الراحل عموري مبارك: تجربة فنية رائدة – الخطاب الشعري الملتزم في اٍطار التحديث الموسيقي
عندما توفي الرايس الحاج محمد الدمسيري حزن عشاق الفن الأمازيغي الأصيل والملتزم، وقالوا: ” الحاج محمد الدمسيري فنان متميز، وسوف لن يجود الزمان بمثلـــه «، وعنما توفي عموري مبارك، حزن عشاق الفن الأمازيغي الراقي والملتزم وقالوا: «عموري مبارك فنان متميز، وسوف لن يجود الزمان بمثله «، فهل أصاب الناس رأيهم في هذين الفنانين؟ أم أن الفن لايزال بخير والساحة مليئة بالفنانين المتألقين الذي يضاهون هذيــــن الفنانين؟ وهل يستقيم الشبه بين هذين الفنانين؟
أعتقد أن كلام الناس في هذا الاٍتجاه صحيح، لماذا؟ أولا لأن السياق الذي ظهر فيه هذين الفنانين مختلف عن السياق الراهن، والظروف التي عاشها هذين الفنانين غير الظـــروف الحالية، واٍن كنت أود أن أخصص هذه الورقة للفنان الراحل عموري مبارك، مـــــــــع الاٍعتراف بأن الفنان الراحل الرايس محمد الدمسيري يحتاج بدوره لأكثر من وقفة تأمل في مســــــــــاره وغنائه والظروف المحيطة بإبداعه، ولابد من الاٍعتراف هنا بأن المدرستين مختلفــــين بشكل جذري، لكن مع تسجيل أن كلا التجربتين تعتبران رائدتين، ولونتا الساحة الفنية الأمازيغية بألوان جميلة لن يمحوها الزمن ، كونهما ينهلان معا من نفس المعين الذي هو مدرسة الروايس مع تسجيل الاٍختلاف في المسار والمنحى والمآل طبعا ، ثم كونهما عاشا نفس الظروف الاٍجتماعية تقريبا ، وانخراطهما غير المشروط في القضايا الاٍجتماعية والثقافية والسياسية للمجتمع .
لا أريد أن أجري مقارنة بين الحاج محمد الدمسيري وعموري مبارك ، فالأول ينتمــــــي لمدرسة الروايس ، وهي مدرسة لها أليات اشتغال خاصة ، والثاني ينتمي الى جيــــــــــل المجددين ، أو اذا شئنا الاٍلتزام بالموضوعية ، فهو ينتمي الى المجموعات العصرية التي ظهرت في أواخر السبعينيات من القرن الماضي ، وقد بدأ مشواره كما هو معلوم مـــــــع مجموعة سوس فايف – Sous FIVE ثم مع مجموعة أوسمان- Ousmane فيما بعد ، وضمن هذا السياق أنشأ عموري مبارك مدرسته الخاصة به ، ألا وهي مدرسة الاٍلتزام والتجديد والعصرنة ، فكــــــــــيف استطاع هذا الفنان المتميز أن يمزج بين الاٍلتزام والألحان الجميلة والأداء الراقي والخـــط العصري التحديثي ضمن مسار مليئ بالعقبات والتحديات والعراقيل ؟
هذا الفنان وكما سبقت الاٍشارة الى ذلك ظهر في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، وهي فترة يمكن اعتبارها مرحلة صعبة جدا، لماذا؟
اٍنه بالرغم من ظهور العديد من المجموعات في تلك الفترة كما يعرف المتتبعون والمهتمون ( ازماز – ازنزارن – أرشاش – لاقدام – لعشرت وانزا – أوسمان – ايكيدار…الخ ) ، غير أن الملاحظ أن أغلبهــــا لم يتسنى لها الاٍستمرار في الساحة الفنية ولهذا فقد اختفت بسرعة البرق ، فهي بقدرمــــــا حققت نجاحا باهرا ، وانتشارا واسعا في أوساط الشباب وعشاق أغاني المجـموعـــــات بقدرما أختفت بسرعة كذلك ، والسبب يتمثل في كون الذوق الأمازيغي في تلك الفـــترة لايزال مرتبطا الى حد كبير بتقاليد مدرسة الروايس وتقاليد أسايس أو أحواش ، وليس من السهل أن يتم اختراق الأذن المتذوقة لهذين النمطين الفنيين بسهولة ، أضف الى ذلك أن الثقافة الفنية السائدة آنذاك كانت محافظة جدا ، ومنغلقة على نفسها ، ولايروق لها ان يتم الاٍنزياح عن المألوف في فن الروايس وتقاليد أحواش ، وسنعرف صحة هذا الرأي عندما ننصت الى هذا المقطع من أغنية الرايس عبد الله بن ادريس المزوضي اٍذ يقول :
Ifoughd izenzar d usman ighama igguig
Ad ifhgh aysker lawtar ness ar itl3ab
Ngh-agh kulu yut acku nfough lmoudou3
ورغم ذلك فقد استطاع الفنان عموري مبارك، أن يشق طريقه بكل عزيمة واٍصرار فــي ذرب فني لم يكن أبدا مفروشا بالورود، ولكن عشق اللحن الجميل والكلمة الهادفة كانــت بمثابة قوة الدفع الأساسية التي جعلت الفنان يضحي بكل شيء من أجل شيء واحد فحســب، ألا وهو الأغنية الأمازيغية العصرية الملتزمة.
فاٍذا قلنا بأن الفنان عموري مبارك فنان متميز ، فهذا الكلام ليس من باب المجاملــــــــــة المجانية ، وليس من باب الكلام غير الموضوعي ، بل لكونه متميز بكل ما تحمل الكلمـــة من معنى ، وهذا يعني أنه لا يستحق فقط بعض كلمات الاٍطراء في حقه ، بل يستحق أن تعمق البحوث في فنه ، وتنشأ الجوائز في سبيل المحافظة على نهجه الغنائي في أفـــــق المحافظة عليه و تطويره ، وأريد أن أفتح هنا قوسا بالمناسبة للقول بأن هذا الفنان لم يلق قيد حياته أي اهتمام من أية جهة رسمية كانت أو غير رسمية ، ولم يتم الاٍحتفاء بفنــــــه سوى من طرف فئة قليلة جدا من المتذوقين غير العاديين للموسيقى الأمازيغية الحديثــــة ، ولابد من الاٍعتراف هنا بأنه عاش غريبا بين ظهراني أهله وعشيرته ، وتنكر له الجميع حتى من أقرب المقربين اليه ، فعاش حياة قاسية جدا ، أدت به الى الاٍنطواء على النفس ، خاصة تلك الصدمة التي تعرض لها عندما تنكرت له اللجنة المنظمة للجائزة الوطنـــــــية للموسيقى المغربية ، بحيث بالرغم من حصوله على الجائزة الثانية اٍلا أنه لم يتســــــلم الجائزة ، ما أشعره بنوع من الغبن وأزم نفسيته بشكل عميق ، كما لم يحظ هذا الفنــــــان طيلة حياته بأي اهتمام من وسائل الاٍعلام الوطنية ولا بأي تقدير من طرف جمعيــــات المجتمع المدني ، وكذلك من طرف مؤسسة ليركام – IRCAM التي كان من المأمول فيها أن تقـــــوم بتكريمه واٍنشاء مدرسة لتطوير فنه والتعريف به وطنيا وأجنبيا ، واٍنشاء جوائز باسمــه ، ولم يحظ ببعض الاٍلتفات اٍلا في أواخر حياته ، وبعد مماته ، ولازلت أتذكر آخر سهرة له بمدينة تارودانت في صيف سنة 2013 ، كيف كان يحاول أن يتواصل مع الجمهور ، في حين لم يبدي هــــــــذا الأخير أدنى تجاوب مع أنه من أبناء هذه المدينة العتيقة ، وكأنه أمام فنان يغني بلغة غير مفهومة مع أن الفن هو لغة عالمية كما يقال ، وعلى الرغم من كون مدينة تارودانت كانت هي مهد صباه ومنطلقه نحو العالم الفن الفسيح ، كان الجمهور الذي حضر السهرة باردا جدا ، ساهما وناكرا للجميل ، ما أشعرني بنوع من الحسرة والألم ، اللهم من بعض الشباب الذين كانوا يهتفون بأغانيه تشجيعا له ، الشيء الذي يعطي الاٍنطباع على أن الذوق الأمازيغي لايزال في طور التقليد ولم يرق بعد الى طور الاٍبداع والتحديث ، كما أن ثمة جهات معينــــة تعمل على تكريس هذا الجمود الفني المتكلس.
فأين اذن تتجلى ملامح التميز في فن عموري مبارك؟
يمكن اجمال ما يميز موسيقى الفنان عموري مبارك، في تلاث مستويات هي:
1-الالتزام بالمقام الخماسي
2-التوزيع الموسيقى
3-القصيدة الملتزمة
1-الاٍلتزام بالمقام الخماسي:
تتميز الموسيقى الأمازيغية في منطقة سوس عموما باندراجها ضمن التقسيم الموسيـــقى الذي أطلق عليه المختصون في علم الموسيقى ب { المقام الخماسي } ، وهي تشبه في ذلك بعض الأنماط الموسيقية سواء في المغرب ، مثل الموسيقى الحسانية ، أو خارج المغرب مثل موسيقى الطوارق في النيجر ومالي وبوركينافاصو و السودان واٍريتريا أو القــــــرن الاٍفريقي عموما ، كما تشبه بعض الأنماط الموسيقية في آسيا مثل الموسيقى الصينيـــــــة واليابانية و موسيقى الشعوب المنغولية …الخ وتجدر الاٍشارة الى أن موسيقى قبائل هوارة تأثرت بالمقام الخماسي بحكم تواجد منطقة هوارة في قلب منطقة سوس أولا ، ثم لكون قبائل هوارة من القبائل الأمازيغية التي استعربت ثانيا ، والمقام الخماسي الذي طبـــــــــع الأغنية الأمازيغية في سوس بخلاف منطقتي الأطلس والريف ، له علاقة بالذوق العام في المنطقة ، ومرتبط بفن الروايس وأغاني الأعراس وأهازيج النساء في البوادي وتلاحـــين قصائد أحواش ومزامير الرعاة وتلاحين الصوفية ( تفقيرين – افقيرن ) وكذلك تلاحــين حفاظ القرآن في المداشر ، خاصة القراء بطريقة ورش ، وكذلك المداحون ، أي الذيـــــن يتغنون بالأمداح الدينية …الخ اذن المقام الخماسي متغلغل في اللاشعور الجمعي لسكـــان منطقة سوس ومرتبط بثقافتهم وتقاليدهم وله جذور أنثروبولوجية في الثقافة المحلية لساكنة سوس كمجموعة بشرية أمازيغية ذات سمات متميزة ، هذه الأمور لا يمكن أن ينتبه الـــى مدى اختلافها اٍلا شخص ذي أذن استثنائية وذوق متميز مثل عموري مبارك ، وعــــلاوة على كونه ولد ونشأ في البادية ( دوار امز غالن بقبيلة اركيتن ) ، فاٍن هذا الخليط الفــني الأنثروبولوجي ، اٍمتزج في ذاكرته ، ونتج عنه في النهاية نوع من الشغف العميق بتلك التلاحين التي تنهل من المقام الخماسي ، وكون عموري ابن البادية كما أسلفت ، أضاف الى مخياله ذلك الثراث الغزير من الألحان الموجودة في اغاني الروايس القدامى ، يمكن للشخص المتذوق لفن الروايس أن يلمسها في أغانيه ، هذه الميزة حتمت على الفنان عموري أن يبقى وفيا و عاشقا للمقام الخماسي وأن يبدع فيه ، وهذا لا يعني أنه يؤدي تلك التلاحين بدون أن يضفي عليها تلك المسحة الخاصة به ، بل على العكس ، فإننا نجد أن الألحان التي غناها عموري تنهل كلها من المقام الخماسي ومن ذلك الركام الغزير من الثراث والمتمثل في الألحان التراثية القديمة جدا ، والموغلة في القدم ، خاصة ألحان الروايس القدامى والألحان التي تؤدى في الرقصات الجماعية التي تسمى ” أحواش ” ، لكن بنوع مــــن العصرنة والتجديد ، بحيث يشعر المستمع الناقد والمتذوق أن اللحن المؤدى قديم جدا ، أو عندما يستمع للقطعة الموسيقية لأول وهلة يشعر وكأنه سمع هذا اللحن في مكان ما وزمن ما ، ولكنه ممزوج بنكهة عصرية ، الأمر أشبه بطبق لذيذ فيه نكهات عصرية مختلفة لكن النكهة الأصلية باقية ومؤثرة ولايمكن أن يغفلها المتذوق ، فهو لا يقوم بخلق الألحان الجديدة مثلما يفعل الروايس بل يشتغل على التحف الفنية القديمة مثل الصانـــع التقليدي ويرصعها بالجواهر و اللآلئ حتى تشع لمعانا وجمالا ، وحتى تأخـــــــذ أذن المستمع نحو أقاصي الطرب وجميل اللحن ، واستعمال القيثارة لا يؤثر بطبيعة الحــال على هذه النكهة الأصلية بل يضفي عليها نكهة عصرية فيمتزج ذلك كله في قالب جمالي نادر ومتميز ، وبحكم أن القيثارة في الغالب تستعمل لأداء المقامات المنتمية الى التيارات الموسيقية الحديثة أو الغربية بشكل خاص ، فاٍن تلك المقامات الحديثة تمتزج بالمقامات الأمازيغية التراثية ، فتضفي عليها نوعا من الاٍبداع الأصيل ، بمعنى أن المقام الخماسي يظل هو القاعدة الذهبية التي لايخرقها الفنان ، ولا ينحرف عنها ، بل تظل حاضرة في لا شعوره ، ويترجمها الى ألحان عصرية في الظاهر لكنها عتيقة في العمق ، هـــــــذه الأخيرة تتردد مثل رجع الصدى في الزمن البعيد والسحيق ، ثم تعود الى زماننا بشــكل عصري ولافت ، فكيف يقوم الفنان بهذه العملية المعقدة جدا ، والمتمثلة في مزج النكهات القديمة بالجديدة لاستخراج نكهة أخرى تبدو عصرية في الظاهر لكنها قديمة وخالدة فــي العمق ؟
2-التوزيع الموسيقى:
اٍن ما يميز الفنان الراحل عن أغلب الفنانين المعاصرين بالإضافة الى جودة اللــــــــحن وارتباطه بالمقام الخماسي هو تلك الطريقة التي يقوم فيها بمزج تلك العناصر الموسيقية مع بعضها البعض ، مثل نحلة تأخذ من كل الزهرات رحيقا مختلفا في المذاق لتحوله الى شهد من العسل اللذيذ ذي مذاق بنكهات مختلفة ومندمجة ، وهذه العملية تحتــــــاج الـى شخص مبدع ومتذوق ورهيف الاٍحساس ، اٍنها عملية أشبه بمزج العناصر في المختبر للحصول على مادة معينة ذات جودة عالية ، والاٍشتغال في المختبر يحتاج الى كثير من الذكاء والى كثير من الصبر ولكن الى كثير من الصنعة والاٍبداع أيضا ، هذه العمليـــة تسمى عند الموسيقيين ب { التوزيع الموسيقي } ، فماهو التوزيع الموسيقي ؟
التوزيع الموسيقي مرتبط بالمجال الموسيقي بالدرجة الأولى ، وبمجال الهندسة الصوتية في المقام الثاني ، فمن حيث المجال الموسيقي ، التوزيع يكون مسؤولا عن التحكم فـــي الآلات الموسيقية واستعمالها في نطاق دورها المختص بمعنى أن القيثارة تستعمل فــي مقطع ثم تصمت ويستعمل الرباب في مقطع ثم يصمت ويستعمل اللورغ في مقطع ثـــم يصمت ….الخ ، بالإضافة الى الباص والاٍيقاع و الصولوهات والتوافقات الموسيقية وكل توابعها حتــــــى بخصوص عدد مرات اٍعادة المقطع وتدخل الكورال …الخ ، ومن حيث الهندسة الصوتية ، الحصول على صوت بنقاء عالي وجودة عالية مع استعمال المؤثرات التي تساعد بشكل كبير على ايصال الطابع والتعبير الموسيقي بشكل أفضل ، اٍذن نحن هنا لسنــــــــا ازاء طريقة تقليدية في الغناء الأمازيغي والتي تتمثل في العزف الرتيب بالآلات التقليدية ( الرباب – لوتار – الناقوس ) على النمط المستقيم والغناء ضمن لحن واحد وانتظـــــــار ترديد الكورال لمعاودة الغناء من جديد ، بل نحن ازاء نوع من التحديث المرتبــــــــــط بالمعرفة الموسيقية ، بمعنى أن الذي يريد أن يشتغل وفق هذا النمط الحديث عليــــــــه أن يدرس الموسيقى أولا بمعنى عليه أن يدرس الصولفيج ، لقد انتقلنا من الموسيقــــــــــى التقليدية التي تؤدى بطرق عادية جدا ليس فيها تقنيات حديثة الى مجال الأغنية العصرية والحديثة والمدروسة بعناية فائقة ، وهذا الأمر ليس بالأمر السهل والمتاح ، خاصـــــــة بخصوص الأغنية الأمازيغية في السبعينيات ، حينئذ لم تكن استوديوهات التسجيل منتشرة بكثرة ، ولم تكن التقنيات العصرية مثل الميكساج والمونتاج والمؤثرات الصوتية وكـــــذا الآلات العصرية قد ظهرت ، ولم يدرس أحد من الروايس القدامى للصولفيج ، بل كــــان فن الروايس ينتقل من جيل الى جيل عن طريق الصنعة والحرفية ، بحيث يتعلم المتعلـــم من المعلم فيصبح بدوره معلما وهكذا دواليك ، لكن مع تجربة أوسمان أولا ثم مــــــــع عموري في النهاية ، صارت الموسيقى الأمازيغية توظف تقنيات حديثة انطلاقا مـــــــن دراسة قام بها أفراد المجموعة للصولفيج ، والكل يعلم أن بعض أفراد المجموعة مـــــثل بلعيد العكاف وسعيد بوتروفين كانوا أساتذة في المعهد الموسيقي ، لهذا فعموري مبارك وانطلاقا من تحربته الأولى مع سوس فايف وكذلك تجربته الثانية مع أوسمان أستطاع أن ينفتح على الموسيقى الكونية من حيث كونها ليست مجرد ألحان وغناء وأداء ، بل مـــن حيث كونها تعتمد على المعرفة والدراسة والعلم ، وقد عزز من هذا التوجه تلك الرغبـــة الملحة الكامنة في وعي الفنان بضرورة الاٍنتقال بالأغنية الأمازيغية من طور التقليد الـــى طور التجديد والتحديث ، بل اٍن الأساس الذي كانت تعتمد عليه تجربة أوسمان كان يتمثل في الاٍنتقال بالأغنية الأمازيغية من الطابع المحلي الى العالمية ، ويتجلى ذلك فــــــي تلك المقدمة التي كان يفتتح بها الفنان عموري مبارك ، سهرات مجموعة أوسمان، باعتبــاره المايسترو الذي يؤدي الأغاني في المجموعة ، ألا وهي :
” La musique est un arbre qui se nourrit de l’art populaire patrimoine et qui se respire par les courants de la musique moderne «.
ومعنى هذه القولة:
” الموسيقى شجرة تتغذى من التراث الشعبي والأصيل وتستنشق هواءها من التيارات الموسيقية الحديثة “
هذه هي القاعدة الذهبية التي ترتكز عليها مجموعة أوسمان في بناء تصور خاص بهــــا للأغنية الأمازيغية الحديثة، والتي تنشد فتح الأفق الرحب نحو الاٍنتشار الأوسع فـــــــي رحاب العالمية، والاٍنطلاق نحو الاٍبداع الذي لا يعرف الحدود الجغرافية والاٍقليمية نحو المشاركة والمساهمة في الثراث الاٍنساني من بوثقة الخصوصية، مع ضرورة الاٍشارة اٍلى أن الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي احتضنت المجموعة ولقحتها بهذا التصور للفن والموسيقى عموما ليس كإبداع فقط بل كرسالة والتزام.
وبعد الاٍنفصال عن المجموعة ، قام الفنان بتأسيس نهجه الخاص به ، وشق طريقه بكل عزيمة واٍصرار وسط أمواج متلاطمة من التحديات الماثلة والكبيرة ، ولم يثنه ذلك عن المضي قدما في ذرب الفن الذي اختاره منذ نعومة أظافره سلوكا ومنهج حياة ، لقد أختار أن يكون صعلوكا على أن يعيش حياة الترف والرغد ، وقد أتيح له ذلك ، لكنه مثل الأيل في أعالي جبال الأطلس ، استنشق عبير الحرية ، فلبى نداءها غير مبال بوعورة المسالك المؤدية اليها ، وغير آبه بالمراعي والمروج الخضراء اليانعة في البراري الشاسعة ، ووضع قيثارته على كتفه وقرر أن يخوض المغامرة، وأن يسير في ذربه ، وأن يواجه أمواج الحياة العاتية ، وحيدا ، أعزل ، بلا رفيق ولا صديق ، فقط القيثارة والألحان الجميلة ، والعزيمة الفولاذية ، على أن يؤسس مدرسة الفن الخالدة ، مدرسة عموري مبارك للفن الأمازيغي الجميل والحديث .
لقد أسس مدرسته الخاصة، والمتفردة، متشبثا بالمبادئ الرئيسية التي أراد أن تقوم عليها، والمتمثلة في المقام الخماسي والتوزيع الموسيقي والاٍندماج في العالمية والاٍلتزام بالقضية من خلال الكلمة الهادفة أو القصيدة الحديثة الملتزمة.
من كان يفكر في تقنية {الفيوزيون -Fusion} أنذالك ومن كان يعرفها أصلا؟ لقد كانت التجربة برمتها عبارة عن معركة رومنسية خاضها ذلك الفتى القادم من بادية اٍركيتن – IRGUITEN متسلحا بنظرة ثاقبة ترنو الى المستقبل بعين الاٍستشراف الذي يمكن نعته بذلك الاٍستشراف الاٍستراتيجي الذي يقوم به الخبراء ، استشراف مستقبل مشرف للأغنية الأمازيغية ينتشلها من واقع التهميش والتخلف والاٍزدراء والفلكرة والتقليد ، نحو شساعة الاٍبداع الراقي ورحابة التجربة الثقافية الاٍنسانية العميقة ، وفي ذلك الخضم الذي يحجب الرؤية انبلج فجر الفنان وانسل اليه خيط رفيع وأضاء ذربه ومنحه القوة للاستمرار في رفع التحدي ، وطرح أفكار الرجوع القهقرى من رأسه ، ذلك الخيط الرفيع كان هو نفحة الاٍلتزام التي عانقها الفنان منذ البداية لتحول مساره الفني الى ما يشبه التراجيديا الرومانسية الخالدة ، الاٍلتزام بالقضية ، وليست ككل القضايا ، اٍنها قضية الأرض والهوية والاٍنسان ، وهي بالفعل تراجيديا فنانين مبدعين وروحين سكنتا جسدا واحدا ، ألا وهو جسد الفنان الراحل عموري مبارك ، انها تراجيديا الشاعر المناضل الراحل علي صدقي أزايكو وتراجيديا الفنان المبدع الراحل عموري مبارك ، فكيف التقت هتين التراجيديتين وانصهرتا في جسد واحد ؟
3-القصيدة الملتزمة:
اٍن ما يميز الفنان الراحل عموري مبارك عن بقية الفنانين الأمازيغيين ، اٍضافة الى ما سبق ، هو ذلك الخطاب الشعري الملتزم والمتميز ، وهذا الخطاب من حيث هو خطاب فني بالدرجة الأولى ، بقدر ما يحمل رسالة ويود أن يوصلها الى من يهمه الأمر ، بقدر ما يشتغل في أفق انزياحه عن المألوف في التقاليد الشعرية الأمازيغية ، وكما هو معلوم ، فكلمة الرايس في اللغة الأمازيغية ، تعني الفنان الذي يكتب الكلمات أو على الأقل يسجلها في شريط اٍن كان لا يتقن الكتابة والقراءة ، ويحفظها عن ظهر قلب ، ثم يستظهرها عند الغناء ، وهو الذي يلحن الأغاني التي يؤديها ويعزف على آلة الرباب أو لوتار ، بالإضافة الى ترؤسه للفرقة الموسيقية التي تتكون في الغالب من الروايس العازفين على آلتي الرباب ولوتار وأصحاب الاٍيقاع خاصة الناقوس قبل أن تظهر آلة طام طام ، بالإضافة اٍلى الرايسات اللائي يرددن الكورال أو يرقصن …الخ ، غير أن انسياق الفنان الراحل مع موجة التحديث جعله يستغني هو وأغلب المجموعات الغنائية التي ظهرت في تلك الفترة التي ظهرت فيها مجموعة أوسمان ، عن هذه التقاليد الشعرية و الغنائية ، بحيث صار هنالك نوع من التخصص ، ما بين كاتب الكلمات والملحن والمغني أو المؤدي للقطعة الموسيقية ، على غرار ما هو معمول به في أغلب التجارب الغنائية الحديثة ، بحيث ليس الفنان الراحل هو من يكتب الكلمات بل يعتمد على قصائد مكتوبة من لدن شعراء مختصين ، والأمر الذي يشكل بؤرة التحديث في هذه العملية هو أن القصائد التي يلحنها ويغنيها الفنان الراحل ليست ككل القصائد ، بل هي نوع من القصائد المختلفة عن ما هو مألوف في قصائد الروايس ، الموسومة بالمباشرة والواقعية والخالية من أية شكل من أشكال وأساليب القصيدة الشعرية الحديثة ، هذه القصائد هي لشعراء اختاروا بدورهم الاٍلتزام بالقضية التي التزم بها الفنان الراحل.
اٍن تشكل الوعي بقضية الهوية لدى الفنان الراحل دفعه الى البحث عن المعين الأصلي لهذا الوعي ، فقاده البحث الى الاٍلتقاء بمجموعة من الشعراء الشباب الملتزمين في جمعية البحث والتبادل الثقافي ، منهم ابراهيم أخياط ومحمد مستاوي و أحمد عصيد و الراحل علي صدقي أزايكو، وهنا سيبدأ الفنان الراحل في صياغة ميثاقه الذي أبرمه مع القصيدة الأمازيغية الحديثة والملتزمة ، فكان الراحل علي صدقي أزايكو بمثابة العمود الأساسي الصلب لهذه التجربة ، وأسهم بقصائده المتميزة المأخوذة خاصة من ديوانيه ” تيميتار ” و ” اٍزمولن ” في اٍضفاء مسحة حداثية على أغاني الراحل عموري ، بالشكل الذي جعل منها أغاني تنزاح عن المألوف وتخلق فضاءها الخاص وجمهورها الخاص ، هذا الجمهور واٍن كان لايزال قليلا في ذلك الوقت ، بحيث لا يتكون فقط اٍلا من بعض المهتمين بالشأن الأمازيغي وبعض المثقفين وبعض الشباب الجامعي ، اٍلا أنه أستطاع أن يفرض نفسه بعد ذلك ، كأحد الداعمين الأوفياء لهذا التوجه الجديد والحديث في الأغنية الأمازيغية.
لقد غنى الفنان الراحل مجموعة من القصائد الشعرية الحديثة لمجموعة من الشعراء الملتزمين منهم: ابراهيم أخياط، محمد مستاوي، عمر أمرير، حسن اٍيد بلقاسم، أحمد بوزيد الكنساني، محمد واكرار ومحمد أوسوس وشعراء من الأطلس والريف، خاصة مع تجربة أوسمان، وبرجوعنا الى ريبرتوار الفنان سنجد قصائد مثل:
تغلاغالت – Taghlahgalt
التي كتبها ابراهيم أخياط؛
تازويت – Tazwit
أورتي ن اللوز – Urti n Luz
التي كتبها محمد مستاوي؛
أح أيمي ماني مي كيغ –Ah aymmi mani mmi gigh
أنو ن ئرافان – Anu n irafan
يوف يان ئكان أهياض – Yuf yan igan ahyad
أوال ئنو كان أمازيغ – Awal inu gan Amazigh
التي كتبها علي صدقي أزايكو؛
أس نا ئرا يان أيكرز – As nna ira yan aykerz
مقار د مقار- Mqqar d Mqqar
تا دوات أيكا وول – Tadwat ayga wul
التي كتبها أحمد بوزيد الكنساني؛
وأخيرا؛
أور داري يان Ur Dari Yan –
التي كتبها الشاعر الكبير محمد واكرار؛
وتاروا ن ؤ نفكو – Tarwa n Unfgu
التي كتبها الشاعر محمد أوسوس.
غير أن الميثاق الذي أبرمه مع القصيدة الملتزمة ، كان غليضا جدا مع الراحل علي صدقي أزايكو ، بحيث نجد أن نسبة القصائد التي غناها لهذا الشاعر مقارنة بالآخرين تكاد تكون الأوفر نصيبا ، ما يعني أن الفنان الراحل كان مأخوذا بأسلوب الشاعر الراحل ، من حيث انزياحه القوي نحو التحديث ، على مستوى عدة اوجه ، سواء من حيث جزالة الأسلوب أو جدة الكلمات أو حداثة الصور الشعرية ، الشيء الذي جعل أغلب المستمعين الأوفياء لقصائد الروايس لا يستسيغون هذا النمط الحديث من الشعر المغنى ، ما أدى الى نوع من الغرابة بالنسبة للفنان الراحل ، بحيث لا يقبل على أغانيه اٍلا نسبة قليلة جدا من العارفين بخبايا هذه القصائد الحديثة ، والذين يملكون وعيا ثقافيا يمكنهم من تذوق هذا الفن الذي لا يشبه ما هو مألوف في الساحة الفنية الأمازيغية من نواحي عديدة ، كما أن قصائد الراحل أزايكو ونظرا لاختراقها للعديد من القواعد الشعرية التقليدية وتجاوزها لكثير من المعتقدات التي كانت راسخة في أذهان الشعراء القدامى ، وسعيها الحثيث نحو تأسيس قواعد جديدة في الشعر الأمازيغي ، جعلها تبدو غريبة وغير مألوفة ، ما جعل من تلك المزاوجة التي وقعت بين ألحان وأداء الفنان الراحل وبين تلك القصائد بمثابة الجسر الذي انتقلت منه تلك القصائد التي كانت غير معروفة نحو الفضاء الأرحب الذي سيتم فيه الاٍحتفاء بالاٍثنين معها باعتبارهما أحد أكبر قطبي التحديث الفني والشعري الأمازيغي في العصر الراهن.
وهكذا فقد قام كل واحد من الاثنين بالتعريف بالآخر بشكل أو بآخر ، بحيث قام الفنان عموري مبارك بالتعريف بقصائد الشاعر علي صدقي أزايكو ، وفي حين قام هذا الأخير بالتعريف بأغاني عموري مبارك ، كنوع من تبادل الأدوار أو الاٍعتماد الدبلوماسي الذي يستحق التقدير ، فانكب جيل من الشباب المعانق للقضية الأمازيغية على دواني الشاعر علي صدقي أزايكو ( تيمتار – اٍزمولن ) وجعلوا منه عميد الشعر الأمازيغي الحديث ، وانكبوا على أغاني الفنان عموري مبارك ، وجعلوا منه عميد الأغنية الأمازيغية العصرية والحديثة و الملتزمة .
اٍن الاٍلتزام بقضية الهوية والاٍنحراط في التحديث متمثلا في ادماج الأغنية الأمازيغية في نظام الصولفيج والحفاظ على الأصالة متمثلة في المقام الخماسي ، هي الأعمدة الرئيسية التي يرتكز عليها فن عموري مبارك ، والاٍلتزام ليس وليد الصدفة بل هو شعور اعتمل داخل نفسية الفنان وتمت ترجمته بواسطة ذلك الميثاق الغليظ الذي أبرمه مع القصيدة الحديثة ، والتحديث ليس مجرد اٍضفاء بعض السمات السطحية على جسد الأغنية الأمازيغية ، بل هو تحديث لامس الجسد والروح معا أي الشكل والمضمون ، والأصالة ليست مجرد البقاء وفيا لروح الآباء والأجداد بل هو انخراط فعلي وجدي ومثمر في جعل ثراث الآباء يستحق التقدير ويستحق أن يبقى خالدا ، هذه الركائز الصلبة هي ما يجعل من فن عموري مبارك فنا متميزا وسيبقى خالدا ، عصيا على محاولات التقليد ،حتى بعض التجارب الحالية التي تحاول أن تطور الأغنية الأمازيغية مثل تجربة أزا ميوزيك أو تجربة أمارك فيزيون أو تجربة رباب فيزيون أو تجربة يوبا أو زيري أو مجموعة ماسينيسا أو الفنان كوردايا و غيرها من التجارب التي تحاول أن تطور الأغنية الأمازيغية من خارج النسق التقليدي لهذه الأغنية بحيث استعمل بعضها تقنية الفيزيون واستعمل البعض الأخر المقام الغربي أو العالمي ، لم تستطع أن تقترب من النمط المتفرد لمدرسة عمورري مبارك ، ذات النوعية الخاصة ، أعتقد أنها تشبه تلك الماركات العالمية العصية على التقليد والمحاكاة ، ولقد حاول الكثير من المقلدين تقليد ازنزارن ولقد نجحوا الى حد ما في التقليد لأن مدرسة ازنزارن وبالرغم من الاٍلتزام والجدة والفرادة التي تطبعها هي الأخرى ، اٍلا أنها ليست بعمق وحداثة مدرسة عموري مبارك ، وذلك نظرا لكونها في الشكل تعتمد على آلة البانجو فقط ، من أجل العزف الذي يتمحور حول بعض المقامات الأمازيغية ممزوجة بالمقام الشعبي المغربي الذي يتقاطع مع تجربة ناس الغيوان وجيل جيلالة وفي المضمون ببعض القصائد ذات المنحى الملتزم لكنها ليست بعمق قصائد الشعراء الكبار أمثال صدقي أزايكو ، لهذا بقي فن عموري مبارك عصيا على المحاكاة و التقليد ، أضف الى ذلك أن ما يجعل فن عموري مبارك يسمو الى مرتبة الاٍبداع الخالد ، ذلك الزخم الهائل من الاٍحساس الصادق والجدية التامة والاٍنهماك الكبير على تجويد الأغنية والاٍنشغال العميق بالشكل والمضمون معا ، بحيث يلاحظ أن الفنان يبذل مجهودا جبارا أثناء الاٍعداد لأعماله واٍنجازها ، و كما يحكي مقربوه ، اٍنه التزام مزدوج منقطع النظير في الثقافة الأمازيغية بشكل عام والتي لم يتسنى لها الاٍنفتاح على الثقافات الأخرى في ذلك الوقت المبكر ، وبقيت حبيسة المثاقفة مع الأجناس المحلية والوطنية على أبعد تقدير ، اٍلتزام بالقضية والتزام بالفن ، اٍن حب عموري مبارك للفن ، لا يضاهيه اٍلا حب أولئك العظماء الذين نقش التاريخ أسماءهم في قائمة الثرات الاٍنساني الخالد من أمثال بيتهوفن وموزارت وستيفن ، بماء الذهب ، هؤلاء كرسوا حياتهم للفن الراقي والأصيل في نفس الوقت ، فعاشوا لأجله ، وماتوا من أجله ، وقاسوا لأجله المعاناة والمأساة ، لكنهم لم يستسلموا أبدا ، ولم يسعوا لا الى شهرة ولا الى مال ولا الى منصب ، بل كان همهم الوحيد هو اٍرضاء ذلك النهم الكبير الذي يعتمل في دواخل أنفسهم للفن الجميل والراقي ، يؤدونه بإحساس مرهف وصادق وحب جارف ، هذه النكهة الرومانسية شكلت تلك القطعة من البلور والزمرد والألماس الشفاف النقي والصافي ، التي تعكس روح الفنان عموري مبارك ، التي كانت نقية ، ولكنها كانت حزينة ومهمومة ، انعكست على ألحانه وأغانيه بشكل كبير ، وجعلت منه أيقونة الفن والأغنية الأمازيغية الحديثة ، واٍن ساعدت ظروف الفنان الاٍجتماعية على تفتق الموهبة لديه في سن مبكرة ، فقد قام بصقلها بواسطة التجربة والمراس والاٍطلاع والمعرفة وألم المعاناة ، ولا غرو في ذلك فالإبداع لا يخرج اٍلا من رحم المعناة ، يحذوه طموح كبير ورغبة جامحة في أن يخرج الأغنية الأمازيغية من طوق التقليدانية والفلكرة وأن ينتقل بها من الاٍطار المحلي المحدود الأفق نحو رحابة التحديث و العالمية ، وأن تعرف انتشارا واسعا يستطيع أن يعرف بالثقافة التي تعبر عنها بشكل مشرف وأن تساهم في الثقافة الكونية من بوثقة الخصوصية .