التي كان من الممكن أن تورّط أكثر المعتقلين. أما تقرير المجلس الوطني لحقوق الإنسان، فقد أُنجز في وقت كافٍ، دام «أشهرا طويلة ومضنية من الاشتغال» كما تقول مقدّمة التقرير، اختار المجلس هو نفسه مدة هذا الوقت ولم يفرضها عليه القانون. ومن هنا جاء التقرير متمّما لمحاضر الشرطة القضائية ومستدركا لما فاتها. وهو ما يجعل منه محضر بحث تمهيدي جماعي، كامل وجامع ومفصّل عن “حراك الريف”، يتّسم بالتهويل من “جرائم” المعتقلين وتضخيمها جنائيا. ولهذا لو كان هذا المحضر، الجماعي الكامل والجامع، متوفرا أثناء المحاكمة لجبّ المحاضر الفردية التي أنجزتها الشرطة القضائية، ولاعتمدت النيابة العامّة ومحامي الطرف المدني، السيد محمد الحسيني كروط، على مضمونه للمطالبة بعقوبات أشدّ وأقسى. وهو ما كان من المرجّح أن تستجيب له المحكمة وتبني عليه قراراتها.
كل شيء في محاكمة معتقلي حراك الريف تأسّس على قرارات أمنية بدوافع سياسية. ولهذا فهذه المحاكمة ابتدأت من محاضر البحث التمهيدي التي أنجزها الطرف الأمني وانتهت إليها، أي انتهت بأحكام بناء على الأفعال المدوّنة في هذه المحاضر “الأمنية”، وليس بناء على ارتكابها الفعلي والحقيقي من طرف المعتقلين. هذا الدور الرئيسي للقرار الأمني، المنفّذ للقرار السياسي، في “صنع” محاكمة معتقلي حراك الريف، يفسّر الطابع الأمني البارز الذي صيغ به تقرير مجلس السيدة أمينة بوعياش، الذي جاء مؤكّدا لما تضمّنته المحاضر “الأمنية” للشرطة القضائية، التي أُنجزت بتوجيهات سياسية. ولهذا جاء هذا التقرير لمجلس السيدة بوعياش في شكل بحث تمهيدي تكميلي وتفصيلي، كما أشرت.
ولأن القرار الأمني، التابع للقرار السياسي، كانت له الكلمة العليا في مسلسل اعتقال ومحاكمة نشطاء حراك الريف، فإن العنف الأمني كان السمة الغالبة على هذا المسلسل، كما يتجلّى ذلك في اختطاف المعتقلين، وتكسير أبواب المنازل، والتعذيب الذي تعرض له العديد منهم حسب تصريحاتهم، ونشر صورة ناصر الززافي شبه عارٍ على شبكة الأنترنيت، ومقتل عماد العتابي… ولأن هذا العنف الأمني هو تنفيذ لقرار سياسي، كما قلت، فإنه عنف يُمارس باسم الدولة. وإذا كان يبدو أن من المحتمل أن يقترن العنف بالممارسات الأمنية، فإن اللافت هو أن القضاء سيمارس بدوره هذا العنف في شكله القضائي، وليس الأمني، وذلك عندما يصدر أحكاما قاسية وظالمة، استجابة للقرار الأمني المعبّر عنه في المحاضر “الأمنية” للشرطة القضائية، والذي (القرار) على أساسه تمارس المحكمة عنفها القضائي تحت غطاء القانون حتى يبدو عنفا مشروعا. وهو في النهاية عنف تمارسه الدولة باسم أجهزتها الأمنية والقضائية، ما دام أن مصدر هذا العنف هو القرار السياسي.
كل هذا الجانب المتعلق بالعنف، في شقه الأمني والقضائي، يبدو مفهوما ومنطقيا، وحتى عاديا ومنتظرا في دولة يحرّكها الهاجس الأمني أكثر من أي شيء آخر. لكن ما ليس مفهوما ولا منطقيا ولا عاديا هو أن هيئة حقوقية، مثل المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ستنخرط هي نفسها في ممارسة نفس عنف الدولة على معتقلي حراك الريف، بعد تكييفه مع مهامها ووظائفها المفترضة ليكون عنفا حقوقيا، مثلما فعلت المحكمة التي أضفت على عنف الدولة الطابع القضائي، كما شرحت. وهذا تطوّر جديد لأدوار ومهامّ هذه الهيئة الحقوقية، يجعلها لا تدافع فقط عن عنف الدولة (العنف الأمني والقضائي)، بل تمارسه بعناد وعلانية، وتلوّح به إشهارا له كما لو كان غنيمة تستعرضها انتشاء بالانتصار في معركتها ضد الريف.
ومن هنا نفهم لماذا عملت هذه الهيئة، من خلال تقريرها، على لعب دور “حاميها حراميها”، متجاوزة بعنفها “الحقوقي” العنفَ القضائي، الذي اكتفي بعشرين سنة سجنا نافذا كأقصى عقوبة حكم بها على نشطاء حراك الريف. ولهذا كان حكم تقرير مجلس السيدة بوعياش على حراك الريف هو الإعدام، وليس حتى المؤبد أو عشرين سنة. نعم الإعدام لكلمة “حراك” المسندة إلى “الريف”، الذي طاله هو أيضا حكم الإعدام. أما تعليل الحكم، فهو كاريكاتوري مضحك. فقد لجأ محررو التقرير إلى اللعب بحركات الكلمات لإلغاء تسمية “حراك الريف”، متذرّعين ـ من بين ذرائع أخرى ـ أن كلمة “حراك” «تُنطق حراك بفتح الحاء وحراك بكسر الحاء دون تمييز»، كما جاء في التقرير. فحسب هذا المنطق يجب إذن حذف كلمة “مناخ” من العربية لأن هناك من ينطقها إما مرفوعة (مُناخ) أو مفتوحة الميم (مَناخ)؛ وحذف كلمة “علاقة” لأن هناك من ينطقها إما مكسورة (عِلاقة) أو مفتوحة العين (عِلاقة)… فما ذنب كلمة “حراك” إذا كان هناك من يخطئ في نطقها لجهله بالقواعد النحوية والإملائية للغة العربية؟ فلو كان هذا المبرّر مسوّغا لحذف كل كلمة في العربية ينطقها الناس نطقا خاطئا، لحُذف الجزء الأكبر من معجم اللغة العربية.
وبخصوص كلمة “الريف”، فالتقرير يدعو إلى إلغائها لأن «كلمة الريف لا تؤدي وظيفتها كظرف مكان بشكل دقيق للوقائع المراد توصيفها»، كما تقول الوثيقة. نعم، صحيح أن كلمة “الريف” لا تؤدّي وظيفتها بشكل دقيق كظرف مكان. لماذا؟ لأنها اسم مكان، أي منطقة، وليست ظرف مكان كما ذهب التقرير. وشتان، على مستوى الوظائف النحوية والدلالية، بين ظرف المكان واسم المكان. فما ذنب كلمة “الريف” إذا كانت السيدة بوعياش تجهل الفرق بين ظروف المكان وأسماء الأماكن؟ فلو كان هذا المبرّر مسوّغا لحذف كل كلمة يخلط الناس، لجهلهم باللغة العربية، معناها ووظيفتها بمعاني ووظائف كلمات أخرى، لحُذف الجزء الأكبر من معجم اللغة العربية، كما قلت. ففي هذه الحالة سيكون الجهل والخطأ هما مصدر ومعيار الصواب، وهو ما يتنافى مع أبسط مبادئ المنطق وأسس المعرفة الصحيحة.
من الواضح إذن، وبشكل يكاد يفقأ العين، أن وراء هذا “التحايل” الفاشل والكاريكاتوري، كما قلت، على عبارة “حراك الريف” لاستبعاد استعمالها وتداولها، دوافعَ سياسية لا علاقة لها بالمبرّرات الكاريكاتورية التي لجأ إليها تقرير السيدة بوعياش. فليست كلمة “الريف” هي المستهدفة في حدّ ذاتها، بل ما تحيل عليه من تاريخ، وذاكرة، ومقاومة، وهوية أمازيغية، وصراع مع المخزن.
وهنا نتساءل: ما الحاجة إلى مجلس وطني لحقوق الإنسان إذا كانت الدولة، كما تقول وتدّعي دائما، تحترم القوانين التي وضعتها هي نفسها؟ فيكفي أن تلتزم بالقواعد المقرّرة في المسطرة الجنائية لتمنع أي انتهاك لحقوق الإنسان، ودون حاجة إلى مجلس وطني لهذه الحقوق. لكن رغم أن المغرب يتوفر على قوانين تمنع انتهاك حقوق الإنسان، وعلى مجلس وطني لمراقبة مدى احترام هذه الحقوق، إلا أنه من الصعب الجزم أن هذه الانتهاكات قد اختفت.
وعندما تُنشر تقارير وأخبار عن هذه الانتهاكات، يأتي تقرير السيدة بوعياش ليقول لنا إن تلك التقارير والأخبار تدخل في إطار “التضليل والبروباكاندا” و”الأخبار الزائفة”، وتعطينا حتى مقابلها بالإنجليزية: fake news. مع أن السيدة بوعياش لا شك أنها تعلم علم اليقين أن المسؤولين في الدولة والمدافعين عنها كانوا يردّون عن الأخبار والتقارير التي كانت تتحدث، في فترة سنوات الرصاص، عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وعن وجود معتقلات سرية تأوي أبرياء لم يسبق أن قدّموا للعدالة، بأن تلك التقارير والأخبار، تماما كما تفعل اليوم السيدة بوعياش، هي إشاعات تندرج ضمن الأخبار المضلِّلة والزائفة، التي يروّجها ويعمل على نشرها أعداء المغرب. لكن الدولة، التي كانت تكذّب تلك التقارير والأخبار، ستعترف هي نفسها، في ما بعد، بارتكابها لتلك الانتهاكات. وبفضل هذا الاعتراف للدولة تأسّس المجلس الذي تترأسه اليوم السيدة بوعياش، لتلافي تكرار مثل تلك الانتهاكات. لكن يظهر من خلال مضمون تقرير مجلس السيدة بوعياش أن هذا المجلس لا يرمي إلى منع تكرار مثل تلك الانتهاكات، بل إن دوره هو أن يضفي عليها المشروعية بالسكوت والتستّر عنها. ولهذا فإن مجلس السيدة بوعياش يقوم فعلا، كما جاء في التقرير، «بدوره كضمير لدولة الحق والقانون»، بالمعنى الحقيقي الأصلي لكلمة ضمير، الذي تعرّفه معاجم اللغة العربية بـ«ما يضمره الإنسانُ في نفسه ويخفيه ويصعب الوقوعُ عليه» (معجم المعاني الجامع). وهو ما يعني أن دور المجلس الوطني لحقوق الإنسان هو إضمار وإخفاء وإقبار الحقيقة، وليس بيانها والكشف عنها والجهر بها
كاتب ومفكر وباحث ومناضل أمازيغي منحدر من منطقة الريف ومدير نشر جريدة تاويزا. ألف العديد من الكتب والمقالات التنويرية القيمة