أحمد عصيد: يسألونك عن العِرق، قل هو إلا خرافة وإعلان حرب
“لا يجب أن نعتمد مقاييس مجموعة عرقية، بل علينا أن نعانق أبعادا إنسانية أوسع وأشمل “محمد شفيق
ورد عليّ سؤال من أحد المواطنين يتساءل فيه عن الأعراق وأصول المغاربة وماهية الصراع العرقي، معبرا عن قلقه من أن بعض المواطنين المغاربة الذين يخوضون النقاش عبر شبكات التواصل الاجتماعي، لا يتورعون عن التفاخر بالأنساب والإحالة على الأصول والجذور البعيدة، متسائلا عن أسباب هذا النوع من النقاش الذي ينطبع بقدر كبير من العنف وعدم الاحترام.
وكان جوابي لهذا المواطن على الشكل التالي:
يُشعرني هذا الموضوع بالكآبة، وبقدر من الامتعاض مصدره شعوري بضعف الوعي المواطن الناتج عن خلل في التربية، ونقص كبير في التأطير والتوعية، مع تهميش العلم واحتقار نتائج الدراسات الأكاديمية الرصينة، والتحليلات المختبرية الدقيقة، فمن المؤسف أن يظل المغاربة مشغولين بقضايا ليست من صميم حياتهم في ظل الدولة الوطنية الموحّدة، التي قضوا في ظلها أزيد من قرن.
يمكن القول بعد كل المآسي والصراعات التي عاشتها الشعوب في تاريخها الطويل بأن فكرة الإنسانية لم تجد بعد صلابتها، وأنها ما تزال بعيدة عن البداهة، يقول كلود ليفي شتراوس في كتابه العرق والتاريخ :”إن فكرة الإنسانية التي تشمل ـ دون تمييز في العرق أو الحضارة ـ كل أشكال النوع البشري لم تظهر سوى متأخرة جدا، ولم تعرف إلا انتشارا محدودا” (العرق والتاريخ ص 14)
هذا معناه أن التمايزات العرقية والإثنية ما زالت للأسف منطلقا للكثير من المواقف والسلوكات التي لا تسمح بالتقارب بين البشر، كما تنعكس سلبا على محاولات تدبير الممتلكات الرمزية للشعوب، بسبب شيوع بواعث الصراع الإثني والعرقي على حساب اللحمة الوطنية الجامعة، مع العلم أن بعض التجارب الفريدة والرائعة، أعطت للبشرية مستندا قويا وإطارا مرجعيا لا غنى عنه للعبرة والتدبّر، ومنها النموذج الرواندي الذي استطاع عبر القيادة الرشيدة والتدبير العقلاني طمس أسباب الحرب الأهلية وإقبارها وبناء وطن للجميع على أساس مفهوم المواطنة، مرتكزا على تعاقد اجتماعي قام أساسا على ضرورة إقبار الخلاف العرقي إلى غير رجعة، والمساواة بين جميع المواطنين في الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية واللغوية، والاعتراف بكل المكونات الهوياتية بدون استثناء، وإدماجها مؤسساتيا.
إن مشكلة الخطاب العرقي أنه لا يعترف بالتاريخ، لأنه يعتبر الإنسان ماهية متعالية، بينما الحقيقة أن سيرة الإنسان على الأرض، تُبرز بما لا يدع مجالا للشك، بأنه عاش مسلسلا طويلا من التبادلات والتفاعلات التي لا تنتهي، ففي الوقت الذي كان فيه التبادل التجاري نشيطا بجانب التبادل الثقافي والديني ، كان التزاوج والتمازج على المستوى الجيني والبيولوجي يتم أيضا بشكل عميق بين مختلف الأقوام والأجناس، وخاصة في المناطق الجغرافية التي شكلت ـ مثل شمال إفريقيا ـ ملتقى حضارات عظيمة، ما جعل السمات الفيزيولوجية تفقد بالتدريج الخصوصيات القطعية التي كانت تتسم بها في ظل المجموعات البشرية المغلقة.
وفي السياق المغربي ما زال بعض المغاربة يخلطون بين الأمازيغية مثلا وموضوع العرق، بينما نجد أن الحركة الامازيغية أقامت خطابها المطلبي وترافعاتها على مدى نصف قرن على ركيزتين صلبتين: العلوم الإنسانية وحقوق الإنسان، وهكذا تم التخلص منذ البداية من النعرة القبلية والعرقية المتواجدة بدرجات متفاوتة لدى الطبقات الشعبية في المجتمع، وتعويضها بخطاب نخبوي قام بصياغة مطالب “الحقوق الثقافية واللغوية”، التي تم الترافع حولها وطنيا ودوليا على مدى نصف قرن، في ظل الدولة الوطنية الجامعة.
ويفسر هذا لماذا طالبت الحركة الأمازيغية بأمور صارت موضع قبول رسمي في الدولة، كمثل المطالبة بلغة أمازيغية وطنية لجميع المغاربة وليس لـ”عرق” معين، وكالدعوة إلى معيرة وتوحيد هذه اللغة اعتمادا على كل تنوعاتها اللهجية.
وقد أظهرت تطورات هذا الملف بالملموس استحالة إقامة أي خطاب ثقافي أو سياسي على أساس عرقي بالمغرب، فالتمازج المجتمعي الذي عرفه البلد عبر قرون طويلة، وكذا التفاعل الذي حدث بين المكونات الثقافية، الأمازيغية والعربية والإفريقية جنوب الصحراء واليهودية والأندلسية، التي أنتجت عبر تفاعلها صيغا وتركيبات جديدة، هذا التمازج يعطي صورة عن حضارة يطبعها التنوع، وإن كان العنصر الثقافي الأمازيغي قد طبع بحكم الموطن والأرض كل العناصر الوافذة بطابع خصوصي صميم ميزها عن مواطنها الأصلية، إلا أنّ ذلك لا يمكن أن يحيل على هوية خالصة.
ومن بين العوامل التي ساعدت على بلورة خطاب الحقوق الثقافية واللغوية بعيدا عن النزعة العرقية طبيعة المواقف السياسية التي عبر عنها المغاربة بدون مراعاة لفكرة الأصول، فكثير من الناطقين بالأمازيغية والذين ينحدرون من قبائل ومناطق توصف بأنها “أمازيغية” كانوا ضدّ الحقوق الثقافية واللغوية بشكل بالغ التشدّد، أمثال بعض الفاعلين المنضوين تحت لواء القومية العربية كالراحل محمد عابد الجابري، أو الذين هم في تيار الإسلام السياسي كالراحل عبد السلام ياسين، بينما من جانب آخر وُجد الكثير من المغاربة الناطقين بالعربية والذين لا ينتسبون إلى أية قبائل أو مناطق أمازيغية، بل يعتبرون أنفسهم من سلالة بني هلال أو بني معقل أو بني سليم، أو من حفدة الأندلسيين النازحين من شبه الجزيرة الإيبيرية قبل أربعة قرون، لكنهم رغم ذلك اتخذوا مواقف مُشرّفة لصالح الحقوق الثقافية واللغوية الأمازيغية، ومنهم الراحل محمد جسوس والراحل عبد الكبير الخطيبي وكثيرين غيرهما، الذين لم ينظروا إلى أصولهم بل إلى الواقع المجتمعي الراهن واعتمادا على معطيات العلوم وحقوق الإنسان ومبادئ الوعي الديمقراطي.
لكن رغم ذلك يستمر الخلط عند كثير من المغاربة بين خطاب الحقوق الثقافية واللغوية وبين الخطاب العرقي، مما يفسر التطاحن العبثي المستمر على مواقع التواصل الاجتماعي، وعندما نقوم بمقاربة هذا الصراع فلسوف نلمس بوضوح بأنه يعود إلى عوامل عديدة أهمها عدم تفعيل مكتسبات دستور 2011، الذي اعترف بجميع المكونات الهوياتية واللغوية، كما يعود إلى المدرسة ووسائل الإعلام، فبالنسبة لجيل كامل تكوّن في ظل الدولة المركزية (على النمط اليعقوبي الفرنسي) وفي عهد الملك الحسن الثاني، لم تقم البرامج التربوية بتربية النشء على التطبيع مع واقعهم اليومي الذي يزخر بعناصر التنوع، بل على العكس تماما ساهمت في خلق اغتراب ذهني كبير لدى المغاربة، أبعدتهم عن الشعور بالانتماء إلى الأرض المغربية، ما أدّى إلى سوء فهم قيمة تلك المكونات، خاصة مع وجود تأثير الإعلام الداخلي والخارجي والإيديولوجيات الوافذة، والتي منها القومية العربية والإسلام السياسي على الخصوص، حيث اعتقد الناس في إطار الوعي القومي بأن نعت “عربي” التي استعملت بكثافة في الحديث عن المغرب والمغاربة، تعني صفة عرقية تربط الناس بأصول مشرقية، كما اعتقدوا مع الإسلاميين بأن الإسلام دين تعريب للهوية لأن لغته العربية، كما أن الخطاب الديني المتشدّد الذي داهمنا مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينات قد أنكر قيمة الخصوصية الثقافية المغربية لأن همّه كان استعادة “الخلافة” و”الأمة”، ما جعل الخصوصية الوطنية شيئا معرقلا للصورة المتخيلة لـ”الدولة الإسلامية”.
نعم إن التحليلات المختبرية تثبت بأن “الجينوم” الأمازيغي يغلب في بيولوجيا سكان شمال إفريقيا على المكونات الأخرى، وهو ما فتئت تؤكده التحليلات المختبرية التي تمت للحمض النووي لسكان هذه الرقعة من الأرض، والتي اعتبرها الكثيرون غير متوقعة، وخاصة في تونس مثلا، وأعلنوا بصددها اندهاشهم واستغرابهم في فيديوهات مسجلة ومنشورة على اليوتوب، وهذا عائد إلى أن التركيبة السكانية الأصلية ـ التي كانت الأكثر عددا على مرّ التاريخ ـ قد عملت عبر العصور على إذابة العناصر الوافدة التي كانت بأعداد أقل بكثير من السكان المحليين، لكن ذلك لا يثبت وجود “عرق خالص” أو “متفوق”، ما دام هناك تمازج كبير حدث منذ فجر التاريخ.
ولهذا نعتبر أن التحليلات المختبرية الجديدة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك انتفاء وجود “عرق خالص” أو “أصل نقي” إلا عند المجموعات البدائية القليلة جدا التي ظلت معزولة عزلة تامة عن التأثيرات والتبادلات مع محيطها. وهذا لا ينطبق على المغرب الذي ظل على مرّ التاريخ ملتقى حضارات ولغات وديانات كثيرة، طبعت شخصيته الحضارية بطابع التنوع الذي لا يمكن تجاهله.
من هذا المنطلق فعندما يطالب دعاة التعريب بمواقع أكبر للغة العربية فهم يفعلون ذلك لكونها لغة الدولة دستوريا وليس لاعتبارات عرقية، نفس الشيء يقال عن المطالب الأمازيغية، فهي لا تحيل على عرق خالص غير موجود واقعيا بقدر ما تحيل على إرث حضاري يقوم على اعتبار الأمازيغية هوية ولغة وثقافة منفتحة ومتفاعلة ذات امتداد في المجتمع المغربي وفي أنماط السلوك والتفكير والنظم الاجتماعية، إضافة إلى أنها اليوم صارت مثل العربية تماما، لغة رسمية للدولة.
أحمد عصيد كاتب وشاعر وباحث في الثقافة الامازيغية وحقوقي مناضل من اجل القضايا الأمازيغية والقضايا الإنسانية عامة