الثورة والثورة المضادة في المحيط العربي


 الديمقراطية والحداثة، بأي ثمن، خرج الشباب العربي في احتجاجات صاخبة وطردوا بأسلوب مهين طغاة متشددين مثل: التونسي بن علي والمصري مبارك واليمني علي صالح والليبي القذافي. ومع ذلك، فإن هذه البلدان لم تحقق الديمقراطية المطلوبة بقوة لأن الثورة المضادة وقعت في شكل انقلاب عسكري جلب سيسي والجيش إلى السلطة في مصر والإسلاميين الانتهازيين في البلدان الأخرى الأمر الذي أعاد الوضع إلى حقبة ما قبل الربيع العربي لعام 2011. هل هذا يعني أنه لا يوجد أمل، على الإطلاق، للعالم العربي في تحقيق الديمقراطية وأن الاستبداد على الأرجح هو مصيره الأبدي؟

في عام 2019، هناك عودة الربيع العربي إلى البلدان التي لم تتأثر بالموجة الأولى، وبشكل رئيسي: الجزائر والسودان، التي يحكمها الجيش حتى الآن بشكل مباشر أو غير مباشر. والسؤال المطروح بإلحاح في الوقت الحاضر هو: هل ستواجه هذه الثورات الشعبية المصير نفسه وستهزم، على المدى البعيد، من قبل الثورة المضادة، التي تغير دائمًا شكلها ومناهجها ورواياتها من أجل البقاء والدوام؟ تريد الجماهير في هذين البلدين حكمًا مدنيًا، لكن هل سيعود الجنود إلى ثكناتهم أم هل سيستخدمون حيل أخرى، أقل من العنف، للبقاء في السلطة؟ الوقت وحده بإمكانه الإجابة على هذه التساؤلات لا محالة.

الثورة الشعبية بالسودان

لماذا لا تنجح الديمقراطية في العالم العربي؟

بدأ الربيع العربي في تونس عام 2010 واجتاح معظم أنحاء العالم العربي وخلق عملية الدومينو effet domino

التي أطاحت بالكثير من الدكتاتوريات. في أعقابها، مزقت الحرب الأهلية العديد من البلدان وبعضها لا يزال في خضم المعاناة كسوريا واليمن وليبيا، دونما أمل في بلوغ السلام والوفاق. في الوقت الحاضر تونس فقط هي الدولة الوحيدة التي تسير بتعثر نحو الديمقراطية، إذا ما وصلت إلى مبتغاها بأمن وامان.

لم يتمكن العالم العربي، مع الاسف الشديد، على الرغم من ثرواته المادية والحضارية المتعددة، من تحقيق الديمقراطية، ويتساءل المرء عن سبب ذلك؟ والإجابة على هذا السؤال العصيب هي بلا شك متعددة الأوجه:

قوة القبلية

طوال تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده، كانت القوة هي الوسيلة الوحيدة المتاحة للقبائل لبلوغ اهدافها المرسومة. وفي الواقع، كانت الهوية القبلية والتضامن دائمًا مفتاح القوة ومثال جيد على ذلك هو هذه المقولة الشائعة باللغة العربية:

أنصر أخاك ظالما أو مظلوما

من الناحية التاريخية، كانت السلالات العربية القوية مثل الأمويين (661-750) والعباسيين (750-1258)، تستمد قوتها دومًا من الدعم القبلي وما تزال هي القدوة لجميع السلالات الحاكمة ليومنا هذا.

في الوقت الحاضر، جميع الملكيات العربية هي سلالات قبلية. والمثال الجيد على ذلك هو المملكة العربية السعودية (1777- حتى الآن). في الواقع، في عام 1848، تحالفت القبيلة السعودية (آل سعود) مع الزعيم الديني محمد بن عبد الوهاب (1703-1792) على أساس أن يقوم بالدعوة لصيغته المتشددة من الإسلام الذي أصبح يعرف بعد ذلك باسم الوهابية في حين يتكفلون هم بالجانب السياسي من خلال ترويض بقية القبائل وحملها على تقديم الولاء لهم. واليوم، تسيطر هذه القبيلة السعودية من خلال العديد من أعضائها الأمراء على البلاد بأسرها بقبضة حديدية: إنهم يشترون الولاء بالمال والمناصب، لكن من ناحية أخرى، يواجهون أي شكل من أشكال المعارضة أو الفتنة أو المقاومة بالعنف المطلق. تم القضاء على الصحفي السعودي خاشوجي من قبل حاشية محمد بن سلمان، ولي العهد، بطريقة مروعة ليكون مثالا للمعارضة. وفي الآونة الأخيرة، تم قطع رأس 37 شخصًا في المملكة العربية السعودية، بطريقة شنيعة، 32 منهم من الشيعة (إجمالي عقوبة الإعدام في العالم، في 2019 هو 172، والسعودية تأتي في المرتبة الثالثة بعد الصين وإيران، في عدد عمليات الإعدام هذه السنة).

خلال الجولة الأولى من الربيع العربي، خوفًا من ردود الفعل الشعبية، اشترى جميع زعماء الخليج، دون استثناء، السلام الاجتماعي من خلال الهبات النقدية السخية والمباشرة المقدمة لمواطنيهم.

عادة ما تضع القبائل الحاكمة أعضائها على رأس الوظائف الوزارية الرئيسية، وفي صفوف الجيش كذلك وغالبًا ما يكون لديهم فيلق عسكري من النخبة، في الاحتياط، لحماية النظام في حالة حدوث انقلاب عسكري أو عصيان مدني أو أي شكل من أشكال الاضطرابات أو التمرد.

الحراك الجزائري

حتى في الجزائر التي يعتبر فيها الجيش هو القبيلة الحاكمة، للبقاء في السلطة، يدعم الجنرالات بعضهم البعض (التضامن القبلي) ويتقاسمون عائدات النفط على قدم المساواة كوسيلة لإنشاء قبيلة ريعية افتراضية، حيث أصبح الربح هو الشكل الرئيسي للهوية لديهم.

قام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة بإلحاق عشيرته بالقبيلة العسكرية وجعل عائلته تستفيد من غنائم النفط لدرجة أن شقيقه سعيد بوتفليقة أصبح رئيسًا، بحكم الأمر الواقع، منذ عام 2013 عندما أصبح الرئيس الحقيقي عاجزًا جسديًا عن الحكم نتيجة لأزمة قلبية شلت نصف جسده.

الغلبة الأبوية

إن الأبوية المعروفة كذلك بالبطريركية في العالم العربي هي حقا مزيجا من القبلية المتطرفة (ولاء أعمى لا يرقى إليه الشك) والحد الأدنى من الدين الإسلامي (الديانة تستخدم لخدمة المصالح القبلية مثل الوهابية في المملكة العربية السعودية).

تدين العشيرة ببقائها داخل نظام اجتماعي شديد التنافس ونظام للمزايا المادية والقوة السياسية لقوة البطريرك (الشيخ) وذكائه وحنكته. في المقابل، يحتاج البطريرك إلى دعم ثابت من أعضائه وطاعة كاملة. في مثل هذا النظام الاجتماعي، تعد الأقدمية الزمنية أو السن المتقدم مرادفا للحكمة والقوة، وعلى هذا النحو، يتم الاستغناء عن الشباب والتعامل مع القوميات و الاثنيات بعنصرية و النساء على أنهن مجرد أثاث منزلي يمكن استخدامه عند الحاجة و كذا التخلص منه حسب الرغبة.

أسوأ تعبير عن النظام الأبوي هو التقيد بالتقليد بمعني احترام التقاليد أي أنه لا يمكن تغيير أي شيء إلا إذا كان التغيير يحترم التسلسل الهرمي القبلي، وهو ما يعني في معظم الحالات عدم وجود أي تغيير على الإطلاق، حتى لو كان ذلك مفيدًا لعامة الناس، أي منفعة.

لقد تخطت قوة النظام الأبوي السلطة القبلية في القرن الرابع عشر عندما تم إغلاق باب الاجتهاد لصالح “الاعتماد على السلف الصالح” أي احترام الأحكام السابقة.

ابن تيمية 1263-1328

ونتيجة لذلك، بدأ عصر التقليديين بقوة كبيرة، الامرالذي وضع حدا للابتكار والإبداع، سواء كان تكنولوجيا أو فكريا. وفي أعقاب هذه الحركة ظهر عدد من الشيوخ المعروفين باسم “شيوخ الإسلام” مثل ابن تيمية (1263-1328) الذي شجع الإسلام التقليدي المتقشف والمؤدي إلى تأسيس نظام البطريركية والقمعية القبلية بدلاً من الشورى والإجماع اللذين عرف بهما الإسلام المبكر في عهد الرسول.

بعد استقلال معظم الدول العربية في منتصف القرن الماضي، أصبحت أنظمتها السياسية أبوية تحمي الفرد رغما عن أنفه من تأثير العالم الخارجي الذي ينظر إليه على أنه بيئة فاسد. بالطبع كان البطريرك ديكتاتورا في صورة خادعة للأب، أب الأمة أو الزعيم، والقدوة بلا منازع، كجمال عبد الناصر (1954-1970). ويمكن القول إن زعماء العالم العربي: ناصر، صدام، القذافي، وما إلى ذلك كانوا جميعا دكتاتوريين شرسين سعوا بالحيلة والقوة إلى القضاء على المعارضة دون أدنى ندم.

وهكذا قام جمال عبد الناصر بسجن وقتل الإخوان المسلمين، وقام صدام بالفتك بالأكراد وقام القذافي بتصفية المعارضة الإسلامية والعلمانية.

وجدير بالذكر، أن الأبوية العربية في صورة العروبة أو العروبية، قضت ليس فقط على المعارضين السياسيين، بل وأيضاً على كل أشكال التعبير عن الهويات الثقافية والإثنية والدينية: كالأمازيغ، و الأكراد، و الأقباط، الخ.، لأن العروبة الأبوية بالنسبة لهم كانت الحل الوحيد لجميع مشاكل الأمة العربية و “التعددية هي مجرد أسطورة ساذجة ابتكرها الغرب للسيطرة على عقول العرب”، ولا يزال الكثير من العرب يعتقدون ذلك نتيجة تأثرهم العميق بنظرية المؤامرة.

قوة الماضي

منذ نهاية عصر الاجتهاد في القرن الرابع عشر، هتف السرد التقليدي العربي بمدح الزمن الماضي: “التقليد هو الأفضل لأن المستقبل غير آمن وغير معروف والابتكار محفوف بالمخاطر ولا خير يرجى من ورائه البتة”.

نتيجة لذلك، يتم إرغام معظم العرب على حب الماضي والارتباط بالتقاليد مدى الحياة. وفي هذه الرواية الماضوية والرجعية، يُنظر إلى الوضع الراهن في المحيط العربي على أنه ضامن الأمن والسلام والرفاء، وأن التشدد للدين وقواعد الخلف الصالح المعروف ب “السلف الموقر” منفعة والمطالبة بالتغيير مخاطرة جسيمة قد تؤدي إلى ما لا تحمد عقباه بالتأكيد، والأمر لا شك يعتبر حيلة مقيتة لجأ إليها الغرب والصليبيون لمهاجمة الإسلام وإضعافه.

لقد تم تمجيد “الماضي العظيم” والاحتفال بحقب تاريخية مثل “انتصار صلاح الدين الأيوبي في القدس” و “الحضارة العربية في إسبانيا” و “العصر الذهبي للإسلام” في التقاليد السياسية العربية للأنظمة القائمة في الحكم. واستخدمت الديكتاتوريات العربية هذا السرد لثني شعوبها عن السعي إلى التغيير والديمقراطية والاستقرار للإبقاء على الوضع الراهن إلى ما لا نهاية.

إن الإسلاميين، في الواقع، أكثر اعتمادا في سردياتهم على الماضي من العروبيين عمومًا لأنهم يمقتون الحداثة ويرون في ذلك تحديًا صارخا لسلطتهم الدينية، وأبويتهم الحضارية ولطالما رأوا الديمقراطية كحصان طروادة غربي وذراع مسيحي لتدمير الإسلام والقضاء على تقاليده المجيدة.

معارضة غير فعالة

كانت المعارضة السياسية في العالم العربي وما تزال ضعيفة جدًا باستثناء جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وكانت الأحزاب السياسية وما زالت تمجد فلسفة التفوق القبلي للعرق العربي دون غيره والأبوية القاتلة. وفي معظم الوقت، يتم إنشاء وتجميع حزب ليس للدفاع عن مصلحة الناخبين، ولكن للوصول، إلى أقصى حد ممكن، من الامتيازات التي يوفرها النظام القائم لاستقطاب السياسيين الحزبيين. ونظام الحكم القائم، في الواقع، يكافئ الأحزاب سهلة الانصياع لتعليماته بأموال ومناصب سياسية بسخاء لا مثيل له.

ويمكن القول إن المعارضة هي أيضا غير فعالة لأنها مجزأة حسب التصميم السياسي للحكام. ويفضل النظام القائم أن يكون لديه العديد من الأحزاب الصغيرة أكثر من حزب واحد أو حزبين قويين، لسهولة التأثير على اللعبة السياسية مثل ضرب حزب بأخر من أجل خلق نزاع قبلي دائم. كما تشجع المؤسسة السياسية الحاكمة الجماعات القبلية على أن يكون لها حزب خاص بها للدفاع عن مصالحها القبلية، ونتيجة لذلك، يصبح الطيف السياسي برمته قبليًا ومبلقنامع وجود العديد من الجهات الفاعلة التي تسعى لتحقيق مكاسب شخصية، وبهذا يظل العرب قبليين بلا حدود في الروح والممارسة.

متظاهرون بمصر

 إن المعارضة السياسية الحقيقية هي المعارضة التي تتمتع بالقدرة على انتقاد الحكومة / المؤسسات السياسية وتقديم بديل معقول، سواء كان اقتصاديًا أو اجتماعيًا أو سياسيًا. ومع ذلك، لا تملك الأحزاب القبلية أي برامج سياسية أو اقتصادية تذكر، على أي حال.

وعلى هذا النحو، في هذه الحالات، تكون غالبا الحكومات تكنوقراطية بشكل عام وليست سياسية ولا تخضع للمساءلة من قبل البرلمان لأن البرلمان نفسه هو مجرد مؤسسة صورية تعزز ديمقراطية الواجهة لا اقل ولا أكثر.

المشاركة في السياسة

تستخدم الأنظمة العربية الجزرة أكثر من العصا ويعمل سيناريو الجزرة بشكل رائع في معظم الحالات. إن الاستقطاب ظاهرة لا يتم استخدامها فقط في السياسة ولكن أيضًا، في جميع مناحي الحياة الأخرى: كالثقافة، والاقتصاد، والدين، إلخ

لقد أدى الاستقطاب إلى إضعاف الصحافة والإعلام، ونتيجة لذلك، فإن معظم العرب لا يثقون في وسائل الإعلام المحلية لأنها تابعة للأنظمة القائمة. أما وسائل الإعلام المستقلة، إذا كانت موجودة، فهي إما سرية أو في الخارج لأن النظام سوف يخنقها بالحجر الاقتصادي ويدفعها لإعلان إفلاسها.

ثورة مضادة على أهبة الاستعداد

إن الثورة في الجزائر والسودان تعبيران رائعان عن البحث العربي عن الحرية والديمقراطية، لكن مع مرور الوقت، سيتم هزمهما لأنهما لا يتم تأطيرهما ودعمهما من قبل معارضة سياسية قادرة على إدارة فترة ما بعد الثورة. سوف تقدم الأنظمة القائمة تنازلات، بالتأكيد، للسماح للعاصفة بالمرور والعودة فيما بعد بشكل مختلف، لإدامة حكمها.

يحتاج العالم العربي بشدة إلى جيل جديد من السياسيين يتميزون بروح الديمقراطية في العمل والتفكير. ويوجد اليوم العديد من العرب الذين تلقوا تعليمهم في الغرب ويحملون شهادات علمية عالية وتعرفوا عن كثب على الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وفلسفة الحداثة.

هناك، أيضًا، الملايين من جيل الألفية الذين يريدون تغييرًا كاملاً ويريدون أيضًا وظائف ورأي في السياسة بالإضافة إلى الحرية ودولة القانون. وإذا تضافرت جهود هاتين المجموعتين، فمن المؤكد أن الديمقراطية ستغدو حقيقة، وإلا فإن الأمر سيستغرق العديد من الوقت للوصول إلى التغيير المطلوب الذي يعد العالم العربي في أمس الحاجة إليه اليوم قبل الغد للتقدم ومسايرة الركب.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments