ملاحظات حول “تبرأ” بعض الخليجيين من “عروبة” سكان شمال إفريقيا
عندما أقرأ بأن بعض عرب الخليج قد شككوا في “عروبة شمال إفريقيا” و”تبرؤوا” من انتماء أهل هذه المنطقة إلى “نهر العروبة”، أجد نفسي أبتسم ابتسامة ممتزجة بإحساس عميق بالاستغراب من وضعية سكان شمال إفريقيا المساكين الذين يأخذون مأخذ الجد رأي شعوب بعيدة عنهم جغرافيا مستعبدة لحكامها بشكل لا نظيره له في دول العالم المعاصر ولا يوجد في معظم بلدانهم “برلمان” يمثلهم ولو ادعاءً- رأيهم في ما يكونون أو لا يكونون.
تخيلوا معي أن “يشكك” الهنود الحمر في يوم من الأيام في “هندية” فرنسا و”هندية” سكانها فيأخذها الفرنسيون بمأخذ الجد. أو تخيلوا أن “يتبرأ” شعب الموزمبيق من الهولنديين وأن يشككوا في عدم “موزمبيقية” هولاندا وسكانها، فيغضب الهولنديون ويقومون طرا للدفاع عن “شرفهم الموزمبيقي” المهدور. أليست هذه السينياروهات كاريكاتورية إلى أقصى حد؟ … بتأمل بسيط، ستجد أن “رأي” هؤلاء القوم فينا لا يختلف إطلاقا عن هاته السيناريوهات.
لو أن “أشقاءنا” الخليجيين “تبرؤوا” من عروبة شمال إفريقيا لأسباب علمية بناء على نتائج التحاليل الجينية التي أثبتت بما لا يدع للشك أن الانسان الشمال إفريقي ليس عربيا أصلا بل هو أصيل في المنطقة الجغرافية التي يقطن بها، ولو أنهم فعلوا ذلك بناء على ما اكتشفه الأركيولوجيون من أن أصل الانسان العاقل هو من شمال إفريقيا وليس من “الشرق”، ولو أنهم فعلوا ذلك بناء على انفتاحهم المفاجئ على العلوم الأركيولوجية واللسانية التاريخية وما تكشفه لنا من معطيات تؤكد على الفرادة الأنتروپولوجية لإنسان شمال إفريقيا، لاعتبارنا “تشككهم” في عروبة شمال إفريقيا انعكاسا ثقافيا لفهم متأخر شيئا ما لحقائق علمية أصبح يعرفها معظم الناس. أما وأن يكون “تبرؤهم” نوعا من “العقاب” ينزلونه على سكان المغرب والجزائر وتونس وليبيا بسبب مواقف سياسية لهذه البلدان لا يرتضونها، فهذا نوع من “التبرهيش” الافتراضي، في أحسن الأحوال، ونوع من الغباء الراضي عن نفسه لا يصل حتى مستوى المؤشرات الثقافية المتدنية التي يعانون من مخلفاتها في كل جوانب حياتهم السياسية وغيرها.
فلربما توهم القوم أن انتماءنا المزعوم إليهم وإلى “عروبتهم” هو مصدر من مصادر الفخر بالنسبة لنا، سنبكي بكاء جماعيا على عدم اعترافهم بحقنا فيه. فلو كان الافتخار بالماضي يجدي نفعا لفضلنا الافتخار بماسينيسا ومشاريعه الفلاحية التي أسست لحضارة تامازغا، أو بأغسطين الفيلسوف صاحب فلسفة الكوجيطو الحقيقي التي نسبها ديكارت لنفسه، أو يوسف ابن تاشفينت الذي أنقذ الحكم الاسلامي في الأندلس لقرون وأسس لحضارة امتدت إلى الحدود الغربية لمصر، أو ابن رشد الذي وضع أسس عقلانية حقيقية جعلت المرحوم عابد الجابري يميز على أساس أكاديمي بين عقلانية الغرب وبيانية الشرق وعرفانيته، أو ابن خلدون الذي أسس لعلم الاجتماع المعاصر، ..
لكننا نعلم أن الافتخار بالأموات مجرد تشبث بظلال لم تعد موجودة إلا في الكتب والمنقوشات، وأن المقارنات بين الشعوب مجرد إرث ثقافي متخلف تسرب إلينا خلسة عندما فرضت نخبة مستلبة في بلدنا تدريس المفاضلات العكاظية لأبنائنا وبناتنا، بدل أن تدرسهم عقلانية ماسينيسا وابن رشد. فلتخبرونا إن كان لديكم ما تفتخرون به اليوم غير الثروات النفطية التي يكمل بها دونالد ترامپ ميزانيته السنوية أو روح الخمول التي صرتم عليها بعد أن كلفتم الأجانب بكل الأعمال التي التي تنفع الناس في حياتهم.، وسنخبركم بأن معظم مثقفي منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط كانوا ولا زالوا إما من لبنان وإما من مصر… وإما من شمال إفريقيا.
فلتعلموا، إذن. يا أصدقاءنا في الخليج “العربي” أننا لسنا “حزينين” على إنكاركم ل”عروبتنا”، فنحن، كجميع شعوب العالم، شعب متعدد الثقافات، نفتخر بتعدديتنا، نشترك في هوية جذر تجمعنا جميعا اسمها “تيمّوزغا” ستجدون آثارها في لغاتنا (الأمازيغية والدارجية والحسانية)، وفي عمراننا، ومأكولاتنا، وملبسنا، وعاداتنا الاجتماعية والثقافية. هي ماضينا، وحاضرنا ورهان مستقبلنا. هذا هو واقعنا الذي نفتخر به فعلا، ونسعى أن ننطلق منه لبناء مجتمع ديموقراطي ومتقدم يفتخر أكثر بما ينتج لا بما أنتجه أجداده.
فلماذا لا تعوضوا “تبرأكم” من “انتمائنا للعروبة” بأن تشاركوا معنا مغامرتنا ونضالنا في اكتشاف هويتنا الحقيقية التي طمستها النخب السياسية لأسباب أيديولوجية معروفة؟ لماذا لا تلتفتون إلى تراثكم الخاص وتاريخكم الحقيقي، كما فعلنا، لتكتشوا لغاتكم الجميلة التي أهملتموها كاللغة الحميرية واللحيانية والثمودية والمهرية والسقطرية، فكلها لغات جميلة تستحق الاعتناء والتطوير إلى جانب لغتكم الرسمية التي هي العربية؟
لماذا لا تربون أبناءكم على الفكر النقدي؟ وتعلمونهم الانفتاح على الفكر الفلسفي الذي يحرر الانسان من التعصب؟ لماذا لا ترتفعون بذائقتهم الفنية إلى مستوى التعامل مع الفن العالمي السامي؟ لماذا لا تنتجون أفلاما ولو في مستوى الأفلام الهندية، والهنود جيرانكم؟ لماذا معظم بلدانكم لا تتوفر على برلمان وأحزاب تمثل الشعب ولو ادعاء؟ لماذا تمتلكون الكثير من النفط والمال بينما حالتكم الحضارية محزنة جدا؟
هذه هي الأسئلة التي ينبغي أن تشغلوا أنفسكم بها بدل أن تكلفوا أنفسكم عناء إخبارنا ب”تبرئكم” من “هوية” ليست هي هويتنا أصلا.
فاعل أمازيغي ورئيس شعبة الدراسات الإنجليزية بجامعة القاضي عياض ودكتور في اللسانيات