اللغة العربية أو “المعشوقة” التي لا يرغب أي من عشاقها في الزواج منها
عندما نسمع ما يقال ونقرأ ما يكتب، بالمغرب، عن عبقرية اللغة العربية وعظمتها وسبقها وسموها وتفوقها على جميع اللغات الأخرى، يخيّل لنا أن هذه اللغة لا تحتاج إلى حماية ولا عناية ولا تنمية لأنها في غنى عن مثل هذه الإجراءات الداعمة، التي تحتاجها في الحقيقة اللغات الضعيفة وليس لغة قوية وعظيمة وخالدة كالعربية.
لنقرأ بعض ما يكتب عن عبقرية وعظمة هذه اللغة:
ـ فـ«المتأمل في اللغة العربية يجدها لغة لها ما لا يتوفر في غيرها من اللغات العالمية الأخرى من ميزات تجعلها لغة مستمرة في الوجود الإنساني زمانا ومكانا»، «لأنها اللغة التي تكلم بها الله». فهي «لغة بيولوجية تتناسل وتتوالد لتضمن استمراريتها في الوجود ليس الإنساني فحسب، وإنما الوجود بمفهومه العام» (إسماعيلي علوي: “اللغة العربية لغة بيولوجية ووجودية”، يومية المساء بتاريخ 11 ـ 12 ـ 2012). «إنّ اللغة العربية هي الوحيدة التي تستحق أن تعتبر اللغة الإنسانية بامتياز». (إسماعيلي علوي: “لهذه الأسباب ..العربية لغة قوية ويستحيل أن تفنى”، يومية المساء بتاريخ 18 ـ 12 ـ 2012).
ـ «اللغة العربية أخصب لغة فوق الأرض» (الهادي بريك، “بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية”، موقع “هسبريس” بتاريخ 19 دجنبر 2012).
ـ هذا اللسان العربي المرشح «لأن يصبح لغة عملاقة في مستوى المجرة اللغوية العالمية، بين اللغات الخمس الأكثر استعمالا في العالم»، وهو لسان «رسمي في 22 دولة عربية وفي 3 دول غير عربية (هي إسرائيل وإريتريا وتشاد)، وهو رسمي في المنظمات الدولية (مثل منظمة الأمم المتحدة واليونسكو ومنظمة التجارة العالمية، إلخ)؛ وهو لسان ما يزيد على 350 مليون متكلم في الأرض العربية، وأزيد من مائة مليون فطري وغير فطري في القارات المختلفة» (عبد القادر الفاسي الفهري،” اللغة العربية في الدستور المغربي الجديد: أنموذج سياسي-لغوي للعدالة والوحدة في التنوع“، يومية “المساء” بتاريخ 22 ـ 23 دجنبر 2012)
ـ «وهي لغة يكلمنا الله بها يوم القيامة» (الشيخ عبد الله النهاري في فيديو له منشور على موقع “يوتوب”).
لكن من جهة أخرى:
ـ هناك دعوات إلى «السعي الجاد لاتخاذ سياسات عربية ملزمة، تهدف إلى إعلاء شأن العربية في التداول والتعليم، وإعادة الاعتبار إليها من خلال مبادرات تشريعية وثقافية وتربوية واجتماعية وإعلامية ترعاها الحكومات العربية، توجيهاً وتمويلاً.» لأن «هناك استهدافا وهجوما على العربية تارة باسم الخصوصية الوطنية وتارة باسم العصرنة والحداثة، لكنها تشترك في النيل من مكانة لغة الضاد» (الأستاذ فؤاد بوعلي في حوار له منشور بموقع “هِسبريس” بتاريخ 18 دجنبر 2012 ).
ـ «يكون من الخير، والعالم اليوم يحتفل بلغة الضاد، أن يهدي الله أصحاب القرار إلى تطبيق القوانين والتشريعات الخاصة باللغة العربية، حفاظا على كرامة المواطن المغربي، وإحقاقا لحقوقه اللغوية» (عبد القادر الفاسي الفهري، “اللغة العربية في الدستور المغربي الجديد: أنموذج سياسي-لغوي للعدالة والوحدة في التنوع“، يومية المساء، عدد 22 ـ 23 دجنبر 2012).
ـ «هل سمعنا عن بلاغ يدين ما آلت إليه اللغة العربية من تدن وتشرذم ودونية وتحقير متعمد في بعض الأحيان؟» (موسى الشامي، “اللغة العربية وحمايتها”، موقع “هسبريس”، بتاريخ 29 دجنبر 2012)
ـ كما أن هناك جمعيات حاصة بالدفاع عن اللغة العربية (“الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية” و”الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية” الذي أعلن من ميلاده يوم السبت 22 دجنبر 2012)، وهو ما يعني أن وضع اللغة العربية ليس على ما يرام، كما أكدت ذلك رسالة “الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية” التي بعثت بها، في 2009، إلى الوزير الأول عباس الفاسي تطالبه فيها بإيلاء حكومته كل العناية باللغة العربية وإحلالها المكانة اللائقة التي تستحقها كلغة رسمية للبلاد، واصفة ما تعرفه هذه اللغة من تهميش بـ«الوضعية المزرية للغة العربية ببلادنا».
ـ وبالإضافة إلى إنشاء أكاديمية محمد السادس للغة العربية في 2003، ينص الدستور على أن الدولة ستعمل على حماية وتطوير اللغة العربية، وتنمية استعمالها (الفقرة الثانية من الفصل الخامس).
ما هذه المفارقة إذن؟ فهناك من جهة لغة عربية هي أفضل اللغات وأسماها وأرقاها وأحبّها إلى الله الذي اختارها ليتكلم بها، لكنها من جهة أخرى تعيش وضعا مترديا وبئيسا تحتاج معه إلى رعاية وحماية وتنمية.
إنها حقا مفارقة أن تكون «اللغة التي تكلم بها الله»، والتي هي «أخصب لغة فوق الأرض»، والتي وحدها «تستحق أن تعتبر اللغة الإنسانية بامتياز»، و«التي هي لغة يكلمنا به الله يوم القيامة»، (أن تكون) في حاجة إلى حماية دستورية، وإلى جمعيات تدافع عنها، وإلى أكاديمية تنهض بها، كأنها لغة ضعيفة وقاصرة ومهددة بالموت والفناء، لهذا فهي تحتاج إلى العناية المركزة لإبقائها حية من خلال توفير تنفس اصطناعي لها.
إنها حقا مفارقة لأن لغة تعتبر لسان الله الذي سيكلمنا به يوم القيامة، يُفترض أن كل الشعوب ستتسابق، وبشكل تلقائي، على تعلمها وإتقانها استعدادا لفهم كلام ربها الذي سيخاطبها بهذه اللغة يوم الحساب.
إنها حقا مفارقة لأن لغة قوية وسامية وراقية ومتقدمة مثل العربية، يُفترض أن تتهافت كل أمم الدنيا على تعلمها وإتقانها واستعمالها لتؤهل نفسها لتكون قوية وسامية وراقية ومتقدمة.
إنها حقا مفارقة لأن لغة في مثل قوة وعظمة وتفوق وعبقرية وسمو وألوهية (اللغة التي اختارها الله ليتكلم بها) العربية، لن تكون في حاجة إلى أحد لدعمها وحمايتها، لأن الجميع سيكونون، أفرادا ودولا وشعوبا، في حاجة إلى هذه اللغة، لا يألون جهدا من أجل تعلمها وتملّكها.
إنها حقا مفارقة لأن اللغة العربية، لو كانت في مثل هذا المستوى من القوة والعظمة والتفوق والعبقرية والسمو والألوهية، لكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد استولت عليها واستغلتها وجعلت منها لغة لها، كعادتها في الاستيلاء على كل ما هو مفيد ونافع في العالم، واستغلاله والاستئثار به. فلماذا إذن استغلت بترول العرب ولم تستغل لغة العرب التي تتوفر هي كذلك على الكثير من الخيرات والمزايا التي تنفرد بها وحدها؟
إنها حقا مفارقة أن لغة بهذه القوة والعظمة والتفوق والعبقرية والسمو والألوهية، لم يستطع أصحابها العرب أن ينتجوا بها، في العصر الحديث، لا اختراعا علميا ولا اكتشافا تكنولوجيا ولا علاجا طبيا ولا آلة صناعية ولا جهازا إلكترونيا…، ولا أي شيء مفيد للإنسان وللإنسانية جمعاء، على غرار أصحاب لغات أخرى، كالصينيين واليابانيين والكوريين والألمان…، لا تتوفر على نفس القوة والعظمة والتفوق والعبقرية والسمو والألوهية، المنسوبة إلى العربية.
إنها حقا مفارقة أن لغة بهذه القوة والعظمة والتفوق والعبقرية والسمو والألوهية، ليست هي اللغة الأولى للعلم، والمعرفة، ومختبرات البحث، والتكنولوجية المتقدمة، والاقتصاد، والمال والأعمال…
إنها حقا مفارقة أن لغة بهذه القوة والعظمة والتفوق والعبقرية والسمو والألوهية، لا يستعملها أحد للتخاطب والتواصل في الحياة اليومية.
إنها حقا مفارقة أن لغة بهذه القوة والعظمة والتفوق والعبقرية والسمو والألوهية، يكاد يتخلى عنها ويهجرها أصحابها العرب، المعنيون الأولون بها.
عندما نقارن بين ما ينسب إلى العربية من فضل وقوة وعظمة وتفوق وعبقرية وسمو وألوهية، وبين وضعها المزري الذي لا تحسد عليه، كما يؤكد ذلك وجود جمعيات وفعاليات تدافع عن العربية وتطالب بالنهوض بها ورد الاعتبار لها ووضع حدّ لتهميشها على حساب اللغة الفرنسية التي تحتل بالمغرب مكانة اللغة الرسمية الحقيقية عمليا، تتملكنا الشفقة على هؤلاء المدّاحين النافخين في اللغة العربية التي يرفعونها إلى أعلى عليين إلى ردجه “تأليهها” كلغة الرب التي يخاطبنا بها يوم القيامة.
فاللافت أن هؤلاء العشاق الهائمين باللغة العربية، رغم كثرتهم وإمكاناتهم الهائلة التي تأتي على رأسها دولة “عربية” بالمغرب، فرضت سياسة التعريب منذ الاستقلال تعبيرا منها ـ كما تدعي ـ عن هذا العشق والهيام بـ”معشوقتها” العربية، لم يستطيعوا جميعهم إنقاذ “معشوقتهم” من العنوسة والبوار اللذيْن تعيشهما في المغرب، مقارنة باللغة الفرنسية التي تتزايد يوما بعد يوم أعداد خطابها وطالبيها والراغبين فيها. وهذه حالة شاذة وفريدة، إذ المعروف أن المعشوقات يتزوجن في سن مبكرة لكثرة العشاق والمغرمين. فلماذا عنست العربية رغم كثرة عشاقها والمغرمين بها، ورغم وجود دولة عاشقة لها أعلنت منذ الاستقلال حبها الكبير للعربية، وهو الحب الذي تجسده وتعبر عنه سياسة التعريب؟
لأن كل هؤلاء الذين يدعون عشق العربية، دولة وأفرادا، ما هم في الحقيقة إلا منافقين وانتهازيين من النوع الرديء، يستغلونها لأهداف إيديولوجية وسياسوية وشعبوية، فيتغنون بقوتها وعظمتها وتفوقها وعبقريتها وسموها وألوهيتها، وينظمون كلاما منمقا في وصف محاسنها والتغزل بمفاتنها وجمالها، تماما كما يفعل أي “خليل” مع عشيقته عندما يخادعها بمعسول الإطراء وبديع الثناء حتى يستمر في استغلالها وقضاء أوقات متعة معها.
هؤلاء العشاق للعربية يتعاملون معها إذن كرفيقة للمتعة Escort-girl (السياسوية والإيديولوجية والشعبوية) يستعملونها كمجرد وسيلة يقضون بها بعض مآربهم السياسوية والإيديولوجية والشعبوية. والدليل على أنهم يعاملونها كمجرد عشيقة ورفيقة للمتعة أن لا أحد من هؤلاء العشاق الكثيرين يرغب في الزواج منها كبرهان على صدق عشقه لها. لأن العاشق الحقيقي والصادق هو الذي يكون مستعدا للتضحية بكل شيء من أجل الزواج من محبوبته. هؤلاء العشاق للعربية لا يريدون إذن أن تكون معشوقتهم العربية أمّا لأبنائهم، لأنهم مقتنعون في قرارة أنفسهم أنها “غير صالحة” لذلك، وإنما هي صالحة فقط للعب دور رفيقة المتعة. لهذا فهم يفضلون عنها لغات أخرى ليكنّ أمهات لأولادهم بدل معشوقتهم العربية.
هذا التعامل مع العربية، كمجرد خليلة ورفيقة للمتعة السياسوية والإيديولوجية والشعبوية، يكشف عن:
ـ قمة النفاق والانتهازية لدى كل هؤلاء المعلنين لعشقهم المزعوم للعربية.
ـ قمة ازدرائهم للعربية التي يفضلون عنها لغات أخرى عندما يتعلق الأمر باختيار اللغة الأنفع والأصلح لأولادهم، وهو ما أبقى العربية لغة عانسة لا يرغب أي من عشاقها في الزواج منها لتكون أمّا لأولاده.
هؤلاء المنافقون الانتهازيون والمزدرون للعربية هم أعداؤها الحقيقيون (انظر مقال “الأعداء الحقيقيون للغة العربية” على الرابط: http://tawiza.x10.mx/Tawiza152/arabe.htm)، لأنهم يتعاملون معها، ليس كلغة لها حدودها ومشاكلها ونواقصها، وإنما كإيديولوجيا للاستغلال والاستثمار الظرفي، السياسوي والإيديولوجي. ولهذا فهم لا يتورعون عن الكذب عنها وعنا عندما يقولون بأن العربية هي أعظم لغة، في الوقت الذي تعيش فيه وضعا متخلفا ومزريا يجعل منها لغة شبه معاقة، عاجزة وبئيسة. ما يهمهم في الحقيقة من اللغة العربية هو أن تبقى دائما لغة “مظلومة” و”مستهدَفة” حتى يستمروا في “الدفاع” عنها دائما، وهو ما يدرّ عليهم “ريعا” إيديولوجيا ـ وحتى اقتصاديا ـ سهلا ومضمونا.
وقد كانت “الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية” واضحة في اعترافها بهذا “الريع اللغوي” الذي تريد الاستئثار به وحدها، رافضة اقتسامه مع جمعيات ريعية أخرى، كما تُفصح عن ذلك في بلاغها الذي أصدرته يوم 20 دجنبر 2012، بمناسبة إنشاء “الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية” (هيئة ريعية أخرى جديدة)، الذي رأت فيه تهديدا “لريعها” الذي ظلت تستفيد منه وحدها دون أي منافس. تقول في هذا البلاغ: «ولكن الجمعية المغربية لحماية اللغة لن تنخرط أبدا في أي مشروع تتبناه عناصر كانت وما زالت تحاول امتطاء قضية اللغة العربية لتحقيق بعض المآرب الشخصية بتهافتها المرضي على مواقع داخل مؤسسات تنوي الدولة إنشاءها في أفق “ترشيد” الحقل اللغوي ببلادنا».
إن الحماية الحقيقية، المستعجلة، التي تحتاجها اللغة العربية هي حمايتها من هؤلاء الريعيين الانتهازيين الذين يسيئون إليها ويضعفونها عندما يطلبون منها، حتى يظهروا كمدافعين عنها وعاشقين لها، أن تعطي ما لا تملك، وتقوم بما لا تطيق، وتنجز ما لا تستطيع، وتستعمل في كل مجالات الحياة، مثل الإنجليزية والصينية والكورية والفرنسية والإسبانية والفارسية والتركية… وهنا تظهر العربية ضعيفة، عاجزة وقاصرة ومتخلفة، لأنها فقدت إحدى الوظائف الأساسية لحياة اللغة، وهي وظيفة التخاطب الشفوي في الحياة، وهو ما أصبحت معه لغة مقصورة ـ ومحصورة في ـ على الاستعمال الكتابي فقط. فقدانها لهذه الوظيفة، لأسباب تاريخية معروفة، جعل منها لغة لا تملك نفس القدرات التي تملكها لغات تستعمل في التواصل الشفوي فضلا عن الاستعمال الكتابي.
إنه من المستحيل إذن أن تقوم العربية بالوظائف التي لا تملك القدرات الضرورية للقيام بها. وهذا ما يستغله عشاقها الريعيون ليصيحوا: إن العربية “مظلومة” و”مستهدفة”، ويطالبوا برفع هذا “الظلم” عنها ووقف ” استهدافها”؛ فتتحول إلى “أسيرة” لديهم، يمارسون عبرها الابتزاز على الأمازيغية، ويستديمون بها “الريع” الذي يجنونه بدفاعهم الانتهازي عنها وعشقهم المزعوم لها، والذي هو في الحقيقة عشق لهذا “الريع” وليس للعربية المفترى عنها.
إن الدفاع عن العربية يبدأ بتحريرها من الأسر الذي وضعها فيه هؤلاء العشاق المزيفون، وذلك بالتعامل معها بواقعية بناء على قدراتها التي تتيحها لها وظائفها الكتابية، التي لا تسمح لها باقتحام كل المجالات وأداء كل الوظائف كما لو كانت لغة تستعمل في التخاطب الشفوي بجانب الاستعمال الكتابي.
كاتب ومفكر وباحث ومناضل أمازيغي منحدر من منطقة الريف ومدير نشر جريدة تاويزا. ألف العديد من الكتب والمقالات التنويرية القيمة