ما سر تفوق السْواسَة في التجارة والسياسَة؟


سؤال مهم، وجدي يحتاج إلى دراسة علمية ودقيقة وشاملة، لأنه سيفيدنا في إنتاج نظرية في علم الاقتصاد الاجتماعي، والانثروبولوجيا السياسية. للاسف الدارسون للاقتصاد والسوسيولوجيا والتاريخ وعلم النفس لا يهتمون بمثل هذه المواضيع، نظرا لعدم توسيع السؤال الاشكالي في العلوم الانسانية، واقتصاره على نقل ومعاودة نفس القضايا المدروسة، وطغيان الاتجاه والتوجه نحو الدراسات التقنية وعلوم الحساب والتدبير، وتهميش مواضيع التحليل والتفكيك البنيوي. فمثل هذه الأسئلة التي انطلق منه الفيلسوف والمفكر الألماني “ماكس فيبر” وانتج نظرية علمية ذات جدية وقيمة عالية علميا ونظريا وفلسفيا، وهي اطروحة خلقت نقاشا واسعا في العالم وفرضت نفسها بالمنهج وبالتراكم العلمي الذي حققته، حين درس الاخلاق البروتيستانية وروح الرأسمالية، وهي النظرية التي زعزت كثيرا نظريات ماركس في الاقتصاد والتاريخ والانتاج الرأسمالي ونوعية الصراع. مؤخرا اطلعت على دراسة مهمة جدا لفوكوياما حول الثقة ودورها في انتاج الرأسمال والثروة….وهي دراسة يمكن ان نقيس عليها سؤال لماذا نجح السوسيون وخاصة جزولة المشهورون ب “إيبودرارن”في التجارة والسياسة ولم ينجح غيرهم ؟

تاريخيا، أمازيغ سوس وخاصة جزولة، يتميزون بحيوية تاريخية تتميز بالقدم والعراقة والتطور، فبالرغم من وجودهم على غرب القارة الا أنهم استفادوا من الانفتاح على المحيط، في المتاجرة مع أقوام الحضارات القديمة، وحتى اذا ما اعتبرنا أن الاكتشاف العلمي الذي خرج مؤخرا في المانيا بكون جزيرة أطلنتيس كانت تقع في سوس، يكتنفه بعض الغموض، فإن سوس توجد به مؤشرات على وجود علاقات قديمة بين الأمازيغ القدماء وشعوب أخرى مختلفة، القادمة من المحيط، ولعل ما يكشف ذلك هو انهم كانوا يتاجرون مع الفنيقيين بالمعدن والصباغات والبحرية…وهذا يدل عن قدم الاستغلال المنجمي والمعدني في سوس، وعن تطور الصناعات خاصة الصباغات والزيوت، وما يؤكد مانقول هو ماتم اكتشافه مؤخرا من نقوش صخرية مصبوغة في واد أزݣر بنواحي طانطان …أما في المراحل التاريخية الوسيطية، بعد مجيء العرب والاسلام، فامازيغ سوس تأقلموا مع الديانة الجديدة في مراحل تاريخية متقطعة وطويلة، ولم يتأثروا بشكل كبير بالزحف البدوي، بالرغم من أن المنطقة اكتوت بلهيبها…باعتبارها منطقة عبور نحو الصحراء حيث ينسجم طابعهم البدوي مع مناخها…ولكن لابد أن نشير أن سوس كان بمثابة المنقذ لاوضاع المغرب خلال القرن 11 الميلادي، بتأسيس جهاز المخزن الذي لايزال مستمرا الى اليوم كنظام سياسي، وان كان المرابطون قادمون من أمازيغ الصحراء، صنهاجة، فإن دولتهم تأسست بفعل فكرة وݣاݣ أوزلو ألمطي وبفعل الدهاء الايديلوجي والتنظيمي لعبدالله بن ياسين الجزولي، وجزولة يجاورون لمطة كما يقول ابن خلدون.

إذن فهم اسس العمل السياسي عند أمازيغ سوس، يرتكز على فهم معاني أن المخزن كنظام سياسي وجهاز اداري تأسس في تراب سوس ومقتبس من نظام أݣادير/ إݣودار الذين ينظمون وفق قوانين أمازيغية صارمة، والتي تعرف بألواح جزولة وهي موضوع أطروحة علمية لوالد سعد الدين العثماني المرحوم الفقيه محمد العثماني، والتي نشرها بعنوان ألواح جزولة والتشريع الإسلامي، وهو ينتمي إلى أسرة جزولية تمارس الدين والسياسة منذ القدم، خاصة أسرة الݣرسيفي.

ممارسة التجارة في سوس قديم جدا، يعود إلى ازمان غابرة جدا كما ذكرنا أعلاه، ويقول البكري في هذا الصدد، ” أهل السوس وأغمات أكثر الناس تكسبا وأطلبهم لرزق يكلفون نساءهم وصبيانهم التحرف والتكسب”. يساعدهم على ذلك ما تزخر به المنطقة من خيرات وموارد فلاحية من أشجار وكل انواع الفواكه والموارد الأخرى كالسكر والزيوت والمعادن… وهذا ما يفسر كون الإمارات السياسية التي انبثقت من سوس وجباله تكون إمارات تجارية ومعدنية بالأساس، كاتمدولت ونول لمطة والمرابطون والموحدون والسعديون والسملاليون، آخر هذه الإمارات المعروفة بتازروالت كانت إمارة أسست عرشها على التجارة، وكانت إليغ هي عاصمة تجارية دولية كبيرة… فأسباب قيام الدول الكبرى بسوس تكون اساسا تجارية ومعدنية لكن يتم تغليفها بالدعوة الدينية والمذهبية خاصة من طرف كتاب وفقهاء السلاطين الذين يكتبون التاريخ…

مثلا الموحدون، كشفت الدراسات الاركيولوجية في مقر سكن المهدي بن تومرت بأرغن بأن منزله كان بمثابة معمل إنتاج زيت أرگان، واستهدفت حركته في الأولى التحكم في محاور التجارة بالاطلس الكبير التي تؤدي إلى اغمات ومراكش… فهي دولة وإن تأسست على عصبية امصمودن إلا أن زعيمها الروحي والايديولوجي كان من قبيلة أرغن بجبال الاطلس الصغير الذي يعتبر وطن جزولة، وتاكيزولت هي ناحية منطقة، وهي قبيلة أو أقبيل اي تجمع من القبائل وتعني أيضا جزولة النحلة، أي ما يعني تحالف سياسي على شكل حزب بالمفهوم الحاضر….

وجزولة أيضا وسوس بصفة عامة، هي التي صعدت إلى واجهة الاحداث خلال نهاية القرن 15 وبداية القرن 16 م لإنقاذ المغرب مرة أخرى من المد الابيري خاصة البرتغال الذي احتل اهم الثغور المغربية ووصل إلى سوس، ولم يكن الرجل المنقذ إلا متصوفا من عمق جزولة، الذي أسس حركة صوفية كبيرة أدت إلى قيام دولة السعديين، بمساعدة سيدي محمد بن مبارك الأقاوي وصلحاء آخرون الذين اسسوا الدولة في قرية تيدسي بضواحي تارودانت، على قدم جبال الاطلس الصغير، وكانت بيعة ملوك السعديين مشروطة بالدفاع عن سوس ومطاردة احتلال البرتغال، وكانت البيعة شفوية بالأمازيغية….وبعد انقراض عهد السعديين نهضت جزولة من جديد وأسست إمارة جديدة وهذه المرة، قاموا بتشييد عاصمتهم السياسية وسط جبال جزولة، على هبط تازروالت، وهي إليغ عاصمة دولة إسملالن، الدولة السملالية، التي كان لها تاريخا عظيما وعاشت عهد الازدهار والنماء وربطت علاقات وطيدة مع بلاد السودان وبلدان كثيرة في اوروبا، وتحكمت على المحور التجاري، تاصورت/ الصويرة وتومبكتو إلى ماوراء الصحراء….وكانت إمارة تجارية بامتياز، والدليل على ذلك عدد التجار الذين استقروا باليغ من اليهود ومن الامم الاخرى، للاسف الشديد تم هدم إليغ مرتين وتم تسطيحها وبناء مدينة تيزنيت كمحل لخليفة السلطان لمراقبة سوس وسواحله وايضا مراقبة جبل جزولة وسملالة. (انظر المختار السوسي إليغ قديما وحديثا).

ولا حاجة لذكر آخر امارات سوس، التي خطت مسارا للاسف لم يكن صحيحا بفعل غباء زعيمها أحمد الهيبة الذي واجه الفرنسيون ودخل إلى مراكش ولم يسمع لرجالات جزولة وفقهائها وخاصة كاتبه الخاص سيدي الحاج الحبيب رحمه الله، واندحرت حركتهم في رمشة عين بسيدي بوعثمان امام قوات الاستعمار الفرنسي سنة 1912، التي واجهتهم بالطائرات…

السياسة في سوس، هي كالماء تخرج من الينابيع بقمم الجبال وتسير في جميع الأودية والانهار، حاجة الأمازيغ في سوس إلى السياسة، هي نفسها حاجتهم إلى الخبز، هي مغروسة في التاريخ منذ أبعد الفترات، ويبدو للقارئ أن أهل سوس يمارسون السياسة بالدين، وهي ضرورة اجتماعية كما فصل فيها ابن خلدون حين تحدث عن حاجة العصبية إلى الدعوة عند الأمازيغ لتأسيس الدول. ولكن في العمق، فالسوسيون يؤسسون الدول لسبب اقتصادي محض وهو التحكم في التجارة، والمناجم. فسوس هي بلاد المحاور التجارية وخطوط القوافل منذ القدم، وهي بلد المناجم، فالمرابطون تمكنوا من الانطلاق كحركة سياسية بعد احتلالهم ممالح تيغزى في موريتانيا الحالية، وغزوهم سجلماسة كأول مدينة في المغرب وبعدها دخلوا أغمات، لبرهان قاطع على أن هدفهم هو احتلال مراكز التجارة والتحكم في مواردها….واحتلال السعديين لمنجم الفضة في ضواحي تامنارت واستغلال موارده حسب ما جاء عند التمانارتي يذكر بما قام به المرابطون في تامدولت والموحدين في زݣندر….

فالتجارة حرفة السوسيون والجزوليون منذ القدم….فهمت فرنسا هذا جيدا وساعدتهم على الهجرة إلى المدن الصناعية كالبيضاء وغيرها وإلى فرنسا ونصحت المخزن بضرورة فتح ابواب التجارة الواسعة للسوسيين خارج مناطقهم وضرورة تشجيع سياسة التهجير في صفوفهم واستقطابهم في العمل السياسي المراقب والمتحكم فيه….

بلاد سوس دائما ما تعطي بدائل سياسية، حين يشعر المركز بالعياء والترهل، بعد سنوات الاستقلال، أسس السوسيون حزب الاتحاد الوطني المنشق عن حزب الاستقلال، وبقيت سوس تعطي اصواتها للاتحاد الاشتراكي طيلة سنوات معارضته للحكومة، وحين تم تدجين الاتحاد بزعامة اليوسفي، هرب السوسيون من الاتحاد واحتموا بحزب سياسي آخر كان يظهر أنه معارض واعطوا له اغلبية مطلقة وهو حزب العدالة والتنمية….وحين ظهر أن هذا الحزب هو الآخر مدجن …فأهل سوس بدأوا يتهربون منه…ولكن حتما لن يتوجهوا إلى حزب إداري مدعم …

فأين سيتجه أهل سوس مستقبلا في ظل عدم وجود بديل سياسي…؟


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments