عادة التهرب من المسؤولية بالقول إنها “مسؤولية الجميع” وتتطلب “مشاركة الجميع”


أصبح أمرا مألوفا وشائعا أن يصرّح هذا الوزير أو ذاك، عندما يتحدث أو يُسأل عن مظاهر وأسباب الفشل التي تعرفها الإصلاحات التي وعد بها والمشاريع التي سبق أن برمجها وأعلن عنها، بأن نجاح أي إصلاح أو أي مشروع يخص القطاع الذي يشرف عليه هو “مسؤولية الجميع” ويتطلب “مشاركة الجميع”.

وهكذا نسمع مرار وتكرارا كلاما خشبيا لمسؤولين عن قطاع العدل يرددون بأن إصلاح القضاء هو “مسؤولية الجميع” ويحتاج إلى “مشاركة الجميع”؛ ولمسؤولين عن قطاع التعليم يرددون كذلك بأن إصلاح المنظومة التربوية هو “مسؤولية الجميع” ويتطلب “مشاركة الجميع”، وأن النهوض بالأمازيغية هو “مسؤولية الجميع” ويتطلب “مشاركة الجميع”؛ ولمسؤولين عن التعمير يقولون أيضا بأن محاربة البناء العشوائي هي “مسؤولية الجميع” وتتطلب “مشاركة الجميع”؛ ولمسؤولين عن قطاع النقل والتجهيز يقولون نفس الشي، أي أن الحدّ من حوادث السير هو “مسؤولية الجميع” ويتطلب “مشاركة الجميع”؛ ولمسؤولين في الأمن والداخلية يصرّحون أيضا بأن محاربة تفشي الجريمة هي “مسؤولية الجميع” وتتطلب “مشاركة الجميع”…

تخلّص المسؤولين الحقيقيين والقانونيين، بحكم مناصبهم ومهامهم، من مسؤولياتهم الشخصية عن فشل سياساتهم العمومية بادعاء أنها “مسؤولية الجميع” وتستدعي “مشاركة الجميع”، فيه ضرب لعصفورين بحجر واحد:

ـ تظاهر المسؤول الحقيقي كديموقراطي حقيقي يرفض الانفراد باتخاذ القرارات التي تخص القطاع الذي يسيّره، لأنه يطبق “الديموقراطية التشاركية” التي تُشرك المواطنين في تحمل المسؤولية وفي اتخاذ القرارات التي تخص السياسات العمومية التي تعني شؤونهم.

ـ تنصّل هذا المسؤول من مسؤوليته الشخصية لأنها أصبحت “مسؤولية الجميع” وتقررت “بمشاركة الجميع”.

لكن عندما نحلل مضامين ودلالات ونتائج وأبعاد هذه “الديموقراطية التشاركية”، نجدها متعارضة على طول الخط مع أية ممارسة ديموقراطية حقيقية إلى درجة أنها تهين الديموقراطية الحقة وتستخفّ بها. لماذا؟

1 ـ لأن هؤلاء المسؤولين هم وزراء في حكومة منتخبة اختارها الشعب المغربي وأعطاها ثقته لتسيّر شؤونه العامة، وهو ما يعني أن الشعب منح هؤلاء المسؤولين الحكوميين كل الصلاحيات والسلط لاتخاذ القرارات المناسبة الخاصة بالقطاع الذي يسيّرونه. فبمجرد الانتهاء، إذن، من الانتخابات العامة وتنصيب أعضاء الحكومة، تصبح المسؤوليات عن تسيير الشؤون العامة محددة وموزّعة حسب الوزراء ومساعديهم والموظفين الذين يعملون تحت إمرتهم. وبالتالي لن يعود مقبولا ولا معقولا ولا ديموقراطيا الحديث عن “مسؤولية الجميع” ولا “مشاركة الجميع” في هذه المسؤولية، لأن “مسؤولية الجميع” تفيد أن هؤلاء (الجميع) لم يتنازلوا بعدُ عن مسؤولياتهم الجزئية والفردية لنخبة محدودة العدد انتخبوها وفوّضوا لها كل السلط والمسؤوليات حتى لا تكون هناك “مسؤولية الجميع”، بل مسؤولية محددة في مسؤولين حكوميين معينين ومعروفين.  

فـ”مسؤولية الجميع” هي إذن حالة سابقة عن وجود الدولة والحكومة والديموقراطية والاحتكام إلى صناديق الاقتراع من أجل تحمّل المسؤولية نيابة عن “مسؤولية الجميع”.  “مسؤولية الجميع” و”مشاركة الجميع” تتنافيان إذن مع المسطرة الديموقراطية ومع وجود حكومة منتخبة يتحمل أعضاؤها وحدهم المسؤولية عن تسيير القطاعات المسندة إليهم. وبالتالي فلا معنى للانتخابات ولا للديموقراطية ولا لحكومة منتخبة إذا بقيت “مسؤولية الجميع” و”مشاركة الجميع” هما المعوّل عليهما لإنجاح مشاريع الحكومة وبرامجها.

2 ـ إن “مسؤولية الجميع” و”مشاركة الجميع” تعفيان ـ وهذا هو الخطير في الأمر ـ المسؤولين الحقيقيين من مسؤولياتهم الشخصية الحقيقية، لأن لا أحد يكون هو المسؤول شخصيا عندما يكون “الجميع” مسؤولا. وإذا انتفت المسؤولية انتفت طبعا المحاسبة. وهو ما يتنافى مع أبسط مبادئ الممارسة الديموقراطية، ويعطّل ـ بل ويكذّب ـ ما نص عليه دستور 2011 من “ربط المسؤولية بالمحاسبة” (الفقرة الثانية من الفصل الأول). فمن المسؤول الذي تجب محاسبته إذا كان “الجميع” مسؤولا؟

وهكذا، مثلا، وبعد أن بذّرت وزارة النقل والتجهيز الملايين من المال العام بدعوى الحدّ من حوادث السير، وذلك بإصدار مدونة سير جديدة واقتناء رادارات لمراقبة السرعة وتنظيم حملة إشهارية تحض المواطنين على احترام قانون السير، وعندما فشل كل ذلك في التقليل من حوادث السير، يتهرّب المسؤولون عن هذا الفشل بترديد اللازمة المكرورة والمملولة بأن نجاح سياسة محاربة ظاهرة حوادث السير هو “مسؤولية الجميع” ويحتاج إلى “مشاركة الجميع”، وينتهي الأمر دون محاسبة المسؤولين الحقيقيين على “نزيف” المال العام الذي أهدروه بمبرر وقف “نزيف” الطرق.

كذلك المسؤولون في وزارة التربية الوطنية أنفقوا  الملايير على بيداغوجيا الأهداف، ثم بيداغوجيا الكفايات، ثم بيداغوجيا الإدماج (الصيغة التطبيقية لبيداغوجيا الكفايات)، ثم المخطط الاستعجالي… وبدل محاسبة المسؤولين عن سياستهم التعليمية الفاشلة والإهدار للمال العام دون جدوى، يحاسب هؤلاء هم أنفسٌهم الجميعَ بالقول بأن إصلاح التعليم “مسؤولية الجميع” ويحتاج إلى “مشاركة الجميع”.

نفس الشيء يتكرر مع فشل تدريس الأمازيغية. فبدل محاسبة المسؤولين الحكوميين الحقيقيين عن هذا الفشل والإفشال، تُحمّل المسؤولية للجميع بالقول بأن النهوض بالأمازيغية “مسؤولية الجميع” ولن ينجح إلا “بمشاركة الجميع”.

نفس اللازمة نسمعها في ما يخص محاربة الفساد. لما لم يحقق المسؤولون ما وعدوا به من القضاء على الفساد، يتهربون من مسؤوليتهم وإخلافهم لوعدهم بالقول بأن محاربة الفساد “مسؤولية الجميع” وتحتاج إلى “مشاركة الجميع”…

هكذا تفشل المشاريع، وتخفق الإصلاحات، وتتعثر البرامج والمخططات، ويهدر المال العام  بلا حدود، وفي الأخير تُحمّل كل تلك الإخفاقات والتعثرات والإهدارات “للجميع”، أي لا أحد، ليبقى المسؤول الحقيقي غير مسؤول، لا تطاله مساءلة ولا محاسبة. وهذا ما يشجع المسؤولين الجدد على السير على نهج سابقيهم في تبذير المال العام على مشاريع فاشلة، ثم إلقاء اللوم على “الجميع” بالعزف على “مسؤولية الجميع” و”مشاركة الجميع”.

وهكذا تتواصل تنمية التخلف والنهوض بالحكامة الفاشلة، لأن “الجميع” مسؤول عن هذا التخلف وهذا الفشل رغم أن المسؤولين الحقيقيين معروفون ويتقاضون أجورا كبيرة للقيام بمسؤولياتهم.

3 ـ عندما يقول المسؤولون الحكوميون الحقيقيون بأن نجاح المشروع الذي يشرفون عليه هو “مسؤولية الجميع” ويحتاج إلى “مشاركة الجميع”، فهذا كلام فيه استغباء للمواطنين الذين يشكّلون هذا “الجميع” واستخفاف بذكائهم واستهتار بكرامتهم. لماذا؟

لأن هذا المسؤول الحكومي الحقيقي ـ وليس “الجميع” المفترض ـ يتقاضى أجرا سمينا وتعويضات ضخمة عن القيام بمسؤوليته ـ كما سبقت الإشارة ـ، لكنه لا يقتسم هذا الأجر وهذه التعويضات مع “الجميع” الذين يحمّلهم المسؤولية عن فشل سياسته العمومية. فكيف يكون “الجميع” مسؤولا و”مشاركا” في المسؤولية عن فشل هذا الإصلاح أو ذاك، مع أن الأجر الخاص بهذه المسؤولية ينفرد ويستفيد منه، لوحده، المسؤول الحكومي المعيّن في منصب هذه المسؤولية؟ فكيف يصحّ ويستقيم أن يدعي هذا الأخير أن المسؤولية يتحملها “الجميع” ويشارك فيها “الجميع”، لكن دون أن يُشركهم في أجره وتعويضاته حتى يكون هناك نصيب من الأجر للجميع يتناسب مع “مسؤولية الجميع”؟

فهذا “الجميع” لا يستحضره المسؤولون الحكوميون الحقيقيون إلا لإعفاء أنفسهم من مسؤوليتهم الحقيقية الثابتة عن فشل مشاريعهم التي أنفقوا عليها الملايير من مال الشعب، في الوقت الذي ينفردون وحدهم ودون “الجميع” بالمكاسب المالية والمادية التي تدرّها عليهم المسؤولية التي أسندت إليهم حصرا وليس اشتراكا بينهم وبين “الجميع”.

4 ـ ثم، من الناحية العملية والقانونية، كيف يمكن “للجميع” أن “يشارك” إجرائيا في سياسة عمومية لتدبير قطاع وزاري ويكون (الجميع) “مسؤولا” عن ذلك التدبير؟ هل سيحتل المواطنون المشكّلون “للجميع” الكرسي الوثير للمسؤول القانوني والحقيقي، ويصدرون هم كذلك قرارات تهم تدبير القطاع المعني؟ أم يقدمون مقترحات ومشاريع إلى الوزير المعني أو مناديبه الجهويين؟ وكيف سيقبل وينفّذ هذا المسؤول الحقيقي والقانوني هذه المقترحات والمشاريع؟

ماذا على “الجميع” أن يفعله مثلا حتى ينجح إصلاح التعليم؟ فالمفترض والمنتظر أن يفعله هذا “الجميع” هو ما يفعله دائما ومنذ زمان:

ـ الآباء يسجلون أبناءهم بالمدارس، وفيهم من يتتبع عن كثب دراسة اولاده؛

ـ التلاميذ يحضرون إلى قاعة الدرس كل يوم؛

ـ  الأساتذة يحضرون أيضا ويلقون الدروس؛

ـ المديرون يشرفون على تسيير المؤسسة التعليمية طبقا للقوانين الجاري بها العمل؛

ـ المفتشون التربويون يراقبون عمل الأساتذة وينجزون تقارير عن ذلك…

أليس “الجميع”، في ما يخص مسألة التعليم، يؤدي واجبه ويقوم بمسؤوليته ومع ذلك فالنظام التعليمي فاشل برمته رغم “مشاركة الجميع” في العملية التعليمية، كل من موقعه؟

“مسؤولية الجميع” و”مشاركة الجميع” في الحدّ من حوادث السير مثلا، يعني بهما المسؤولون أن على السائقين احترام قانون السير. لكن لو كان المنتظر من “الجميع”، سائقين وراجلين ودرّاجين، الانضباط التلقائي لقانون السير، لما كان هناك قانون للسير أصلا يزجر الذين يخالفون قواعده. فالقانون ـ أي قانون ـ لم يشرّع إلا لأن هناك دائما وأبدا من يخالف هذا القانون، فيتدخل هذا الأخير لردع هذا المخالف ومعاقبته. فلو كان المنتظر يقينا من “الجميع” الانضباط لقانون السير، لكان من العبث إذن وضع مدونة للسير.

كذلك لو كان منتظرا يقينا وتلقائيا من “الجميع”،  في ما يتعلق بمحاربة الفساد، أن يمتنع ـ كما يقصد ذلك المسؤولون الحكوميون عندما يستعملان العبارتين الخشبيتين: محاربة الفساد “مسؤولية الجميع” وتتطلب “مشاركة الجميع” ـ المواطنون نهائيا عن دفع رشوة ويرفض الموظفون تلقي مثل هذه الرشوة، لما كانت هناك حاجة إلى قوانين جنائية تعاقب الراشي والمرتشي.

فإذا كانت هناك حكومة منتخبة ووزراء مسؤولون في هذه الحكومة، فذلك من أجل أن تكون المسؤوليات محددة ومعروفة، وليست عائمة ومبهمة ومجهولة كما في “مسؤولية الجميع” و”مشاركة الجميع”. وهذا التحديد للمسؤوليات هو ما تقتضيه وتشترطه المسطرة الديموقراطية.

وهنا نذكّر أصحاب مشجب “مسؤولية الجميع” و”مشاركة الجميع”، أن وزيرة الخارجية للولايات المتحدة “هيلاري كلينتون”، أعلنت أمام وسائل الإعلام، وبدون لفّ ولا دوران ولا لغة خشبية، أنها تتحمل وحدها المسؤولية عن فشل الإجراءات الأمنية لحماية قنصليتها ببن غازي بليبيا بعد مقتل سفيرها بهذه القنصلية عقب هجوم إرهابي يوم 11 شتمبر 2012 على بناية القنصلية التي كان يوجد بها السفير الأمريكي. فهي لم تقل، كما عوّدنا على ذلك المسؤولون الحكوميون المغاربة، بأن التدبير الأمني للسفارات والقنصليات الأمريكية بالخارج، هو “مسؤولية الجميع” وتحتاج إلى “مشاركة الجميع” للتنصل من مسؤوليتها، بل اعترفت علنا أنها تتحمل وحدها كامل المسؤولية عما حدث.

إن الحكومة التي لا تعترف بمسؤوليتها ومسؤوليات وزرائها عن إخفاق مشاريع الإصلاح والتنمية، الذي يعزى (الإخفاق) إلى “مسؤولية الجميع” و”مشاركة الجميع”، ليست حكومة فاشلة فحسب، بل هي حكومة مخاتلة ومخادعة لأنها بدل مواجهة فشلها والعمل على تجاوزه، تحمّل هذا الفشل للجميع.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments