طقوس وممارسات مرتبطة بالفلاحة – الاستسقاء عبر طقس بلغنجا Blghnja


نستمر في التأمل عبر الإبحار بين أمواج الطقوس الاجتماعية، المميزة ليوميات العيش في القرية المغربية. دائما مع القرية الصغيرة المسماة تاسنولت والكائنة بقبيلة ماست العريقة والتي اتخذناها قاربا للإبحار، معظم أهل هذه البقعة الجغرافية الضاربة في القدم يمارسون النشاط الفلاحي أبا عن جد. وحيثما وجدت الفلاحة، لابد أن تتعايش معها ممارسات نوعية. من ابرزها، على سبيل المثال فقط لا الحصر، تلك الممارسة المرتبطة بمحاكمة أو مقاضاة الدود Assroud n Tawkka، التي خصصنا لها الوقفة الأخيرة. وقفة نجحنا فيها إلى حد كبير في ممارسة الاستفزاز الفكري الإيجابي تجاه القارئ، ونوع من صدمة التلقي التي توجهت صوب العقل العلمي المنطقي الكائن بدواخلنا، لتسائله عبر ممارسة طقوسية اجتماعية عصية عن الفهم والإدراك بالأدوات التحليلية التي تعوذ ذات العقل على توظيفها إزاء كل ظاهرة اجتماعية… هذا الاستفزاز الإيجابي من شانه أن يجعلنا نرجع إلى الذات الجمعية للغوص في أعماق الإنسان الذي يكون ندا للطبيعة، بلجوئه أحيانا إلى ممارسات يتكيف من خلالها مع قانون الطبيعة. تارة بلبوس اجتماعي تضامني، وتارة بلبوس تعبدي… تكيف لا يخضع بالضرورة، كما أسلفنا ونعيد التأكيد على ذلك، للمنطق و للعلم ومبادئه…. ليبقى في ركن المسلمات الاجتماعية، التي تختلف التأويلات بشأنها بين السحر والصدفة وتوظيف الجن أو الأعمال الشيطانية… وبين إخلاص النية، والتوكل على الله بالشكل الذي يقنع الذات قبل الأخر… ويبقى الأمر مفتوحا، وتبقى كل التأويلات مقبولة في إطـــار الإيمان بالتفكير النسبي.

وقفة اليوم سيؤطرها التصور سالف الذكر ذاته، ولن تبتعد هي الأخرى عن الشد والجذب بين التأويل والتأويل المضاد. يختلف جود السماء مطرا بين سنة وأخرى، فأحيانا لا يتوقف المطر مبشرا بسنة كنا نسميها سنة الخير. وبالمناسبة، فسنوات الخير تعرف بالحدس التبصري للقرويين انطلاقا من الصيف (وهذا في حد ذاته يشكل أرضية جديدة للتأمل). لكن بالمقابل، بعض السنوات تكون شحيحة ويقل فيها المطر إلى درجة تجعل أعين أهل القرية تفيض دمعا، وكلهم رجاء في رحمة إلهية تغير الواقع من حال إلى حال أفضل منه… كيف لا وكل شيء متوقف على ماء المطر، هذا طبعا من باب السماء فوقنا، فالله سبحانه وتعالى أخبرنا في محكم كتابة بقوله تعالى” وجعلنا من الماء كـــل شيء حي”. مضمون وعمق هذه الآية الكريمة يدركهما كل واحد منا بفضل الإيمان الرباني الذي منحه الله إيانا. لكن إدراك القرويين لمعنى الآية يختلف تماما عن إدراك غيرهم. بدون الماء في القرية، كل شيء يتوقف إلى حين…

بمجرد انقطاع المطر، يستعد أهل القرية للتكيف والتأقلم مع الوضع الصعب تخفيفا من الضغط النفسي أولا، وطلبا لرحمة السماء ثانيا… هنا يبدأ الجميع في التفكير في طقوس الاستسقاء، أي طلب المطر من المولـــى عزوجل. لهذا الغرض تؤدى صلوات الاستسقاء في المصليات بإذن مسبق من السلطات الرسمية الوصية على قطاع الأوقاف والشؤون الإسلامية بالبلاد وفق ممارسات موروثة. ولذات الغرض، ومنذ زمن قديم كانت النساء في القرى يستعدن للاستسقاء بطريقتهن الموروثة هي الأخرى، والمسماة بلغنجـــا… BELGHNJA … أو تبلغنجت كما تسمى في مناطق أخرى…وفق طقوس يختلط فيها البعد الميتافيزيقي مع البعد الاجتماعي الصرف ليشكلا معا صورة عبقرية للكائن البشري الذي يظل عصيا عن الفهم…

في البداية، تجتمع النسوة ذوات خبرة السنين في مثل هذه المناسبات استعدادا لطقس الاستسقاء. يحضرن “أغنجا” خشبي قديم ” مغراف” الذي يشكل الأداة المفتاح لهذه الممارسة. يتم تحضيره بطريقة لا تختلف كثيرا عن طريقة تهيئ تاوكا ” الدود” التي تحدثنا عنها في وقفة سابقة. تلف الأداة ” أغنجا” بثياب تقليدية وبقطع من الفضة مع بعض الأشياء التي تزين بها العروس… كأننا إزاء التحضير للعرس مرة أخرى… ربما بعض مفاتيح هذه الألغاز الطقوسية قد توجد في العمق الدلالي للعروس وما ترمز إليه… قلنا ربما، لأن هذا الأمر مجرد فرضية ضمن فرضيات عديدة… بعد إتمام عملية التهيئ والتزيين، تحمل العروس المقنعة، أي أغنجا المزين من طرف إحدى النسوة التي تسير أمام حشد من نساء القرية، اللواتي يرددن عبارة “بلغنجا نومن سربي أد إك أنزار” belghnja nomn s rbbi ad ig anzar أي نؤمن بالله كونه سيمن علينا بالمطر يا بلغنجا… تتردد هذه العبارة من بيت لبيت. أمام كل بيت يتم رش النسوة بغراف مليء بالماء، وبعده تقدم ربة البيت للنسوة شيئا من القمح أو الذرة أو الفول أو شيئا من هذا القبيل… تحت مسمى صدقة بلغنجا… تتم العملية بالمرور أمام كل البيوت، وتنتهي برجوع النسوة وهن مبللات بالمياه إلى منازلهن. تتكلف المرأة التي حملت العروس المقنعة بوضعها إما فوق حائط أو على سطح أحد البيوت، بينما الأخريات يقمن بتوضيب ما تم جمعه استعدادا لتهيئه على شكل طعام يسمى المعروف ن بلغنجا. يقال، والعهدة على القائلين وهم كثر، بأنه في الكثير من المرات يصب المطر صبا مباشرة في اليوم الموالي للطقس… هكذا مرة أخرى دون أن نملك جوابا علميا ومنطقيا إزاء هذا الأمر… ليصنف هو الآخر في خانة المسلمات الاجتماعية، وضمن عبقرية التراث اللامادي للإنسان القروي.

وأنتم تقرؤون معي هذه الأحداث التي تخفي وراءها أسرارا عميقة، قد تتساءلون كما أتساءل عن دلالة الأشياء التي توظف في هذا الطقس. بدءا بالعروس مرة أخرى وتزيينها. معلوم أن العرس في المخيال الاجتماعي لكل التجمعات السكانية يوحي بصفاء القلوب وبالوحدة والاتحاد بين الأرواح قبل الأجسام. كما يدل على استمرار الحياة والنوع البشري، وفيه إشارات للخصوبة والكثرة… ومعلوم أيضا أن أغنجا أي المغراف هو أداة تستعمل في المطبخ الأمازيغي القروي في المناسبات الكبيرة التي يجتمع فيها أهل القرية، أو أفراد العائلة الكبيرة، بحيث يهيئ الطعام “الكسكس” في القدور الكبيرة. وحينما نتحدث عن القدر الكبير نتحدث عن الوفرة وكثرة الطعام وكثرة الخضر واللحوم… ممارسة هذا الطقس إذن بتوظيف مغراف فارغ، هي إشارة للندرة والجفاف، وإيحاء للرغبة في عودة زمن السخاء والوفرة… يجد هذا التفسير الشخصي (الذي يبقى مجرد فرضية أخرى) ما يدعمه ويقوي من حظوظه المنطقية في الاحتفال النهائي الذي يقام بما تم جمعه من مؤونة وطعام، والذي يشكل “معروفا” في القرية بحيث يأكل منه الصغير قبل الكبير، ويختتم النشاط الطقوسي بالدعاء لله عز وجل أن يرحم عباده وبهيمته وينعم عليهم بنعمة الماء والمطر…


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments