الأمازيغية والمخزن : صراع الرموز
تفتق الوعي الامازيغي المعاصر من اوساط النخبة المثقفة والعالمة بالمدن الجامعية الكبرى، وهذا لا يعني أن الأمازيغية ليست قضية الشعب والجماهير والكادحين. وإنما يعني أن القضية تستند بالدرجة الأولى على أسس علمية ومعرفية وعلى مناهج التحليل العلمي في مختلف العلوم الإنسانية بدءا بالتاريخ واللسانيات والسوسيولوجيا والانثروبولوجيا والفلسفة والاركيولوجيا والقانون وعلم السياسة….
وكما هو معلوم فالخطاب الامازيغي لا يستند على أيديولوجيا جامدة او على نصوص مقدسة ثابتة، أو وثائق وبيانات ظرفية، وإنما يستند على مرجعية ثقافية وحضارية مبنية على القيم، كما يرتكز على بنية معرفية ذات إنتاج علمي تراكمي ينهل من مستجدات وتطورات مناهج العلوم الإنسانية وثقافة حقوق الإنسان في بعدها الكوني.
وهذا ما يجعل الخطاب الامازيغي يكون مسلحا معرفيا ومستعد علميا ثم سياسيا لزعزعة الايديولوجيات والأفكار المعادية والمناهضة الأمازيغية كلغة وثقافة ومنظومة، والمناهضة بشكل عام للتنوع والتعددية. وعادة ما نجد الايدلوجيات التي تناهض الأمازيغية تكون دائما ذي بنية منغلقة وجامدة، عكس الأمازيغية التي تتبنى الدينامية والتطور والتراكم. وبالتالي نجد الخطاب الامازيغي يفكك اليوتوبيات واليقينيات بسهولة … فالحركة الأمازيغية تبنت منذ البداية شعار الوحدة في التنوع بينما يتبنى المخزن واحزابه الوحدة في الأحادية، وأثبت التاريخ أن مبدأ الحركة الأمازيغية هو الأصح لبناء المغرب المشترك الذي يتسع لكل أبنائه.
ومن بين المعارك التي قادها الخطاب الامازيغي وربحها بنقاش علمي رصين وبتدافع هادئ وحضاري، هي معركة الرموز، وصراع الرمزية. ولفهم هذا الموضوع لابد من الإشارة هنا إلى كتاب السوسيولوجي “بيير بورديو” “السلطة والرمز”. فالرمزية لها وظائف سياسية خطيرة في فرض الهيمنة والسلطة، فهذه الأخيرة لا تتحقق ولا تكتمل فقط بالجيش والشرطة والعنف والقهر والسجون، وإنما تتحقق وتنتعش أكثر باستغلال الرمزية، وصناعات منظومات الرموز التي تتأسس على عدة أشكال منها الدين واللغة والفن…
فكل نظام سياسي يصنع بنيته الرمزية لتثبيت مشروعيته وتغذية منبعه الايديولوجي، كالنظام المخزني المغربي الذي يعتمد كثيرا على البنية الرمزية، كالدين والاسطورة والطقوس والاشارات واللغة كبنية سلطوية وهذه مشتركة لدى جميع الانظمة التي تستند على الإسلام والتي تستعمل اللغة العربية باعتبارها لغة الجنة ولغة القرآن، لتعزيز نظرية التفوق اللغوي وفرض العربية على الشعوب والاوطان غير العربية كحال بلدان شمال إفريقيا. وقد بذل الامازيغ داخل الحركة مجهودا فكريا وعلميا كبيرا لدحض أكاذيب الانظمة السياسية وحركات الدعوة الدينية التي تستغل الإسلام للوصول إلى الحكم والسيطرة على الشعوب.
كما عمل المخزن المغربي على نشر العديد من الأساطير السياسية باعتبارها بنيات رمزية لتقوية المشروعية وإثبات الشرعية، ك”أسطورة الأدارسة أول دولة في المغرب” فقد تفوق الخطاب الامازيغي في تحطيم هذه الأسطورة علميا وتاريخيا، عن طريق نشر ابحاث ودراسات علمية حول أنظمة الحكم الامازيغي في التاريخ القديم قبل دخول العرب والاسلام إلى شمال إفريقيا بمئات السنين، وقد تملك الامازيغ شجاعة كبرى في فتح نقاش حول هذه الأساطير المؤسسة للدولة المغربية، ودعوا إلى إعادة تصحيح التاريخ بعيون موضوعية، وعدم أسطرة التاريخ وتقديس الأشخاص بعينهم القادمين من الشرق واحتقار السكان المحليين، وقادت الحركة الأمازيغية معارك فكرية وسياسية أيضا سلاحها البحث العلمي الموضوعي، وقد ادى العلماء الامازيغ المعاصرون الفاتورة الباهضة وضحوا بحياتهم وحريتهم نظير بوجمعة الهباز وصدقي علي ازايكو الذي اعتقل وحكم عليه بسنة سجنا بسبب كتابة مقال علمي في التاريخ تحدث فيه عن الغزو العربي..الذي حاول المخزن تقديمه وتدريسه للتلاميذ على أنه فتح..
إن النظام المخزني وهو يعتمد على العروبة صنع بنية رمزية خاصة به، تخدم معتقداته الايديولوجية وتشوه حقيقة الواقع الامازيغي، مثلا حكاية مقتل عقبة بنو نافع، فقد تبنت الدولة المغربية أساطير القدماء التي تشوه الامازيغ باعتبارهم شعب بربر متوحش، وترفع من قيمة العرب الذين دخلوا شمال إفريقيا، فسموا الأمير الامازيغي الذي قتل عقبة بكسيلة تحقيرا له، وتفادت المدرسة المغربية بعد الاستقلال الحديث عن الأمير والزعيم الامازيغي وكثرت في الحديث عن عقبة وقدمته كبطل قومي خرافي وشخصية تاريخية مقدسة، إلى درجة انه في الدرس يطرح السؤال من قتل عقبة، دون الحديث عن الجواب. يطرح السؤال معلقا في السماء ليكون قاتل عقبة مجهولا… لكن جاءت الحركة الأمازيغية بهدوء وشرحت بالعلم والمعرفة وبقيم حقوق الإنسان التي ترتكز على المساواة، لتصحح الوضع، وأصبح اسم أكسيل اسما امازيغيا مشهورا يطلق على المواليد الجدد، وشاءت الاقدار أن يختاره المعتقل ناصر الزفزافي من داخل زنزانته المظلمة لابن أخيه… وهو اختيار بعث به ناصر برسائل سياسية كثيرة…
فالدولة حاليا تريد فرض بنية رمزية خاصة بها، تعطي الافضلية لكل ما ليس امازيغي، وتهمش وتصمت على ما هو امازيغي، مثلا في حقل الفنون والابداع فالدولة تصمت على جعل الفنانين المبدعين بالامازيغية رموزا للبلد، وللثقافة الوطنية، فحين نجد غياب وانعدام أي شارع او فضاء عمومي في المدن المغربية كلها يحمل اسم الفنان الرايس محمد الدمسيري، ونجد شوارع كثيرة ومؤسسات عديدة تحمل اسماء شعراء وفنانين اقل بكثير إنتاجا وشهرة وصيتا وابداعا من الدمسيري، السبب الوحيد ان هؤلاء ينشدون او يغنون بالعربية او بالدارجة، ندرك أن الدمسيري لا يدخل ضمن البنية الرمزية المخزنية التي تدعمها الاحزاب. ونفس الشيء يتكرر في النضال والمقاومة ضد الاستعمار فلا نجد الا تخليد بعض الأسماء باعتبارها رموز الوطنية وهي اسماء الأسر الموريسكية وبعض أبناء العائلات الكبرى في فاس وتطوان والرابط مع تهميش كلي للمقاومة الأمازيغية في الجبال وزعماء القبائل وشهداء المعارك…. فالدولة لا تخلد الا زعماء العروبة والقومية العربية في المدارس والبرامج التعليمية وفي الفضاءات العمومية…
كما نجد الكثير من الشخصيات المناضلة والمبدعة في حقل الأمازيغية يعانون التهميش واللامبالاة اثناء حياتهم وبعد وفاتهم، والاسماء كثيرة جدا… شخصيات سياسية وعلمية وجمعوية وفناون ومبدعون يموتون في صمت رهيب.. في المقابل تحاول الحركة الأمازيغية بالاستناد على وسائل التواصل الحديثة انصافهم واعادة الاعتبار لعطائهم وتضحياتهم وابداعهم، وبالتالي إجبار الدولة على انصافهم واحترامهم وتقديرهم.
فالحركة الأمازيغية اليوم يجب أن تدرك تمام الإدراك تساهم في خلخلة البنية الرمزية التي تدعمها الدولة، وتعرف أيضا أنها تنافس المخزن في صناعة الرموز واحترامها. فرموز النضال الامازيغي من سياسيين وفنانين ومبدعين وكتاب يجب أن يحظوا بكل التقدير والاحترام من قبل المناضلين والجمعيات، لأنهم يستحقون ذلك. ولانهم أيضا يناضلون ويضحون خارج بنية الدولة التي رسمت لنفسها حدود الرمزية ووضغت الامازيغ خارج هذه البنية، بسبب تقديسها للعروبة…
وإن كانت مؤشرات إيجابية تظهر في الأفق…فإن ما لم يتحقق بالنضال يأتي بالمزيد من النضال.
مناضل أمازيغي وإعلامي وكاتب وباحث في التاريخ