الطلبة الامازيغ وقضية الصحراء : جنود بلا مجد
حين كنا في الجامعة بموقع اكادير، كانت الحركة الثقافية الأمازيغية بمثابة ملاك خارق نزل من السماء السياسية الغائمة والقاتمة، ليست لأنها جاءت بدين جديد أو بوحي مقدس، وإنما لكونها جاءت برسالة إنقاذ الشباب والطلاب من وحل الايديولوجيات المميتة، اليسار القاعدي الماركسي يقاتل التنظيمات الإسلامية، وهذه التنظيمات في حرب مقدسة ومستمرة مع القاعدين، بينهم انهار من الدماء كانت تتدفق من وجدة مرورا بفاس ومراكش ثم اكادير، كل واحد يريد الثأر من الآخر، ناهيك عن تطاحنات التيارات القاعدية التي تفرخت من الماركسية الليلينية، كل فيلق يكتب ورقة معينة تسمى في ادابيتهم الكراسات او الأوراق، إلا ويخلق فيلقا مستقلا ويعلن الحرب على التكثل الأم، اما ينعتون بالتحريفيين والفوضويين وما شابه… في أكادير قلت حدتهم بالمقارنة مع المواقع الأخرى، ولكن في المقابل ابتلى هذا الموقع بنيران مكون طلابي من نوع آخر وهو ما يسمى بالطلبة الصحراويين الذين يدافعون عن انفصال الصحراء، وهو بذالك يطرح نزوعات إقليمية متطرفة يكن العداء الشامل للجميع وضد الجميع، ولا يتحالف إلا مع تيار صغير في الصف القاعدين هو البرنامج المرحلي، هو الآخر يحمل نزوعات ماركسية متطرفة،ولكن في أكادير قليل العدد والقوة لعدة اعتبارات( ليس هذا مكان التفصيل فيها).
وسط هذا الغم والزخم المشحون من الايديولوجيات المتناحرة والمتصارعة داخل الساحة الجامعية، خرج المكون الامازيغي من الخلف بعد عقود من التأمل والتفكير يطرح بديلا جديدا ويفتح منفذا واسعا للطلاب للتخلص من الايديولوجيات الهدامة والمميتة، وطرحت الحركة الورقة الثقافية، كأول مكون طلابي في تاريخ اوطم يحمل اسمه مفهوم الثقافة، ليس لمناقشة السياسي والنقابي من زاوية منغلقة متأكة على الثقافة من مفهومها الضيق، ما يعتبره الماركسيون المغاربة بالثقافة الشعبية، بسبب افراطهم في المادية وفهمهم لبنية الصراع. وإنما الطرح كان شموليا في المفهوم الفلسفي والانثروبولوجي للثقافة الذي يستوعب النقابي والسياسي ويخدم الإنسان بشكل عام بكونه كائنا ثقافيا بالدرجة الأولى.
طبيعي لم تفهم هذه الكائنات الايديولوجية رسالة الحركة الثقافية الأمازيغية الغاية في النبالة، التي لم تقدس خطابها الجامد وإنما قالت أمام الملأ، إليكم خطابي يستمد قوته من العلوم الانسانية وضعته على عجلة الحركية والتاريخ يسير ويبني نفسه على خطوات السيرورة العلمية ويتطور مع ما استجد منها وينمو مع العقل والمنطق. لم نكن نحمل مجاديب لتصفية المكونات من الساحة وتجديبها، ولم نكن نحمل سيوفا ومزابر لقطع الرؤوس، فقط كنا نحمل الكتب والمناشر والمطبوعات والمجلات التي تعني بالامازيغية من كل تجلياتها البحثية والعالمية، وحملنا أيضا ثقافتنا الأمازيغية وضروبها الفنية والابداعية لمحاصرة المد العروبي والشرقي، ادخلنا إلى الجامعة ولأول مرة اشعار سيدي حموالطالب لنشر الحكمة وأغاني إدير لنشر السعادة ومعزوفات لونيس معتوب لغرس الحرية واشعار ازنزارن لادراك الالتزام….
وسعنا من مساحات النقاش والتناظر، فتحنا نقاشات علمية وتاريخية مع الاسلاميين في قضايا شتى، التراث، العقل، الإسلام السياسي بأطيافه… ونفس الشيء اعددنا العدة للتيارات الماركسية الليلينية، وكشفنا للطلبة عيوب الخطاب الماركسي العروبي في كثير من الجوانب، واظهرنا طبعا تفوقنا الكبير من خلال القراءة الجيدة للنصوص المركسية ومدارسها في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا ثم التجارب الاسيوية كالماوية ثم ماركسية القوميين العرب التي كانت بالنسبة لنا الوقود الذي نتسلح به لأكل القاعدين وهزمهم، دون أن ننسى دور الفيبرية التي لعبت دورا مهما لنسف الأسس التي بنى عليها القاعديون فهمهم للماركسية، دون أن ننسى الاشتغال بشكل كبير على تنمية وبناء الخطاب الامازيغي واعادة ترميمه، من خلال قراءة نقدية للتاريخ، والاشتغال على الثقافة والحضارة واللسانيات وفهم دقيق للتاريخ السياسي المعاصر وادراك ماهية المخزن ووظائفه وآليات اشتغاله… في المرحلة التي اتحدث عنها والتي عشتها برفقة العديد من المناضلين من شتى المناطق والقبائل هي سنة 2000 و 2001و 2002، وهي السنوات التي عشتها داخل الاطار العتيد الحركة الثقافية الأمازيغية وهي سنوات التي عرفت فيها الحركة دينامية كبيرة ومستمرة داخل الساحة الجامعية بعد تأسيسها لهياكل وطنية وأرضية مرجعية موحدة داخل جميع المواقع، مع العلم انه توجد الحركة داخل الجامعة طيلة عقد التسعينات وقامت بعمل جبار في تنظيم العديد من الأشكال النضالية والأنشطة الثقافية بمساهمة مناضلين سبقونا إلى الجامعة ويمكن لهم الحديث عن تجربتهم. الحركة الثقافية الأمازيغية التي كانت فعلا مدرسة سياسية ونضالية تخرج منها الالاف المناضلين والكوادر منهم من يعتلي اليوم مناصب رفيعة في الدولة، ومنهم من لازال يشتغل وفق إمكانياته وظروفه التي يحتمها الزمن والمكان والسياق…
ما سببب هذا الكلام، سببه ما عانت منه الحركة الثقافية الامازبغية، الإطار العتيد، من المكون الإقليمي السياسي المتطرف، وهو الطلبة الصحراويين، الذي كان يخوض حروبا بالوكالة معنا بايعاز من الطلبة القاعديين، البرنامج المرحلي، ولعدة اعتبارات، كنا نتحاشى الخوض في النقاشات العقيمة معهم، اولا هم ليسوا بتيار يناقش داخل الجامعة، هم لديهم قضية مركزية واحدة هي الانفصال عن المغرب وتأييد الجمهورية العربية الصحراوية الديموقراطية، ويدخلون الي الساحة الجامعية بلباس عسكري، وفي الغالب يمارسون ممارسات مشينة داخل الجامعة والحي الجامعي في إثارة العنف ضد باقي الطلبة خاصة القادمين من المناطق الأمازيغية، ويمارسون الغلبة والبداوة والاعتداء على الطلبة، وحضرت اكثر من مرة كيف اعتدوا على الطلبة أثناء سحب المنح او داخل مقصف الكلية… لكن هذه الأمور تغيرت بعد تأسيس الحركة الثقافية الأمازيغية وتقوية صفوفها ومع مرور الزمن اختفت غطرسة تلك الممارسات الحقيرة بعد معارك عنيفة…
ما علينا، كنا نحرس كثيرا على عدم إثارة نقاش قضية الصحراء التي كان موقفنا منها ثابتا لا يتغير، وهو كون “الجمهورية وهمية” ولكن حثيات تصريفه كان يخضع لمنطق الربح والخسارة على الميدان، فنحن نتصارع في الداخل مع الاسلاميين والقاعدين والثوريين وفي الخارج رجال الاواكس والبوليس يتربص بنا، فمالذي سنربح في معارك مجنونة مع مكون عنيف عرقي متطرف. اذن نتحاشى الخوض في شؤونهم لبناء التنظيم وتوعية الطلبة واقناعهم بالقضية الامازبغية، بالفعل مدة وجيزة تمكنا من بناء أكبر تنظيم طلابي على مستوى موقع أكادير جماهيريا ونضاليا وسياسيا.. وهو الأمر الذي لازال مستمرا طيلة 20 سنة..
في بداية سنة 2002 أثناء حلقية مركزية مفتوحة لتقديم برنامج الايام الثقافية بكلية العلوم، كان ذلك مساء يوم الجمعة، اخذ طالب مناضل قادم من موقع وجدة، يوجد حاليا في اسبانيا اسمه يوسف، كان ذكيا ونبيها، جاء برفقة زميل له اسمه افدجاح يوجد الان في الرباط، هو الآخر متمكن وموسوعي، جاءا لمؤازرتنا في موقع أكادير، استرسل الطالب الأول في مداخلته التي كانت أولية للتعريف بأدبيات الحركة الثقافية الأمازيغية واذا به ينعرج في النقاش حول القومية العربية ومصائبها ثم ذكر محاولة خلق الجمهورية الوهمية في الصحراء الأمازيغية، هو لم يكن يعلم بخصوصية الموقع، حاولنا تسيير الأمور بالتي هي أحسن، لم أعد اتذكر مسير الحلقية، عن طريق تقليص المداخلات وحصرها، ثم الاستعداد في تجميع الاروقة والملصقات… احد الطلبة القاعديين كان في مهمة حراسة الحلقية ومراقبتها على شكل البوليس السري، ما أن سمع الجمهورية الوهمية هرول لتجميع الصحراويين، الحاضر اعلم الغايب، بسرعة اقل من نصف ساعة تجمهر عدد قليل من الصحراويين على ما تبقى من الحلقية، وطلبوا منا الاعتذار وسحب كلمة. “الوهمية”.. بعد نقاشات جانبية ومناوشات بينية، ارخى الليل سدوله غادر الطلبة كلية العلوم، وتوعدونا يوم الاثنين القادم إما الاعتذار أو قطع رؤوس الجميع..
استمر النقاش في الحي الجامعي مع الطلبة الصحراويين، ليلة الجمعة والسبت والأحد بقيادة مناضلي موقع أكادير لم احضر معهم، كانوا يقطنون بالحي وكلهم كانوا قدماء يعني السنة الثالثة والرابعة ومتمكنون اكثر من الخطاب السياسي… ، لم تسفر المفاوضات على شيئ، الامازيغ يمتسكون بعدم سحب الوهمية وعدم الاعتذار، والصحراويون يتوعدون اما الاعتذار وأما العنف وافشال الايام الثقافية وقنبلة الساحة….
بالنسبة لنا لا يمكن لنا إفراغ الساحة وعدم تطبيق ما هو مسطر في البرنامج، ذلك يعني الموت والحياة، فعلا كنا مجانين، قمنا بحملة واسعة جدا داخل الجامعة وخارجها، يوم الاثنين نكون ولا نكون، نحن امازيغ وهذه ارضنا سنستمر في الأيام الثقافية مهما ما كلف ذلك من تضحيات… ولكن بموازاة ذلك دخلنا في نقاش هادئ ومستمر مع مناضلي المواقع المؤازرة لنا في إيجاد حل سياسي قليل الخسائر، لأن هاجسنا هو الاستمرار في الأيام الثقافية…
في الصباح الباكر من يوم الاثنين اقتحمنا أسوار الكلية قمنا بتثبيت اللافتات الأمازيغية، الاروقة الملصقات، واغاني معتوب لونيس وازنزارن وادير تصدح بهم ساحة المدرجات، وإنزال كثيف جدا للطلبة الامازيغ، وللشهادة ساندونا شباب ليسوا بطلبة فقط لأنهم يعانون من غرسة الطلبة الصحراويين، كان الطلبة مستعدون لكل شيء، ما أن بدأنا في الشعارات لافتتاح الحلقة المركزية على الساعة العاشرة صباحا، حتى تقاطر علينا الطلبة الصحراويين ملثمين يرتدون لباس عسكري ومدججين بالسيوف والهراوات والمزابر، واقتحموا الحلقية التي كانت من أكبر الحلقيات التي شاهدتها في تاريخي داخل الكلية…
اتفقنا على ضبط النفس وعدم إثارة ردود الفعل، وسمعنا كلاما قبيحا واستفزازات، واخذ زعمهم الكلمة كان يدعى س. تمكليد( على ما اتذكر) ، اسمه امازيغي ولكن للأسف اصيب بجنون الايديولوجيا المقيتة، واسترسل في الكلام وقال أننا وصلنا مع الطلبة الامازيغ الباب المسدود ولا يمكن أن نقبل إلا بالاعتذار، والطلبة الصحراويين يصيحون بالشعارات… بعد أخذ وشد وجدب ومشاحنات بيبنية في جوانب الحلقية، نحن كنا اتفقنا مع الطالب الذي جاء من وجدة الذي اقترح علينا انه هو الذي سيحل المشكل مادام انه هو السبب في ذلك، واتفق معنا انه سيدخل في نقاش ثم يقول لهم “أنا أعتذر لسوء فهمكم لما قلت” هما غير سمعوا اعتذر ورفعوا شعارات وانسحبوا منتشين بانتصار مزعوم…. اتممنا نحن الايام الثقافية بنقاش هادئ ومثمر وبنغمات إدير….
وللحقيقة والتاربخ، كنا أكثرهم عددا وعتادا ونمتلك قوة اكثر منهم ولكن لم نفكر ابدا في العنف واراقة الدماء طلبة جلهم امازيغ من آيت باعمران واسا وكلميم وطانطان وحتى العيون والسمارة هم في آخر المطاف طلبة… ولكن هم يحملون شحنة زائدة في سفك دماء اخوانهم الطلبة الذين يعتبرونهم أعداء ومستعمرون ومحتلون لارضهم..
كل هذا كنا نقوم به إيمانا بالقضية الأمازيغية العادلة المهضومة في الحقوق والقوانين، في مقابل ذلك كانت الدولة تمنح المنحة كاملة لجميع الطلبة الصحراويين، والتنقل والحي الجامعي وبطاقات الإنعاش والوظيفة مباشرة بعد التخرج والاستفادة من منح الدراسات العليا، اما الامازيغ فلم يكن ذلك ممكنا ومواتيا بالنسبة لهم، لا منحة كاملة، لا تعويضات التنقل، لا حي جامعي، لا بطاقات الإنعاش ولا توظيف مباشر، وكان عدد الطلبة القادمين من تنغير ودادس وزاكورة ووارزازات وتارَودانت والصويرة اكثر بكثير من الطلبة الصحراويين وكانوا يعانون من أزمات اجتماعية قاهرة… ورغم ذلك الدولة تعير لهم اي اعتبار…
هذه معاناة قليلة عانينا منها ولازال الطلبة الامازيغ يعانون منها إلى الآن وقد قدموا في سبيل القضية الأمازيغية والقضية الوطنية شهيدا شهما هو عمر خالق ازم الذي اغتالته سيوف الانفصال تحت تسمية الطلبة الصحراويين بمدينة مراكش….
خلاصة القول، اذا كان هناك اليوم من يستحق تاج الوطنية الصادقة الخالصة بدون مناصب ولا كراسي ولا أموال الريع الصحراوي والحزبي والإداري هم الطلبة الامازيغ، يناضلون ضد المخزن من أجل حقوق عادلة ومشروعة، ويناضلون بصدق من أجل الوطن أيضا وبدون مقابل…
فهيهات من يكتب الان على هاتفه النقال عبارات الوطنية وبين الذي اكتوى بلهيب مزابر الانفصاليين الصحراويبن داخل الساحة الجامعية وما اكثر الطلبة الامازيغيين الذين لا زالوا يحملون في اجسادهم ندوب جراح لم تندمل بعد، فقط لأنهم حاربوا بالفكر فيروس الانفصال ووهم الكيان العربي فوق الصحراء الأمازيغية….
عبدالله بوشطارت
مناضل أمازيغي وإعلامي وكاتب وباحث في التاريخ