عصيد: عقوبة الإعدام تتعارض مع القيم الأصيلة الأمازيغية


اتصل بي عدد من المواطنين يسألون عن تفاصيل قولي في عدد من الحوارات الصحافية إن عقوبة الإعدام لا علاقة لها بثقافة الشعب المغربي عامة، وإنها إجراء كان معتمدا فقط لدى النظام المركزي وليس في القبائل التي تشغل معظم التراب الوطني، وفي ما يلي تفصيل ذلك:

يعتمد المدافعون عن إلغاء عقوبة الإعدام، في مرافعاتهم، غالبا على المرجعية الدولية لحقوق الإنسان، وخاصة منها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية كالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية واتفاقية مناهضة التمييز واتفاقيات جنيف الخاصة بالقانون الدولي الإنساني، وهم يفعلون ذلك غالبا دون أن يعودوا إلى شيء من عناصر الثقافة المغربية الأصيلة والأعراف القبلية التي نجد فيها أحيانا بعض العناصر الحية والإيجابية التي تساعدنا على الدفاع عن الحق في الحياة من مرجعية وطنية تراثية أصيلة.

وما يفرض علينا هذا النهج هو اعتماد بعض التيارات المناوئة لإلغاء عقوبة الإعدام على المرجعية التراثية الإسلامية، والقول إن الحكم بالقتل يوجد في الشريعة الإسلامية، معتبرين الدعوة إلى إلغاء هذه العقوبة تخالف الثوابت الأصيلة لـ”الأمة”، والتي يختزلونها في الدين الإسلامي لا غير، معتبرين الدعوة إلى إلغاء عقوبة الإعدام دعوة “غربية” أساسها قيم أجنبية عن بلادنا، وناعتين الذين يسعون إلى إبطال هذه العقوبة بكونهم مجرد “مستغربين” أي “تابعين للغرب”. والواقع أن هذا نوع من احتكار معنى “الأصالة” يستغل جهل المواطنين بتاريخ بلدهم، ويعتمد أساسا التعمية والسكوت عن الكثير من المعطيات الدالة.

بينما الحقيقة أن قيم المغاربة لم تكن مجرد قيم دينية إسلامية، بل كانت كذلك قيما ثقافية عقلانية أرضية تطبعها النزعة البراغماتية، حيث أبدعوا قوانين وضعية تنبع من حاجاتهم الأساسية التي تحدّد أسلوب تدبيرهم لشؤونهم الجماعية. ولهذا، لم يكونوا أبدا، وفي إطار الإسلام نفسه، يعتمدون العقوبات الجنائية الجسدية التي أقرتها النصوص الدينية مثل قطع اليد والجلد والرجم بالحجارة. كما لم يكونوا يطبقون “السنّ بالسنّ والعين بالعين”؛ بل كانوا يعطلون هذه العقوبات ويعملون بدلا عنها بالغرامات، تجنبا لتشويه الأجساد وجعل أصحابها عاجزين عن العمل أو المشاركة في الحياة الجماعية التي يطبعها التضامن والتعاون.

ومما يدلّ على ذلك هذا النصّ الذي يعود إلى أربعة قرون حيث كتبه القاضي أبو زيد عبد الرحمن التمنارتي، قاضي تارودانت، في رسالته إلى قاضي مراكش أبي عيسى السكتاني، ويجد القارئ نص الرسالة في كتاب التمنارتي المعروف “الفوائد الجمة في إسناد علوم الأمة”، حيث قال: “مررت ببلاد هنكيسة فكانوا يتحاكمون إليّ، فإذا عرضت خصومة تتعلق بحصونهم التي أعدوها لحفظ أموالهم، وكانوا يبنونها على شواهق منيعة، قالوا: هذه إنما يحكم فيها “ألواح الحصون”، فسألتهم عنها، فقالوا: هي ضوابط وقوانين رسموها، وينتهون إليها عند وقوع حادث في الحصن، فشرحوا منها كثيراً فوجدتها كلها من باب العقوبة بالمال التي ليست إلا في الغش، وليس شيء منها في الغش بل هي عوض عن الحدود التي نصبها الشارع زجرا؛ فقلت لهم: “هذا من التحاكم إلى الطاغوت الذي أمرنا أن نكفر به”.

و”ألواح الحصون” كما تحدّث عنها التمنارتي قبل أربعة قرون هي ما أسماه الفقيه الحاج امحمد العثماني (والد سعد الدين العثماني) في أطروحته الجامعية بـ”ألواح جزولة”، وهي ألواح خشبية عتيقة دُونت عليها القوانين العرفية الأمازيغية (إزرفان جمع أزرف Azrf) ووُضعت في (إكودار Igudar) جمع (أكادير Agadir)، ويتم الاحتكام إليها في العقوبات وفي تدبير شؤون الجماعة، لكونها اتفاقا بين أعضاء الجماعة يلتزم بها الكل في تدبير شؤون القبائل والقرى والمداشر. ومن أقدم هذه الألواح ما يعود إلى حصن أكادير ؤجاريف Agadir Ujarif، الذي هو من أعرق حصون الأطلس الصغير، حيث أورد العثماني لوحا بهذا الحصن يعود إلى سنة 1498 م في كتابه “ألواح جزولة والتشريع الإسلامي”.

وقد لاحظ التمنارتي بأن القوانين المدونة في هذه الألواح لا تتضمن العقوبات الجسدية مطلقا وإنما بها أحكام بالغرامات، كما لا تتضمن عقوبة القتل والإعدام بقدر ما تنصّ على النفي من القبيلة (أزواك Azwag) وهو أقصى حكم وأقساه لديها. ففي الجزء الأول من كتابه “القوانين العرفية الأمازيغية”، أورد المحامي أحمد أرحموش مثالا على هذه القوانين التي تحكم بالنفي بدل القتل. ففي الوثيقة التي تعود إلى “قصر الكارة” بمنطقة وادي زيز جاء في بندها 104 جاء ما يلي: “من قتل أحدا من أهل البلد، يعطي مثقالا للشيخ ولعائلة المقتول خمسين مثقالا ويرحل من البلد”. ومن النصوص ما يستعمل عربية ممزغة كمثل عرف “ماسة” الذي يقول عمّن ارتكب جريمة قتل “تُخلى داره ويزوك عن بلده” أي يُهدم بيته ويُنفى من أرضه وقبيلته.

أما في العلاقات الجنسية الرضائية فتحكم القوانين الأمازيغية بالغرامة شأن باقي العقوبات الجنائية، كمثل عرف قبيلة آيت أوجانا الذي ينصّ على: “إن توافق الرجل والمرأة على الزنا، فعلى كل واحد منهما خمسة وعشرون مثقالا”. وحتى في حالة المثلية الجنسية، فهناك عُرف آخر ينصّ على أن «من فعل الفاحشة برجل لا يعطي إلا عشرة مثاقل والأدنى عشرين مثقالا، وإن لم يصوما فمثقال لكل واحد”، و”إن لم يصوما” بمعنى لم يبلغا سن الرشد.

وقد انقسم الفقهاء في النظر إلى تلك القوانين الوضعية الأمازيغية إلى توجهين أحدهما اعتبرها ضلالة وزيغا عن الشريعة الدينية، كما ذكر التمنارتي أنها “من الطاغوت التي أمرنا أن نكفر به”، وسمّى بعضهم ألواح القوانين بـ”الألواح الشيطانية”، بينما اعتبرها البعض الآخر موافقة لروح الشريعة في مراميها وأهدافها وحفظها لمصالح الجماعة اعتمادا على منطق التداخل والتفاعل بين الشرع والعُرف عوض التعارض والانفصال، وكذا على القواعد الفقهية مثل “ما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى” و”الضروريات تبيح المحظورات” و”حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله”. فرأوا في ذلك نوعا من “السياسات الشرعية المبنية على المصالح المرسلة”. ومن الفقهاء الذين انتصروا لفكرة عدم التعارض بين العرف والشرع محمد المختار السوسي.

وذهب بعض الفقهاء إلى أن اعتماد القوانين العُرفية الوضعية لا يكون إلا في حال ضعف النظام المركزي وبُعد تلك القبائل عن سلطته، جاء في كتاب “فقه النوازل في سوس” للفقيه الحسن العبادي: “وأما الحدود والجنايات والمظالم التي تقع في الأسواق والطرقات فقد كان يتولاها كبار القبيلة “إنفلاس”، خاصة في فترات اختلال الأمن وضعف السلطة المركزية عن ضبط القبائل واستتباب الأمن العام”؛ فالفقيه، هنا، يعتبر أن الاحتكام إلى القوانين العرفية مجرد حالة طارئة، بينما الصحيح أنها عوائد متأصلة ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، إذ تخبرنا الوثائق التاريخية الكثيرة بأن السلاطين المغاربة (بمن فيهم السلاطين الأقوياء أمثال أحمد المنصور الذهبي ومحمد بن عبد الله والحسن الأول) كانوا يُقرون حتى القبائل المتحالفة معهم على أعرافها طلبا للسلم وكسبا لولاء تلك القبائل التي هي في الغالب مستعدة لمحاربة النظام المركزي في حالة طغيانه بالضرائب المجحفة. وأكثر من ذلك نجد أن واحدا من سلاطين المغرب وهو المولى سليمان، بعد أن بعث إلى القبائل الأمازيغية برسالة توبيخ لهم على اعتمادهم قوانينهم العرفية وإبطالهم للعقوبات الجسدية قائلا: “وبعدُ: فَقد بَلَغنَا من فِعلكُم الشّنيع ومَا أنتُم عَليهِ بسُوء الصَّنيعِ مَا يَجبُ عَلينا وعَلَى المُسلمِينَ كافّة إنكارُهُ والمُبَادَرَة لنَهيِكُم عَنهُ قَبلَ أن يَأخُذَكُم اللهُ فِي الدّنيَا وتُحرِقَكُم في الآخرة نارُه وَذلكَ أنّكُم قَضَيتُم لأَنفُسِكُم أحكامًا خَالَفتُم فِيهَا أَحْكَامَ اللهِ وَشَرَعْتُمْ شَرَائِعَ وَحُدُوداً نَبَذْتُمْ بِهَا شَرِيعَةَ مَوْلاَنَا رَسُولُ اللهِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَتَلَ آخَرَ لاَ تَقْتُلُونَهُ وَتَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالخُرُوجِ مِنَ البِلاَدِ مُدَّةً مَعْلُومَةً فَإِذَا أَتَمَّهَا كَانَ المَقْتُولُ هَدْراً لاَ كَلاَمَ فِيهِ لِأَوْلِيَائِهِ مَعَ القَاتِلِ وَلاَ تَتْبَعُونَهُ مَعَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْجَبَ فِيهِمَا مَعَ العَمْدِ القِصَاصَ حَيْثُ يَقُولُ “وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالعَيْنَ بِالعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذْنَ بِالأُذْنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ”، (…) وَكَذَلِكَ السَّارِقُ عِنْدَكُمْ لَا يُقْطَعُ وَجَعَلْتُمْ وَظِيفَتَهُ عَلَى مَالٍ يَأْخُذُ مِنْهُ وَيَنْزِعُ حَتَّى كَأَنَّكُمْ لَمْ تَسْمَعُواْ قَوْلَ اللهِ “وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللهِ”، وَارْتَكَبْتُمْ شِبْهَ ذَلِكَ فِي الزِّنَا وَالنِّكَاحِ الفَاسِدِ وَتَجَرَّأْتُمْ عَلَى الحُدُودِ وَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ مَا سَنَّهُ لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الفُرُوعِ وَالأُصُولِ”.

بعد أن بعث السلطان هذه الرسالة العنيفة، قام بحملة عسكرية ضد قبائل “آيت مكيلد” و”آيت نضير” و”زايان” باعتبارهم من “المجوس”؛ لكنه انهزم على إثرها، فعاد وكتب إلى أهل فاس رسالة ثانية عكس الأولى يقول نصّها: “احْفَظوا هَذِهِ الوَصِيّة واحذَرُوا مِن مِثلِ هَذا؛ فالدّينُ النّصِيحَة (…) اللهُمّ اشهَدْ فَإنّ أردتُم أمَان أنفُسِكُم يا أهْلَ فَاس، فادْخُلوا فِي حِلفِ البَربَرِ، فإنّ لهُم قوانِينُ ومُرُوءَة تَمنعُهُم مِنَ الظلم ويَقنَعُون بالكفَاف””.

وإذ لم تكن للفقهاء في الإطار القبَلي سلطة إرغام السكان على الانضباط للنص الديني حرفيا في موضوع العقوبات فقد كان بعضهم يعتبر العرف قانونا “فاسدا”؛ لكنهم يعلمون تمسك الجماعة به بسبب نظرتها البراغماتية العملية، في قبائل تقوم النظم الاجتماعية فيها على رعاية المصالح المشتركة قبل روابط الدم أو العقيدة.

ومن الأدلة على خضوع الفقهاء لسلطة الجماعة القبلية ما ذكره بعض الباحثين الفرنسيين من تدخل “إنفلاس” (أي أعضاء القبيلة المسيرون لشؤونها) لتصحيح بعض أحكام الفقهاء والحكم للسكان بما يخالفها. كما أن من الأدلة على ذلك أيضا أن من مراحل صياغة القانون العرفي الأمازيغي أو تعديله من طرف مجلس “إنفلاس” كتابته من طرف فقيه المدرسة أو عدول القبيلة، وهذا معناه أن فقهاء الجماعة كانوا يوافقون على تلك القوانين المدونة بتقدير ضرورة حفظ المصلحة والسلم الجماعيين، أو كذلك من باب التسوية المهادِنة لعادات الأغلبية.

ومن الأمور التي تجدُر الإشارة إليها أن القوانين العرفية الأمازيغية قد نظمت حتى المجال الديني وخصصت عقوبات لمن ينتهك حرمة الفضاء الديني في المساجد والكتاتيب القرآنية والمدارس العلمية والزوايا أو يعتدي على الفقهاء، ووفرت هذه القوانين الحماية الضرورية لمن يُعمّر تلك الفضاءات من طلاب العلم وأئمتهم وحراسها وأمنائها؛ بل وحتى للزوار الذين يترددون عليها ويقصدونها من مختلف المناطق. هذا بجانب تخصيص بنود واضحة لحماية اليهود وضمان ممارستهم لدينهم بكل حرية. فتعطيل الأمازيغ للعقوبات الجسدية الشرعية لا يعني الاستهانة بالدين الإسلامي أو برجالات العلوم الشرعية أو بأي دين آخر.

غير أن ذلك الاحترام لا يعفي الفقهاء من الغرامات التي قد تطالهم في حالة ما إذا وقعوا عقدا لا يحترم القوانين العرفية المعمول بها، حيث إن عمل الفقيه كله داخل الجماعة محكوم بالقوانين الوضعية الأمازيغية.

ومن ثمّ، فمن أهم ما يلاحظ في نظام العدالة هذا لدى الأمازيغ هو الفصل الواضح بين الشؤون الدينية الشرعية المتعلقة بالأحوال الشخصية، والتي يتولاها الفقهاء، وبين الجنايات وتدبير شؤون القبيلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتي هي من اختصاص مجلس “إنفلاس” في إطار مؤسسة “أمغار” التقليدية.

ولهذا، نظر بعض فقهاء سوس، مثلا، من منطلق وعيهم بمكانة العرف والعادة، إلى تلك القوانين العرفية على أنها تمثل روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها السامية. ولهذا، لم يعتبروا أن تعطيل الحدود منذ قرون طويلة مخالف للشريعة، حيث تعتقد الجماعة التقليدية في إمكان إصلاح أبنائها بالعقوبات عن طريق الغرامات، دون أن تمسّ بأجسادهم التي هي بحاجة ماسة إليها في العمل اليومي (نظام تيويزي ـ التويزة) وفي الدفاع عن الأرض (الحركة). كما أنه في أقصى العقوبات وهي النفي من الأرض، تقوم القبيلة بعد سنوات طويلة بتهيئة أهل الضحية للصلح بعد أن يكون الجاني قد أدّى دية القتيل من ماله وممتلكاته. وقد كتب الحسن الوزان بهذا الصدد في كتابه “وصف إفريقيا” يقول: “وإذا نُفي القاتل فتلك عقوبته، وعندما تنتهي مدة النفي يستدعي جميع الأعيان إلى وليمة ويتصالح مع خصومه”.

ولقد كانت المبادئ الكامنة وراء هذه العقوبات الزجرية في القبائل المغربية الأمازيغية على الخصوص، هي مبدأ “الرحمة” من جهة، وكذلك مبدأ “الإصلاح”، ومبدأ قيمة “حرمة الجسم البشري” وكذا أهمية الفرد داخل الجماعة، وأولويته على النصوص دينية كانت أو دنيوية، دون أن ننسى مبدأ أساسيا هو أن العقوبات لا تهدف إلى الانتقام وإشباع الأحقاد، بقدر ما ترمي إلى تدبير وضعية الفرد داخل الجماعة بشكل متوازن وحكيم، علاوة على سعيها إلى إيقاف مسلسل العنف الدموي المبني على “الثأر”.

كان هذا ما يحدث في القبائل الأمازيغية في الوقت الذي كان فيه “المخزن المركزي” يقطع الرؤوس ويصلب الأجساد على أبواب المدن وفوق الأسوار لمدة شهور طويلة حتى تتعفن.

من جانب آخر، يلاحظ دارس هذه القوانين العرفية، التي هي في الحقيقة قوانين وضعية مدونة ومكتوبة، أنها تتضمن نوعا من النسبية، حيث تعمد الجماعة إلى تغييرها كلما طرأ طارئ يستوجب ذلك. ولهذا، يقوم “أمغار” بتوجيه “البراح” إلى الدواوير والأسواق لكي يخبر الجميع بضرورة التجمع في المكان الفلاني لحضور اجتماع “أمغار” و”إنفلاس” الذين سيبتّون في القانون المزمع تغييره؛ حتى يكون الجميع على بينة من التغيير المذكور، إذ “لا يُعذر أحد بجهله للقانون”.

من هذا المنطلق، أي اعتبار حُرمة الجسد البشري وقدسيته، ينعدم حكم الإعدام والقتل بصفة نهائية في الأعراف الأمازيغية؛ فجميع الذين قاموا بجمع وتدوين هذه الأعراف، نقلا عن المخطوطات والوثائق والألواح القديمة ودراستها منذ عقود طويلة، لم يعثروا إطلاقا على نصّ واحد لعُرف من الأعراف ينصّ على القتل والحكم بالإعدام. وقد نُشرت هذه المتون في كتب عديدة؛ نذكر منها: “ألواح جزولة” للأستاذ امحمد العثماني، وكذا مدونة القوانين الأمازيغية التي جمعها أحمد أرحموش في جزئين والتي تعدّ من أهم المراجع التي يمكن للقارئ أن يعود إليها لمزيد من الاطلاع، وكذا أطروحته التي تقدم بها في موضوع “قيم العدالة في القوانين الوضعية الأمازيغية” وهو عنوان كتاب مطبوع ومنشور. ومن المراجع كذلك التي تتضمن نصوصا من وثائق القوانين الأمازيغية المدونة كتاب Le droit Coutumier Amazigh “القانون العرفي الأمازيغي” من إصدارات منظمة تاماينوت سنة 2002. كما أن هناك ثلاثة كتب أصدرها المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية لها علاقة بهذا الموضوع وهي: “القانون العرفي الريفي” لدافيد هارت (ترجمة عربية)، و”القانون والمجتمع” (أشغال ندوة علمية)، و”أعراف قبائل زايان” لـ روبير أسبينيون (ترجمة عربية).

قد يتساءل القراء عن السبب الذي جعل هذه القوانين العرفية الأمازيغية تختفي من التشريع المغربي ولا يبقى لها أثر كبير حتى أن الناس أصبحوا يجهلون عنها كل شيء. والحقيقة أن هذا لم يحدُث إلا في الستين سنة الأخيرة، بعد الاستقلال مباشرة، حيث قامت الدولة المغربية بإلغاء المحاكم العرفية الأمازيغية ونظام “إنفلاس” وتعميم القوانين الوضعية الفرنسية مع الاحتفاظ بالشريعة الإسلامية في مجال الأحوال الشخصية، وإتاحة إمكانية اللجوء إلى الأعراف المحلية في بعض المناطق عند الضرورة؛ غير أن ذلك لم يمنع من استلهام بعض الأعراف الأمازيغية في التشريع المغربي، كمثل عرف “تامازالت Tamazzalt” المتعلق باقتسام الأموال المكتسبة في مدونة الأسرة سنة 2004.

ولأن الدولة لم تقم بإدراج الأمازيغية لغة وثقافة في النظام التربوي منذ بداية الاستقلال، فإن التعريف بالكثير من المعطيات التاريخية والثقافية والحضارية الهامة ظل غير متيسر؛ بل كان يُعتبر من الطابوهات السياسية الكبرى، ونعتقد أن ترسيم اللغة الأمازيغية سنة 2011 وإصدار قانون تفعيل ذلك الطابع الرسمي منذ أكتوبر 2019 سيجعلان الأجيال المقبلة من المغاربة أكثر اطلاعا على تاريخ وحضارة المغرب بكل مكوناته.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments