الأساطير المؤسسة للعروبة العرقية بالمغرب


أستعمل هنا مفهوم “الأسطورة” بمعنى مجموعة من الشائعات والخرافات والتوهمات والأكاذيب التي تتحول، بفعل انتشارها الواسع وتكرارها الدائم والتذكير المستمر بها كوقائع تاريخية، إلى وحقائق ثابتة ومبادئ راسخة تفسر أحداثا ووقائع معينة.

ما يهمنا في هذا الاستعمال لمفهوم “الأسطورة” هما الخاصيتان الملازمتان لهذه الأخيرة:

ـ مضمونها اللاواقعي (الشائعات، الخرافات، التوهمات والأكاذيب…)،

ـ وظيفتها المتمثلة في تفسير البداية الأولى لأحداث ووقائع خاصة.

الحدث أو الواقعة المعنية في هذا التحليل هو ظاهرة “العروبة العرقية” وانتشارها بالمغرب كهوية وانتماء للشعب وللدولة على الخصوص. أما الأساطير المرتبطة بهذه العروبة ـ العرقية دائما ـ فتشمل كل التبريرات الإيديولوجية والعرقية والتاريخية واللغوية والدينية والفكرية والثقافية الرائجة كـ”حقائق” تفسر هيمنة هذه العروبة العرقية وتعطي لها المشروعية وتبرزها كأمر عادي، بسيط ومنطقي وحقيقي وواقعي، لا يطرح أسئلة ولا يثير نقاشا.

ويمكن صياغة الأسئلة الذي تطرحها هيمنة العروبة العرقية بالمغرب كالتالي:

ـ لماذا وكيف أصبح المغرب، البلد الذي يقع في إفريقيا، جزءا من  الوطن العربي الذي يقع في أسيا؟

ـ لماذا وكيف أصبحت هوية الدولة المغربية هوية عربية بالمعنى العرقي بعد تنكرها لهويتها الأمازيغية ذات المضمون الترابي؟

الأجوبة عن هذه الأسئلة، كما يستعرضها التاريخ الرسمي والكتب المدرسية، وترددّها وسائل الإعلام وخطب الجمعة، وتعيد إنتاجَها الثقافةُ السائدة، تشكل “حقائق” لا تناقش لقراءتها المتكررة وسماعها الدائم واستظهارها واستحضارها بلا انقطاع ولا توقف.

لكن إذا حللنا هذه “الحقائق”، وحاولنا الوقوف على منطقها ومصادرها وطريقة بنائها وتشكلها، سنجد أنها مجرد أساطير تؤسس بها وعليها العروبةُ العرقية وجودَها السياسي كهوية للدولة بالمغرب.

يمكن تصنيف هذه الأساطير المؤسسة لهذه العروبة العرقية إلى عشرٍ:

1ـ العروبة العرقية ونشر الإسلام:

من “التفسيرات” المتداولة كـ”حقائق” ثابتة حول أسباب انتشار العروبة العرقية بالمغرب، القول بأن العرب جاءوا إلى بلدان شمال إفريقيا بغاية نشر الإسلام. ومع انتشار الإسلام بهذه الربوع الشمال إفريقية، انتشرت بها كذلك العروبة العرقية للعرب “الفاتحين” الناشرين للإسلام.

يستدعي هذا الربط بين انتشار الإسلام وانتشار العروبة العرقية بالمغرب الملاحظات والأسئلة التالية:

أ ـ فحتى على فرض أن العرب جاؤوا لنشر الإسلام وليس من أجل شيء آخر، فلا نفهم لماذا ستنتشر هذه العروبة العرقية بجانب انتشار الإسلام، ما دام أن الأولى ليست شرطا للإسلام، بدليل أن أزيد من 90% من المسلمين في العالم ليسوا عربا ولا علاقة لهم بالعروبة العرقية.

ب ـ وحتى على فرض أنهم جاؤوا لنشر الإسلام وليس من أجل شيء آخر، فلماذا لم يرجعوا إلى أوطانهم بعد أدائهم للمهمة التي جاؤوا من أجلها، والتي هي نشر الإسلام وليس نشر العروبة العرقية ولا احتلال الأرض.

نلاحظ أنه حتى إذا سايرنا افتراض أن العرب جاؤوا لنشر الإسلام وليس من أجل شيء آخر، فإن ذلك يثير أسئلة لا يمكن أن يجيب عنها هذا الافتراض، فبالأحرى إذا كان الهدف من مجيء العرب إلى المغرب ليس هو نشر الإسلام بل من أجل أشياء أخرى.

ج ـ إذا كانت هذه العروبة العرقية مرتبطة بـ”الفتح الإسلامي”، فلماذا لم تظهر كهوية للدولة بالمغرب إلا ابتداء من 1912، أي مع فرض الحماية الفرنسية على هذا البلد الإفريقي؟ فهل هي نتيجة “للفتح الإسلامي” أم نتيجة “للفتح الفرنسي”؟

أما الحقيقة، فهي أن العرب الذين جاؤوا إلى المغرب، هدفهم لم يكن هو نشر الإسلام، بل هو نشر ما حاربه الإسلام، أي نشر جاهليتهم التي مارسوها بشمال إفريقيا بشكل فظيع وبدائي مقيت، كما يظهر ذلك في أعمال النهب والسلب والتقتيل الجماعي والاغتصاب والسبي والاستغلام (تحويل الأطفال إلى غلمان)، والتي هي ممارسات لا علاقة لها بالإسلام ولا بأساليب نشره والتعريف به.

إن تبرير العروبة العرقية بالمغرب بدعوى نشر الإسلام، هي إساءة إلى الإسلام نفسه لأن الجاهلية تتنافى مع الإسلام الذي جاء للقضاء عليها ووضع حدّ لها.

هناك من يعترض بطرح السؤال التالي الجاهز: إذا لم يأت العرب لنشر الإسلام بشمال إفريقيا، فكيف وصل الإسلام إلى هذه المنطقة وكيف انتشر بها؟

إن ربط انتشار الإسلام بمجيء العرب (الغزو العربي) يشكل إحدى هذه الأساطير المؤسسة للعروبة العرقية بالمغرب، والتي (الأساطير) نحن بصدد تفكيكها وتحليلها.

أما كيف انتشر الإسلام بشمال إفريقيا، فبنفس الوسائل ونفس الطرق التي انتشر بها في بلدان مثل أفغانستان وباكستان وماليزيا والصين وأندونيسا، التي أصبحت أكبر بلد إسلامي دون أن يصلها عرب ولا عروبة عرقية، ولا تعرضت “لفتح إسلامي” ولا غزو عربي. (انظر موضوعنا: “لماذا لم ينتشر الإسلام بأوروبا مثلما انتشر ببلدان أسيا؟” ضمن كتاب “في الهوية الأمازيغية للمغرب”). فالإسلام نشره بشمال إفريقيا المسلمون الأمازيغيون الأوائل الذين تعرفوا على هذا الدين من خلال تعاملهم مع مسلمين آخرين من مصر القريبة من موطنهم. كما لا ننسى دور بعض العرب الصادقين الذين هاجروا إلى شمال إفريقيا للتبشير بتعاليم الدين الجديد، ولكن لم يكونوا لا من الغزاة ولا من “الفاتحين” المفترضين.

فالعلاقة الوحيدة بين هذه العروبة العرقية والإسلام، هو استغلالها واستعمالها لهذا الأخير، كما لا زالت تفعل اليوم، لإضفاء الشرعية على انتشارها بشمال إفريقيا كثقافة جاهلية ذات مضامين عرقية وعنصرية متعارضة مع مبادئ الإسلام التي تدعي أنها جاءت لنشره بربوع شمال إفريقيا. وهو ما يؤكد أن هذا الربط بين الإسلام والعروبة العرقية هو مجرد أسطورة تعطي المشروعية لهذه العروبة العرقية ذات الأصول الجاهلية اللاإسلامية.

2 ـ الخلط بين العروبة والإسلام:

ولترسيخ هذه العلاقة المزعومة بين العروبة العرقية ونشر الإسلام، تعمل هذه العروبة العرقية، حتى تحافظ على وجودها بالمغرب، على ترسيخ الخلط بين العروبة والإسلام. الغاية من هذا الخلط هو إيهام المسلم بالمغرب أن العروبة تساوي الإسلام. وبالتالي فالمسلم لا يصح إسلامه إلا إذا انتسب إلى العروبة العرقية. والنتيجة أن من يعادي هذه العروبة فهو يعادي الإسلام، ومن يدافع عنها فهو يدافع عن الدين الحنيف.

إن هذا التلازم بين العروبة والإسلام هو في الحقيقة إساءة إلى الإسلام نفسه، لأن الجمع بينهما يساوي الجمع بين الجاهلية والإسلام بالنظر إلى أن العروبة العرقية، كما سبق أن بينا، من مخلفات الجاهلية التي رفضها وحاربها الإسلام. 

3 ـ خرافة النسب الشريف:

بالإضافة إلى الإسلام الذي تستعمله وتستغله العروبة العرقية لتبرير وجودها السياسي (كهوية للدولة) بالمغرب، فهي تعتمد كذلك، لدعم هذا الوجود، على مفهوم “النسب الشريف” الذي يزيد هذه العروبة العرقية قيمة مضافة مؤكدة، ليس فقط لأن هذا المفهوم يحيل على أرومة خاصة، بل لأن هذه الأرومة هي نفسها عربية. ولهذا أصبحت العروبة العرقية تستعمل “النسب الشريف” استعمالا سياسيا، مثلما تفعل بالإسلام كما سبق أن شرحنا، عندما جعلت منه ركنا جديدا من أركان الدولة كما في المغرب. هذا الدور السياسي الكبير لخرافة “النسب الشريف”، مع ما يوفره لحامله من جاه وشرف وامتياز عرقي واجتماعي وسياسي وديني، هو سبب تفاني العديد من المغاربة في الحصول على “النسب الشريف” المزعوم، الشيء الذي كان من نتائجه ظهور “مقاولات” متخصصة في منح شواهد “النسب الشريف” تنصب على الراغبين في هذه الشواهد الخرافية التي تباع بمبالغ مالية هامة، مما يدعم ويرسّخ أكثر وأفضل العروبة العرقية بالمغرب.

الخطير في خرافة “النسب الشريف”، ليس ما تنطق به هذه العبارة وتقوله وتعلن عنه، أي “النسب الشريف” لهؤلاء أو أولئك، وإنما الخطير هو ما تسكت عنه ولا تصرح به، لكن تتضمنه وتقصده وتشير إليه، أي أن نسب الآخرين غير شريف. وهذه هي العصرية بعينها، كاملة ومكتملة. وهو ما يؤكد، مرة أخرى، أن خرافة “النسب الشريف” جزء من الثقافة الجاهلية العنصرية التي تقوم عليها العروبة العرقية التي تستعمل هذه الخرافة لتعزيز حضورها وتقوية وجودها.

فـ”النسب الشريف”، كمنتوج للعروبة العرقية، ليس حتى أسطورة، بل هو، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، مجرد خرافة عنصرية يدحضها العلم ويرفضها الدين وتتنافى مع مبادئ الديموقراطية والمساواة وحقوق الإنسان.

4 ـ التعريب ونشر اللغة العربية:

تدعم العروبة العرقية وجودها السياسي بالمغرب بالادعاء أنها هي التي جاءت باللغة العربية الضرورية لفهم الإسلام. هكذا يكون إذن نشرها للغة العربية جزءا من نشرها للإسلام. وهذا يزيد من مكانة هذه العروبة العرقية نظرا للمكانة التي تحتلها اللغة العربية لدى المغاربة بالمغرب. الشيء الذي استغل للعمل على مزيد من نشر العروبة العرقية بالمغرب تحت ذريعة نشر اللغة العربية باتباع سياسة التعريب التي لا علاقة لها في الحقيقة بالعربية كلغة، وإنما هدفها هو التمكين للعروبة العرفية وضمان هيمنتها واستمرارها. 

فسياسة التعريب أسطورة أخرى تلجأ إليها العروبة العرقية لتبرير حضورها الطاغي بالمغرب بالزعم أن الهدف هو اللغة العربية في حين أن الهدف الحقيقي هو العروبة العرقية.

5 ـ الخلط بين العامية المغربية واللغة العربية:

الخلط الآخر ـ بجانب الخلط بين العروبة والإسلام ـ الذي يخدم العروبة العرقية بالمغرب، هو بين العامية المغربية (الدارجة) واللغة العربية. وهو خلط يعمل على نشر وترسيخ الفكرة الخاطئة أن العامية المغربية لغة عربية. وبما أن غالبية المغاربة يتحدثون هذه اللغة العامية، فالنتيجة أن غالبية المغاربة هم عرب هوية وانتماء. وهو ما يعزز أكثر حضور العروبة العرقية بالمغرب ويعطيها مزيدا من المشروعية. وهكذا يصبح هذا الخلط إحدى الوسائل الناجحة والناجعة لتعريب المغاربة من أجل مزيد من الهيمنة للعروبة العرقية كانتماء وحيد لهؤلاء المغاربة.

6 ـ تأسيس أول دولة عربية على يد إدريس الأول:

الأسطورة السادسة الأخرى، المؤسسة للعروبة العرقية بالمغرب، هي التي تقول بأن أول دولة عرفها المغرب هي الدولة العربية التي أسسها إدريس الأول العربي، والتي استمرت قائمة وموجودة كدولة عربية عرقيا، منذ أزيد 1200 سنة (نحن في 2012). ومع استمرارها ووجودها يستمر وجود العروبة العرقية التي هي ركن في هذه الدولة وشرط لها. فقيام الدولة بالمغرب يرجع الفضل فيه إذن إلى العروبة العرقية التي يمثلها النسب العربي لإدريس الأول مؤسس هذه الدولة.

إنها حقا أسطورة جميلة ورائعة!

7 ـ أسطورة الأصل اليمني للأمازيغيين:

وحتى تستمر العروبة العرقية مهيمنة بلا منافس ولا مشكّك، تم اختلاق وترويج أسطورة الأصل اليمني العربي للأمازيغيين الذين، كما تؤكد الأسطورة، هاجروا من اليمن العربية إلى شمال إفريقيا. والهدف من هذه الأسطورة هو الإقناع أن سكان شمال إفريقيا هم عرب في أصولهم، وبالتالي فليس هناك من انتماء لشعوب هذه المنطقة غير انتمائهم العرقي العربي. وهذا ما يعطي للعروبة العرقية بالمغرب مشروعية تاريخية وعلمية يؤكدها أصلهم اليمني العربي.

8 ـ أسطورة محاربة فرنسا للعروبة بالمغرب:

حتى تظهر العروبة العرقية بالمغرب كمظلومة وكضحية، روّج المدافعون عن هذه العروبة العرقية والمستفيدون منها أن فرنسا بذلت كل ما في وسعها لمحاربة هذه العروبة ووضع حد لها بالمغرب، لكنها لم تفلح في ذلك بسبب تجذرها بهذا المغرب وتعلق المغاربة بانتمائهم إلى هذه العروبة التي دافعوا عنها وحموها من عدوان فرنسا عليها إلى أن حرروها من الاحتلال الفرنسي.

أما الحقيقة فهي أن فرنسا لم تحتل المغرب لمحاربة العروبة بل لحمايتها (من هنا مصطلح “الحماية الفرنسية”) والتمكين لها والارتقاء بها إلى المستوى السياسي الذي جعل منها هوية للدولة منذ 1912، أي منذ الحماية الفرنسية على المغرب.

فهذه العروبة العرقية هي التي تحالفت إذن مع فرنسا وطلبت منها احتلاله للدفاع عنها وحمايتها. هذه الحماية التي توّجت بإنشاء دولة عربية بالمغرب لفائدة هذه العروبة العرقية.

9 ـ أسطورة “الظهير البربري”:

أكبر هذه الأساطير هي أسطورة “الظهير البربري”. إنها أسطورة الأساطير التي جعلت من العروبة العرقية ضحية ومن الأمازيغية حليفا للاستعمار في تآمرهما على هذه العروبة التي حاولت فرنسا فصل “البربر” عن انتمائهم إليها، والعمل على تنصيرهم حتى تقطع كل آصرة تربطهم بهذه العروبة. لكن هذه الأخيرة واجهت المؤامرة وأفشلت مشروع فرنسا الانفصالي وحمت الانتماء العربي وأنقذت الأمازيغيين من التنصير بفضل سلاح “اللطيف” الفتّاك.

10 ـ أسطورة “المغرب العربي”:

هذه الأساطير التي تقوم عليها العروبة العرقية بالمغرب، أنتجت، مجتمعة، أسطورة “المغرب العربي” الذي يطلق على بلدان هذه المنطقة تأكيدا على انتمائها العرقي العربي.

*****

إن العودة إلى الأمازيغية كانتماء ترابي هي الشرط الواقف لتقويض هذه الأساطير “العرقية”، مع ما يتطلبه ذلك ويصاحبه من بناء وعي جديد وسليم بديلا للوعي “العرقي” الزائف الذي أفقد المغرب استقلاله الهوياتي وخصوصيته الأمازيغية الإفريقية. ذلك أن الدفاع عن الأمازيغية هو في نفس الوقت محاربة للفكر الأسطوري والعرقي العروبي، الذي يشوه الحقيقة، ويزور التاريخ، ويكذب على الواقع، ويفسد الوعي ويستلبه.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments