هل كان الأمازيغ سبّاقين حقا إلى إلغاء عقوبة الإعدام؟


مع “موضة” الدعوات الحقوقية إلى إلغاء عقوبة الإعدام من القانون الجنائي المغربي، باعتبارها عقوبة همجية وبدائية فيها انتهاك لقداسة الحق في الحياة، كما يقول أصحاب هذه الدعوات، اغتنم نشطاء أمازيغيون هذا المطلب الحقوقي للتبجّح بأن الأمازيغ هم أول من ألغى هذه العقوبة، لأنها تتنافى مع أعرافهم القائمة على إجلال الحياة كقيمة عليا، واحترام الإنسان بصفته إنسانا. ويضيفون أن الأمازيغ لم يعرفوا كذلك مؤسسة السجن، المخصّصة لحبس الجناة عقابا على ما اقترفوه من أفعال إجرامية. فأقصى عقوبة كان يُحكم بها في حالة القتل العمد هي النفي أو الإبعاد Bannissement من البلدة. ولا وجود لعقوبة السجن ولا الإعدام. 
غياب عقوبة الإعدام كنتيجة لغياب مؤسسة الدولة: 
إذا كان صحيحا أن الأمازيغ لم يمارسوا، ضمن العقوبات التي كانت معروفة ومقرّرة لديهم حسب قوانينهم العُرفية، عقوبة الإعدام ولا عقوبة الحبس، فلا يرجع ذلك إلى سَبْق حقوقي ناتج عن تقديرهم للحياة والحرية كقيمتين عليين، لا يمكن المساس بهما مهما كانت الأفعال الإجرامية المرتكبة من طرف الشخص موضوع العقوبة، كما يريد أن يقنعنا بذلك العديد من النشطاء الأمازيغيين. وإنما يرجع، بكل بساطة، إلى غياب الدولة كمؤسسة ضرورية لتطبيق هاتين العقوبتين (الحرمان من الحياة والحرمان من الحرية). لماذا الدولة؟
لأن كل السلط الأخرى ـ من غير تلك المنظّمة على شكل دولة ـ، التي باسمها يُبتّ في النزاعات وتصدر الأحكام، مثل سلطة القبيلة أو فيديرالية القبائل، والتي كانت تقوم عند الأمازيغ على شرعية انتخابية وديموقراطية، تبقى سلطة ذات طابع شخصي، مرتبطة بالأشخاص الطبيعيين الذين يمارسون تلك السلط، أكثر مما هي مرتبطة بالمنصب الذي يمنحهم تلك السلطة، وحتى لو كانت تلك الممارسة للسلطة تستمد شرعيتها من المجتمع (الجماعة، القبيلة…)، ولا تمارس باسم الشخص الذي ينفّذ تلك السلطة. في حين أن سلطة الدولة، وحتى عندما تمارَس باسم ولحساب شخص الأمير أو الزعيم أو القائد أو الحاكم أو الغالب المنتصر…، وحتى عندما تكون هذه الدولة ذات شكل أولي وبدائي، فإن هذه السلطة تكون أكثر ارتباطا بالمنصب وليس فقط بالشخص الطبيعي الذي يشغل ذلك المنصب. فالفرق بين سلطة الدولة وسلطة القبيلة ليس في طبيعة السلطة نفسها، كأن تكون شخصية أو مجرّدة، بل في طبيعة التنظيم الاجتماعي والسياسي الذي باسمه تمارَس تلك السلطة.
الخلاصة أن السلطة في التنظيم القبلي، مثلا، هي أقل تجريدا وأكثر شخصانية، مما هي في تنظيم الدولة حيث تميل إلى التجريد والاستقلال عما هو شخصي.
توفر الدولة على قوى نظامية عكس القبيلة:
وهذا الفرق يظهر جليا في توفّر الدولة على قوة أمنية نظامية (جيش، حرس، شرطة…)، تحمي هذه الدولة خارجيا وتفرض النظام داخليا، حتى لو كانت هذه القوة الأمنية تتشكل من مرتزقة أو قطّاع طرق أو عصابة من المجرمين (هكذا ظهرت الدولة تاريخيا حسب نظرية الغلبة والقوة لتفسير نشأة الدولة). لأن المهم ليس طبيعة عناصر هذه القوة الأمنية، وإنما وظيفتها المتمثّلة في قدرتها، كقوة، على الزجر والردع والعقاب والإكراه… أما التنظيم القبلي فلا يتوفر، مهما كان متقدّما في جانب الحفاظ على الأمن العام والاحتكام إلى القانون العرفي، على قوة أمنية نظامية، وهذا بالرغم أنه يتوفّر على ما يشبه جيشا يحمي القبيلة ويدافع عنها عندما تتعرّض لهجوم خارجي. فهؤلاء الذين يهبّون للدفاع عن هذه القبيلة وصدّ المعتدين والغزاة، لا يمثلون قوة دفاع نظامية ـ وأشذّذ على “نظامية” ـ لأنهم يقومون في الحقيقة بعمل تطوّعي غير احترافي وبدون مقابل، وحتى إذا فاقت فعالية هذا الدفاع ما يمكن أن يقوم به جيش نظامي احترافي لو كان موجودا، وبزّت كفاءةُ ومهارة وشجاعة هؤلاء المدافعين أداءَ جنود احترافيين يعملون مقابل أجر. فالعبرة هنا ليست بالنتيجة أو الانتصار أو المهارة أو الشجاعة، وإنما بحضور “النظامية”، مع ما يعنيه ذلك من امتهان للجندية أو الحراسة أو الشرطية كعمل مقابل أجر. فعكس عناصر القوى الأمنية النظامية للدولة، التي تستمر في أداء مهامها الدفاعية والأمنية حتى لو لم تكن هناك حرب ولا نزاع ولا تمرد ولا انفلات للأمن، ينتهي العمل الدفاعي والأمني لأفراد قوات الدفاع عن القبيلة بمجرد انتفاء أسباب استنفارهم للدفاع عن هذه القبيلة، كما في حالة عدوان خارجي، ليعودوا بعد ذلك إلى أعمالهم الاعتيادية (رعي، فلاحة، تجارة، صناعة تقليدية…).
نريد بهذه التوضيحات أن نبيّن أن غياب عقوبة الإعدام لدى الأمازيغ شيء عادي بالنظر إلى طبيعة النظام القبلي، الذي لا يمكن معه تنفيذ حكم بالإعدام، لأن أي إعدام للشخص المدان بهذه العقوبة سيكون بمثابة اعتداء مباشر على حياته، قد يُعرّض من قام به للثأر والانتقام، بسبب غياب أية حماية لهذا الأخير تكون وراءها قوة عمومية رادعة وملزمة، تفرض على الجميع احترام حكم الإعدام وقرار تنفيذه، كما في حالة وجود دولة، حسب ما سبق أن شرحنا. وتجنّبا لمثل هذه المشاكل، كان الحل هو اللجوء إلى النفي. 
غياب السجن كنتيجة لغياب الدولة كذلك:
ونفس الشيء يقال عن غياب مؤسسة السجن لدى الأمازيغ، التي يتطلّب وجودها واستمرارها شروطا وتدابير ضرورية وإلزامية، وبشكل دائم ومتواصل، مثل مراكز للاعتقال، وحراس، وتغذية، وميزانية كافية… وهو ما لا يمكن توفيره في إطار التنظيم القبلي، الذي تقوم فيه الأعمال ذات الطابع الجماعي (العمومي بلغة اليوم) على التطوّع والتضامن، كما في العناية بالمساجد وإطعام القيّمين عليها، وحفر الآبار وصيانتها، وشق الطرقات وتعبيدها… وهو التطوّع والتضامن اللذان لا يمكن بهما وحدهما بناء السجون وتسييرها، ولا حبس المجرمين بها، ولا تنفيذ عقوبة الإعدام. 
ولهذا نجد أن عقوبة النفي كانت منتشرة، قبل الحماية الفرنسية، لدى القبائل التي لم تكن تخضع لسلطة المخزن، وتكاد تنعدم عند التي كانت خاضعة لنفوذه، إذ كانت دولة المخزن تتوفر على معتقلات وتنفِّذ عقوبة الإعدام. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن قبائل الريف، التي لم تعرف مؤسسة السجن، والتي كانت عقوبة النفي ممارسَة بها كإجراء شائع ومعروف بحكم أن هذه القبائل لم تكن خاضعة لحكم دولة المخزن، ستتخلّى عن هذا النظام العقابي وتنشئ محلات للاعتقال بمجرد ما أن أقام محمد بن عبد الكريم الخطابي دولة (جمهورية الريف)، ذات حكومة ومؤسسات وقوانين. 
ممارسة العَلمانية كنتيجة أيضا لغياب الدولة: 
ونفس الشيء يصدق كذلك على العَلمانية التي لا يكلّ النشطاء الأمازيغيون من تكرار أن الأمازيغيين كانوا يمارسونها في حياتهم الاجتماعية، كما يتجلّى ذلك في عدم خلطهم بين ما هو ديني وما هو سياسي (القرارات الجماعية التي تهم القبيلة كلها)، حيث كان رجل الدين (الفقيه، الخطيب، الإمام…) لا يتدخل في القرارات السياسية للقبيلة، التي هي من اختصاص مجلسها المنتخب، كما أن هذه القرارات كانت تُتّخذ في استقلال عن موقف الدين منها، مستحضرة فقط المصلحة العامة للجماعة بغض النظر عن مطابقة تلك القرارات أو مخالفتها لما تقرّره قواعد الدين. يصدق إذن على هذه “العَلمانية الأمازيغية” ما يصدق على غياب عقوبة الإعدام والسجن لدى الأمازيغ، والذي يرجع إلى غياب مؤسسة الدولة. فكما أن هذا الغياب للدولة هو الذي يفسّر، كما شرحنا، غياب السجن وعقوبة الإعدام في المجتمعات الأمازيغية لما قبل الحماية الفرنسية، فكذلك “العَلمانية الأمازيغية” هي نتيجة لهذا الغياب للدولة كذلك. ألا نردّد دائما أن العَلمانية هي فصل الدين عن الدولة؟ إذن إذا لم تكن هناك دولة، فلا معنى للكلام عن العَلمانية، أي لا معنى للكلام عن فصل الدين عن شيء لا وجود له.
فقبل الدولة، لا يمكن أن يكون التديّن إلا “عَلمانيا”، حتى لو كان يتخذ شكلا جماعيا (معابد يجتمع فهيا المؤمنين لأداء الشعائر الدينية جماعة). لماذا؟ لأنه لم تكن هناك سلطة، بمستوى وحجم الدولة، تفرض الدين الذي أرادته وفضلته لأنه يخدم مصالحها السياسية والإيديولوجية، على الجميع، مستعملة لذلك ما تتوفر عليه، كدولة، من وسائل القهر والردع، والعقاب والإكراه، والترغيب والترهيب. فالتديّن في المجتمعات ما قبل الدولة كان إذن، ورغم ما كان للعادات والأعراف من طابع إلزامي، خاليا من أي إكراه حقيقي، أي الإكراه المرتبط بسلطة وقوة الدولة. وممارسة الدين بدون إكراه يعني حرية التديّن، وهو جوهر العَلمانية. وتتوقف هذه الحرية الدينية إما على وجود دولة عَلمانية، وإما على عدم وجود أية دولة، كما هو الحال في المجتمعات ذات التنظيم القبلي، مثل المجتمع الأمازيغي قبل فترة الحماية الفرنسية. وليس صدفة أن الدين في غالبية المجتمعات لما قبل الدولة كان تعدّديا polythéisme، أي الاعتقاد بوجود عدة آلهة وعدة أشكال من العبادة (وهو ما سيسمّيه الإسلام بالشرك). هذا التعدّد كان يعني إمكانية الاختيار بين عدة آلهة، أي إمكانية الاختيار بين عدة أديان. وهذه الحرية “الدينية” هي جوهر العلمانية، كما سبقت الإشارة. 
ولهذا فإن ما يتبجّح به نشطاء أمازيغيون من ممارسة الأمازيغيين للدين بشكل عَلماني، حتى قبل أن يظهر مفهوم العلمانية، هو ممارسة كانت معروفة لدى جميع الشعوب التي لم تعرف مؤسسة الدولة. وإذا ظل الأمازيغ “عَلمانيين” حتى بعد اعتناقهم للإسلام، فذلك لأنهم ظلوا محتفظين على تنظيمهم القبلي، واستقلالهم عن الدولة، باستثناء القبائل التي كانت خاضعة لسلطة المخزن المركزية، كما سبقت الإشارة.
السرّ إذن هو غياب نظام الدولة:
واضح إذن أن غياب عقوبة الإعدام لدى الأمازيغ ـ وكذلك مراكز لاعتقال المجرمين وحضور ممارسة “عَلمانية” للدين ـ لم يكن يعبّر عن وعي حقوقي متقدّم، ناتج عن مبدأ احترام الحق في الحياة، كما يتبجّح بذلك العديد من المنتمين إلى الحركة الأمازيغية، بل يعبّر عن مستوى أدنى للتنظيم الاجتماعي الذي لم يرقَ بعدُ إلى مستوى التنظيم الذي تمثّله الدولة. ولهذا نجد عقوبة النفي، كبديل عن الإعدام، شائعة عند المجتمعات البدائية التي لم تعرف نظام الدولة. وقد أشار إليها القرآن في الآية 33 من سورة المائدة: «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم منْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ». وهو ما يؤكّد أنها لم تكن “سبقا” أمازيغيا، بدليل أنها كانت معروفة وممارسة قبل الإسلام عند غير الأمازيغ.
وإذا كانت عقوبة النفي لم تختف نهائيا لدى المجتمعات المنظمة على شكل دول، فإن ممارستها مقصورة، ضمن هذه المجتمعات، على بعض الجرائم الخاصة من غير التي يعاقب عليها بالإعدام. وهكذا يعرّف المعجم الفرنسي (cnrtl) النفي بأنه يعني في القانون «عقوبة سياسية جنائية مُشينة، تتمثّل في منع المدان بها من الإقامة داخل التراب الوطني لفترة محدّدة». فالنفي، في الحالات التي تمارسه فيها الدولة، لا علاقة له إذن بجرائم الدم والقتل، عكس ممارسته بخصوص هذه الجرائم في المجتمعات ذات التنظيم القبلي، لما قبل مرحلة الدولة.
الواقعية والعقلانية حتى لا نصنع خرافة “الإعجاز الأمازيغي”:
التباهي أن الأمازيغيين كانوا سباقين إلى إلغاء عقوبة الإعدام وإلى ممارسة العلمانية، بعد أن أصبح العالم المتقدّم يدعو إلى إلغاء هذه العقوبة ويمجّد التسامح الذي تضمنه العلمانية، يجعلنا، نحن المدافعين عن الأمازيغية، المطالبين برد الاعتبار لها، في موقف شبيه بموقف أصحاب خرافة “الإعجاز العلمي في القرآن”، الذين كلما ظهرت حقائق واكتشافات علمية جديدة، إلا وسارعوا إلى ليّ نصوص القرآن وتطويعها ليجعلوه، وبشكل كاريكاتوري مضحك، سابقا إلى تلك الحقائق والاكتشافات العلمية. 
وإذا كان من حق الشعوب أن تتبجّح بثقافتها وتتباهى بمنجزات أجدادها، وتمجّد ماضيها حتى عندما لا يكون كله مشرقا وجميلا وزاهرا، إلا أن ذلك لا يجب أن يتجاوز الحدود المعقولة، خشية السقوط في السفاهة والغباء. فأحسن خدمة للماضي وأفضل طريقة لتمجيده، هو التعامل معه بواقعية وعقلانية، بعيدا عن أي زيف أو تضخيم زائد. ولا شك أن غياب هذه الواقعية والعقلانية، هو الذي جلنا نصدّق أننا كنا سباقين إلى اختيار العَلمانية وإلغاء عقوبة الإعدام، اللذيْن يروقنا إشهارُهما بتفاخر كنوع من “الإعجاز الأمازيغي”. فلو نظرنا إلى هاتين المسألتين بعقلانية وواقعية، لأدركنا واعترفنا أن غياب عقوبة الإعدام لدى الأمازيغ، وما يرتبط بها من غياب لمؤسسة السجن، وممارستهم لما يشبه العَلمانية، هما ظاهرتان لا تعبّران عن تقدّم اجتماعي وفكري بقدر ما تعبّران عن تأخر تاريخي، يتجلّى في تأخر ظهور نظام الدولة لدى الأمازيغ. 
وعندما أقول إن الأمازيغ لم يعرفوا نظام الدولة، فلا أقصد الأشكال العابرة والمؤقتة للدولة الأمازيغية، التي تظهر ثم تختفي كما في حالة تكتّل القبائل الأمازيغية للدفاع عن الأرض، وتجهيز محاربين على شكل جيش يقوده زعيم بمثابة رئيس للدولة الأمازيغية. فهذه الأشكال عرفها الأمازيغ كما عرفتها غيرهم من الشعوب التي كانت هي أيضا تفتقر إلى مؤسسة الدولة. وإنما أقصد الدولة الأمازيغية ذات الاستمرارية التاريخية، والتي كان من المفترض أن لا تغيب، منذ قيامها، في أية مرحلة من تاريخ الشعب الأمازيغي، كما عند الفرس والإغريق والرومان والصين واليابان والهند ومصر الفرعونية…


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments