الگرگرات : العبور الأخير


حرب شرببة واغتيال الأمازيغية في الصحراء:

الصحراء الكبرى وطن الامازيغ بامتياز، كل الدلائل والمآثر الدفينة والنقوش الصخرية تعبر عن وجود حضارة امازيغية عريقة في تلك الفيافي العريضة الممتدة. وصلتنا معلومات قليلة جدا عن الماضي السحيق للامازيغ في الصحراء، تبين ملامح عيشهم وأنماط حياتهم قبل ألاف السنين، وان كانت لا تزال مستمرة إلى حد الآن في صحراء الطوارق، إلا أن غياب الوجود الامازيغي اليوم في مساحات شاسعة ومجالات جغرافية كانت بمثابة موطن قبائل أمازيغية عريقة خاصة في دولة موريطانيا الحالية، يطرح علينا أكثر من سؤال حول صيرورة هذا التحول، من مجال ثقافي أمازيغي في كل شيء، إلى فضاء ثقافي بديل انمحت فيه كليا معالم الامازيغية من لغة وثقافة وسلوك…

إننا ونحن نخوض في هذا النقاش، نعلم مسبقا بصعوبة الحديث عن هذا التحول الذي استهدف البنيات والذهنيات على حد سواء، من وطن كان تحت سيطرة القبائل الامازيغية من “لمتونة” و”مسوفة” و”كدالة” وغيرها كثير، وشكل مهدا لأول امبراطورية أمازيغية عظيمة حكمت الصحراء وبلاد المغرب والأندلس خلال العصر الوسيط، ليصبح اليوم مجالا تسيطر عليه القبائل العربية وتسود فيه لغة “الحسَّانية”، بينما اندثرت وتقهقرت لغة الأصل، لغة الصحراء. فكيف تمت عملية تعريب الإنسان والمجال في الصحراء الغربية الجنوبية- موريتانيا الحالية-؟ هل هذا المسلسل تم بشكل تلقائي أو نتيجة الحرب والعنف والضغط؟ كيف ذابت وانمحت قبائل صنهاجة من الوجود ولم تعد تذكر حتى أسماءها وأعلامها ؟ وكيف تحول اسم “إزناكْن” من اسم لقبائل أمازيغية كثيرة وقوية، إلى مفهوم “قدحي” يوصف به الإنسان الخضوع التابع الفاقد للحرية والشخصية، وأضحت “ازناكة” فئة اجتماعية تنتمي إلى المجتمع السفلي.

تاريخيا؛ منذ القرن 17م تغير كل شيء في موريتانيا، حيث يمكن اعتباره نهاية تاريخ الامازيغية في هذا القطر، وبداية سيطرة ونفوذ قبائل حسان من بني معقل، بعد حرب مشهورة تسمى حرب “شُرببَّة” انتصر فيها العرب والعروبة بحدة السيف. وتحولت الصحراء من بلاد صنهاجة إلى بلاد البيضان، الذي يقصد بهم مجازا عرب حسان، وبقدرة قادر تغيرت كل أشكال الثقافة الامازيغية الصحراوية من لباس وموسيقة ولثام وشعر….لتسمى اللباس الحساني والموسيقى الحسانية وقس على ذلك من أنماط العيش والثقافة والسلوك والتفكير.

هذه المقالة ستحاول رصد هذا التحول باختصار، وليس هدفنا حسم موقف معين، وإنما فهم الواقع بالعودة إلى التاريخ. وحتى أننا ننظر إلى المستقبل فلابد من الوعي بضرورة قراءة التاريخ بكل موضوعية، فلا يمكن الحديث عن المثاقفة بدون معرفة وفهم متجدد للثقافات.

على سبيل التأصيل : الصحراء وطن صنهاجة

يقول اليعقوبي، الذي عاش خلال أواخر القرن التاسع الميلادي، ” ومن سجلماسة لمن سلك متوجها إلى القبلة يريد أرض السودان… يسير في مفازة وصحراء مقدار خمسين رحلة، ثم يلقاه قوم يقال لهم أنبية من صنهاجة في صحراء ليس قرار شأنهم كلهم أن يتلثموا”؛ ويضيف نفس الرحالة الذي يعتبر من بين المصادر العربية الأولى التي تحدثت عن قبائل صنهاجة بشي من الدقة والتفصيل، حيث أشار إلى رقم إحصائي مهم للغاية يكشف ولو بشكل تقريبي عن عدد سكان صنهاجة في ذلك الوقت، ويقول: “…ويكونون نحو ثلاثمائة ألف بين نوالة وخص …” أما عن القبائل الصنهاجية فهي كثيرة جدا، ويتفاوت حجمها من قبيلة إلى أخرى، ويذكر المؤرخون بعض أسمائها، كلمتونة وكدالة ومسوفة ومسراتة وتكلاتة ومنداسة وبني وارث وبني مسفير وبني لماس وبني فشتال وتريكة وتاركا ولمطة وجزولة وسرطة وسمسطة……ويشير المؤرخ الناصري إلى وفرة وكثرة قبائل صنهاجة بالمغرب حيث يقول ” لا يكاد قطر من أقطاره يخلو من بطن من بطونهم في جبل أو بسيط حتى زعم كثير من الناس أنهم ثلث البربر…”، وتجدر الإشارة إلى أن هذه القبائل نزح البعض منها إلى الشمال خلال صعود حركة المرابطين في مراحل متفرقة.

وخلال القرن العاشر بعد الميلاد، ابن حوقل يقول ” ومن المتعزبين الموغلين في البراري صنهاجة أُودَغُستْ…وكان ملك صنهاجة أجمع يقول إنه يلي أمرهم منذ عشرين سنة…” أوردنا هذا النص لابن حوقل، لأنه يشير إلى ما يمكن اعتباره أول تنظيم سياسي أمازيغي في الصحراء قبل ظهور المرابطين تصلنا عنه معلومات ومعطيات مكتوبة، وهي مملكة “اودغوست” التي تقع حاليا في منطقة “أركيز” باقليم الحوض في موريتانيا. وكانت هذه المملكة الامازيغية تحكم سيطرتها على القبائل الصنهاجية المنتشرة في المنطقة، وتتصارع مع ممالك أخرى كثيرة ببلاد السودان. ولم يتحدث الرحالة والكتاب العرب كثيرا عن هذه المملكة الصنهاجية ولا عن سابقاتها، خاصة حول تاريخ نشأتها وخصوصياتها، بحكم أن المنطقة خلال تلك الفترة لم يصلها الإسلام بعد، وهو ما نستشفه من نص “اليعقوبي” في قوله ” غسط وهو واد عامر فيه المنازل وفيه ملك لهم لا دين له ولا شريعة يغزو بلاد السودان وممالكهم كثيرة…”

وحسب المصادر التي تتحدث عن مملكة “أُودَغُسْت”، تشير إلى أن ملوكها كلهم ينتمون إلى قبيلة لمتونة، حيث يقول ابن ابي زرع في هذا الصدد “…وأول ملك منهم بالصحراء يتلوتان بن تلاكاكين الصنهاجي اللمتوني” . وحسب الباحث “الناني ولد الحسين” فإن الملك تلاكاكين من المحتمل جدا أن يكون توفي سنة 775م.

إن وجود أمازيغ صنهاجة وتجدرهم في الصحراء لا غبار عليه، وإن لم نتوفر على المصادر التاريخية قبل دخول الإسلام إلى الصحراء، إلا أن ما وصلنا من نتف وتلميحات في المصادر العربية بعد مرحلة انتشار الإسلام بها، تشير إلى وجود حضارة عميقة وعمران عريق للامازيغ في الصحراء، ويطلق عليهم أسماء متعددة مثل “بلاد الملثمين” “بربر الصحراء”. ويقول بان خلدون في هذا الصدد “هذه الطبقة من صنهاجة هم الملثمون الموطنون بالقفر وراء الرمال الصحراوية بالجنوب، أبعدوا في المجالات منذ دهور قبل الفتح لا يعرف أولها”.

أما حسن الوزان المعروف بليون الإفريقي، في حديثه عن صحراء ليبيا، فقد تكلم بشكل صريح ومباشر عن المنطقة الغربية للصحراء، حين سماها “صحراء صنهاجة” وقد كتبها في الأصل “زناكة” وهو الاسم الامازيغي لهذه القبائل- إزناكن- قبل تعريبها، ويشير الوزان في كتابه القيم وصف افريقيا ” سنبدأ بصحراء صنهاجة فنقول إن هذه الصحراء شديدة الجفاف وعرة، تبتدئ عند المحيط غربا وتمتد شرقا إلى ملاحات تغزة، وتنتهي شمالا في تخوم نوميديا، أي إقليم سوس عند أقا ودرعة، وتسير جنوبا حتى ارض السودان عند مملكتي ولاتة وتمبكتو…”.

دخول العرب إلى الصحراء والحرب الأولى: سقوط إمارة “أَبْدُوكْلْ”

دخول العرب إلى شمال إفريقيا عموما كان في البداية خلال ما يسمى بزمن “الفتوحات” أي في المرحلة الأولى لدخول الإسلام، لكن لم يكن استقرارهم كبيرا بحكم طبيعة الغزوات التي يقومون بها في بلاد الامازيغ، ويؤكد المؤرخ الناصري هذا بقوله ” إعلم أن أرض افريقية والمغرب لم تكن للعرب بوطن لا في الجاهلية ولا في صدر الاسلام….وإنما كان المغرب وطنا لأمة البربر خاصة ولا يشاركهم فيه غيرهم….ولكن العرب الداخلون إلى ارض المغرب في ذلك العصر إنما كانوا يدخلون غزاة مجاهدين على ظهور خيولهم فيقظون الوطر، ثم ينقلب جمهورهم إلى وطنهم ومقرهم من جزيرة العرب وان بقي القليل منهم…”

بيد أن المؤكد في تاريخ المغرب، هو أن دخول القبائل العربية البدوية كان على عهد الدولة الموحدية خلال حكم عبد المومن وخاصة بعد وصول يعقوب المنصور إلى دفة الحكم، الذي نقل وهجر الكثير من هذه القبائل من افريقية (تونس الحالية) إلى المغرب الأقصى وذلك سنة 1188م. وقد تميز دخول وانتشار العرب في المغرب بعدة مراحل، لا تهمنا فيها إلا المرحلة الأخيرة التي عرفت دخول القبائل المعقلية وانتشارها في الجنوب الشرقي إلى حدود سوس ودرعة في أواخر عصر الموحدين، وتوغلت في الجنوب الغربي مع نهاية القرن 13م.

من الصعب جدا معرفة تاريخ وتفاصيل نزوح العرب نحو الصحراء، لأسباب تعود بالأساس إلى نمط التحرك وانتقال هذه القبائل التي تعيش على النهب والسبي والفوضى، وقد أشار ابن خلدون إلى أن عرب معقل كانوا في عهده أوفر قبائل العرب ومواطنهم بقفار المغرب الأقصى، ويقول ” مواطن ذوي حسان من درعة إلى البحر المحيط وينزل شيخهم بلاد نول قاعدة السوس فيستولون على السوس الأقصى وما إليه وينتجعون كلهم في الرمال إلى مواطن الملثمين من كدالة ومسوفة ولمتونة”. كما توجد بعض المعطيات سابقة عن فترة ابن خلدون التي تدل على أن هذه القبائل كانت تجوب مناطق جنوب سوس. أما حسن الوزان فقد أوفدنا بتوطين مركز لهذه القبائل حين يتحدث عن عرب معقل، ” …تساكن دليم الصنهاجيين الافريقيين في صحراء ليبيا، وليست لهم قيادة ولا يتقاضون أي أجر، فهم لذلك صعاليك ولصوص…كثيرا ما يأتون إلى درعة ليستبدلوا بمواشيهم التمر…يبلغ عددهم عشرة الاف رجل…” ويستطرد الوزان ” تقطن الاوداية الصحاري الواقعة بين ودان وولاتة…ولا يكاد يحصى عددهم، ويقدر المقاتلون منهم بسبعين ألف رجل ..”

لكن السؤال الذي يهمنا في هذا المقام، هو كيف دخل هؤلاء البدو العرب المقاتلون الذين يعيشون بالسيف والغزو إلى بلاد صنهاجة؟.

يؤكد جل الباحثين في تاريخ موريتانيا، أنه بعد سقوط المرابطون في شمال المغرب، استمرت كيانات سياسية تابعة لهم في بلاد صنهاجة بزعامة إمارات سياسية صنهاجية، لا يسع المجال إلى ذكرها والحديث عن حيثياتها، إلا أننا سنشير إلى واحدة منها وهي التي كانت تتحكم في موازين القوى في جنوب غرب الصحراء، ويتعلق الأمر، بإمارة “أبْدُوكْل ” اللمتونية، وتعني كلمة “أبدوكل” بالامازيغية الصنهاجية، التجمع، والتداخل والتحالف، وهي جدر من كلمة مازالت معروفة ومنتشرة في جميع مناطق شمال افريقيا الحالية، وهي “تيدوكلا”. وهذا ما يوحي على أن هذه الإمارة هي عبارة عن تحالف سياسي ناتج عن تجمع لعدة قبائل ومجموعات سياسية. وحسب الباحث “حماه الله ولد السالم” فإن مجال إمارة “أبدوكل” كان يشمل الساقية الحمراء شمالا إلى تخوم أدْرَارْ الحالي المتاخم للمجال الخاضع للممالك السودانية. وسنح لهم هذا الموقع بمراقبة الطريق التجاري الرئيسي والاستراتيجي في ذلك الإبان، الرابط بين وادي درعة وبلاد السودان حتى أواخر القرن الرابع عشر الميلادي.

واشتهرت هذه الإمارة السياسية بمواجهتها ومقاومتها للزحف الحساني الأول الجارف والغازي للصحراء، وخاضت معهم حربا ضروسا وطويلة الأمد، خاصة في مناطق “إكيدي” الواقعة شمال أدرار. حروب أثرت بشكل كبير على قوة دولة “أبدوكل” بسبب تغيير الطريق التجارية نحو الشرق عبر منطقة توات مما جعل الضعف يدب في مداخليها الاقتصادية التي كانت عبارة بالأساس عن ضرائب تجارية، وتراجعت قوتها السياسية والحربية، الأمر الذي استغله عرب حسان خاصة، بعد أن تحالف معهم الشيخ “سيدي محمد الكنتي” ضدا على أخواله اللمتونيين. وجاء في الرسالة الغلاوية “لسيدي محمد الخليفة الكنتي” الذي توفي سنة 1826، وهو يتحدث عن تحالف جده مع قبائل حسان ضد صنهاجة أبدوكل” …واستوطنها بمن معه من تلامذة…محترما مكرما معظما عند سائر دولة المرابطين من لمتونة وبني حسان مقدما عليهم محكما فيهم….إلى أن جرى القضاء بأمر غاظه على أخواله أبدوكل، وهم يومئذ متغلبون على الصحراء …فارتحل عنهم غاضبا لهم، فورد عليه غزو من أولاد الناصر….وتألب إفناء حسان بمن إنضاف إليهم فصبحوا لمتونة وهم غارون….فهزموهم هزمة لم تبق منهم على مجتمع….وضربوا حسان على رقابها المغارم…”. يقصد بدولة المرابطين من لمتونة إمارة أبدوكل، وهذا ما يعطينا دليلا على أن هذه الإمارة هي استمرارية سياسية لدولة المرابطين المعروفة.( انظر المزيد في الرسالة الغلاوية لسيدي الخليفية محمد الكنتي، تحقيق حماه الله ولد السالم)

وقد دامت هذه الحرب الأولى بين عرب حسان وأمازيغ الصحراء ما يزيد عن 20 سنة بين كر وفر، وقدرها الباحث حماه الله ولد السالم ما بين سنة 800 و830 هجرية، أي مع بداية القرن 15م. وأسفرت عن نتائج قاسية ووخيمة على مستقبل صنهاجة حيث فُرضت عليهم المغارم وحظر السلاح وسيطرة بني حسان على كل قبائل لمتونة وعلى المجالات الحيوية، كما فتح هذا الانتصار الطريق أمام حسان خاصة أولاد الناصر للتوسع والهجوم على مناطق أخرى. وبدأت بذلك العمليات الأولى لفرض التعريب اللغوي والنسبي وانتشار الثقافة العربية التي كانت ايدلوجيية القبائل الحسانية المنتصرة التي بسطت قوتها السياسية والحربية…

لكن مع ذلك مازال أمازيغ صنهاجة يتحركون في مجالات متاخمة ودخلوا في مرحلة الكمون والانكماش الداخلي إلى حدود القرن السابع عشر حيث انفجرت حرب خطيرة أشد بأسا عن الحرب الأولى، تكبد فيها الامازيغ هزيمة ثانية وأخيرة ليدخلوا مرحلة الاضمحلال والتلاشي النهائي….

حرب شُرْبُبَّة ونهاية الامازيغية بموريتانيا

يذهب رأي جميع الباحثين في تاريخ الصحراء الغربية وموريتانيا تحديدا، الأجانب منهم أو المحليين على أن حرب “شُرْبُبَّة” شكلت منعطفا حاسما في التاريخ الحديث لهذه المناطق، إنها الحرب التي تحطمت فيها كل أحلام الامازيغ- صنهاجة- الملثمين في الانعتاق وبلورة مشاريع سياسية وحدوية قوية على شاكلة النموذج المرابطي. اندلعت هذه الحرب ما بين 1671 و1677م، بين قبائل صنهاجة المعروفة بالزوايا، وقبائل عرب حسان بزعامة المغافرة.

في سياق إعادة تجميع قوى قبائل صنهاجة المفككة والموزعة اثر الزحف الحساني وغزواته على القبائل، تشكل حلف سياسي بين خمس رجال ثقاة، إسمه تْشَمْشَة- شمش- سْمُّوسْ- أي خمسة باللغة الامازيغية الصنهاجية؛ وينتمون إلى قبيلة “مدلش”، هذا التحالف الكونفيدرالي تأسس في وسط يهيمن عليه الظلم والعنف والجور الممارس من قبل مجموعات القبائل العربية المحاربة، مما جعله يتحول إلى نواة حركية دينية إصلاحية بديلة تمتح نفس أسلوب وخطاب الإرث المرابطي الأول الذي أسسه “عبدالله ابن ياسين” وسط قبيلة لمتونة، هذه الحركة المعروفة في الاسطوغرافية المحلية بحركة “ناصر الدين” شكلت آخر حلقة من مسلسل المشاريع السياسية والدينية الامازيغية في جنوب الصحراء الغربية. ويقول محمد اليدالي الذي ترك لنا نصا تاريخيا مهما عن هذه الحركة، عاش ما بين 1685م و 1753، في هوية هذا التحالف ” أنتم جماعة تشمشة قدوة الزوايا قديما وحديثا، وأسوة لها يقتدون بكم في كل أمر”.

في البداية خرج “ناصر الدين” الذي كان يسمى “أوبك”، إلى الناس يدعو إلى الزهد والتوبة والإصلاح الأخلاقي بدون خطاب سياسي، وبعد أن تكتل والتف الناس حوله بدأ في إعلان الخطوط العريضة لمشروعه السياسي، وتحولت بذلك البيعة والطاعة الروحية إلى بيعة سياسية صريحة، أسس أمارة وعين وزراء وقضاة كلهم من تشمشة. وقاد بصحبة جيشه وأنصاره عمليات التوسع نحو الجنوب على ضفاف نهر السينغال، معلنا الجهاد في سبيل الله، وحقق انتصارات مهمة وكثيرة.

وخوفا من نجاح وصعود حركته السياسية والدعوية، قام عرب حسان بقيادة المغافرة، بالهجوم على إمارة تشمشة الصنهاجية، مما أدى إلى تأجيج الحرب بين الطرفين، ويقول اليدالي” ثم ائتمرت الطلبة بينهم وتشاورا ماذا يفعلون لما أغارت المغافرة، فكان أول من تكلم منهم الفاضل ابن ابي الفاضل البوحسني. فقال : أيها الناس، جمعوا على الإمام العادل من الجنود ما يوجب عليكم قتال هؤلاء المحاربين البغاة الطغاة لما أبوا إلا ذلك، قيل أنهم بلغوا اثنى عشر ألفا”.

إن هذا النص يبين بجلاء أن هذه الحرب كانت بين القبائل العربية الحسانية وحلف تشمشة، وهي هجوم بدأه المغافرة من اجل قطع الطريق على إمارة امازيغية صاعدة، ويدل وصف اليدالي الذي ينتمي إلى تشمشة، الذي نعت المغافرة بالبغاة والطغاة، على أن خلفيات الصراع كانت قديمة وسابقة للحظة تأسيس الحركة السياسية، سيما وأن قبائل صنهاجة كانت تعيش تحت ضغط وعنف مستمر من لدن قبائل حسان. وتعتبر هذه الحركة بمثابة انتفاضة على وضع قائم بقوة السيف والنهب.

لن ندخل في تفاصيل حرب “شُرْبُبَّة” ومراحلها التي دامت حوالي 7 سنوات، وبعد سقوط زعيمها الروحي والسياسي ناصر الدين في معركة “ترسلاس” سنة 1674، بدأ حلف تشمشة في مسلسل الهزائم والنكوص، انتهى بهزيمة تشمشة في معركة “تين افداد” وانتصار المغافرة. محمد اليدالي شرح لنا أسباب الهزيمة بكل وضوح: “وغلب المغافرة لهم بقضاء الله وقدره. ولكن كل شيء له سبب، ومن أسباب غلبهم لهم أن المغافرة أدرى بهم بالمحاربة وخدمة الشر والكيد والتدبير، وعندهم من المكر ما لا تطيقه الطلبة، لأنهم نشأوا في الحرب وتدربوا عليها، والطلبة خانهم سوء التدبير واختلال السياسة وعدم التدريب على كيد الحرب ومكرها.

قيل الكثير عن هذه الحرب المفصلية، وأنجزت حولها بحوث جامعية في موريتانيا وخارجها، وكتب عنها الأجانب في بداية القرن العشرين الشيئ الكثير، هناك من يقول أنها حرب اقتصادية صرفة وسياسية بين القبائل العربية النازحة والقبائل الأصلية الصنهاجية، كما تذهب دراسات أخرى إلى اعتبارها حرب عرقية بين العرب والامازيغ. ونحن نقيس هذه الحرب ونحكم عليها بنتائجها التي كان أساسها انتصار العرب وانتشار العروبة، مقابل اندحار الامازيغ و موت الامازيغية، ومن بين نتائج الحرب :

فرار وتشتت القبائل الامازيغية وتوزعها في الصحراء خوفا من الانتقام وبطش المحاربين المنتصرين؛

دخول القبائل الامازيغية المنهزمة تحت سيطرة قبائل العربية الحسانية، وفرضت عليهم المغارم والضرائب والخدمة، واجبروا على ترك السلاح نهائيا والتفرغ للجانب الديني؛

توطيد سلطة عرب حسان السياسية والاقتصادية بتأسيس إمارات سياسية منها الترارزة والبراكنة؛

تكثيف التعريب والتَّعرُّبْ، داخل المجتمع وفي التدريس والفضاءات العامة والحياة الثقافية، وظهور تغييرات ومراجعات في شجرات النسب، حيث عمل العديد من أبناء صنهاجة إلى ربط نسبهم بالعروبة وبالأصول الشريفية؛

إرغام القبائل الصنهاجية على استعمال الحسانية في التداول اليومي، وفرضوا عليهم ترك لغتهم الأصلية، وذلك ما يجعل “الحسانية” تحتوي الكثير من المفردات والتعبيرات الامازيغية، بعد مسار طويل من الاحتواء.

ظهور نظام تراتبي جديد خطير ورهيب، جعل من أمازيغ صنهاجة، فئة اجتماعية تسمى ازناكة، وهي فئة قريبة من العبيد يستغلها عرب حسان، و فئة ازناكة تعني المنهزم الخادم التابع لسلطة المنتصر، يقول “رحال بوبريك” عن هذه فئة ازناكة ” الغارمون وهم الفئة التابعة والتي ينحدر معظم مكوناتها من القبائل الصنهاجية التي انهزمت في مواجهة بني حسان… وشكلت هذه الفئة ثروة حسان الرئيسية، فكل واحد يعرف أصحابه فمن كان أكثر أصحابا كان أعظم ثروة.. وهم يتبايعون في الأصحاب…”

هكذا أصبح الإنسان الصنهاجي- أزناك، من فترة كان خلالها أبناء صنهاجة أسياد الصحراء وملوكها يحكمون مجموع الصحراء الغربية وبلاد المغرب والأندلس، إلى مرحلة أصبحوا فيها شبه عبيد محكوم عليهم بالخدمة الدائمة والطاعة بسبب انهزامهم في حرب أمام عرب حسان.

هذا هو مسار تعريب أمازيغ صنهاجة الصحراء، وتفكك دولهم السياسية واضمحلال قبائلهم، من إمارة أبدوكل” إلى حلف “تشمشة”. وبعد حرب “شُرْبُبَّة” في أواخر القرن 17م، دخلت منطقة غرب الصحراء في حركة تعريب شاملة وسريعة…تلاشت فيها اللغة الامازيغية بسرعة، ولم يتبق من لسان صنهاجة إلا بعض كلمات قليلة جدا عبارة عن أسماء أماكن منتشرة على رمال الصحراء وكتبانها….

المراجع والمصادر

اليعقوبي احمد، كتاب البلدان، المكتبة الحيدرية 1953.

ابن حوقل، صورة الارض، دار مكتبة الحياة، 1979.

ابن أبي زرع الفاسي، الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، دار المنصور للطباعة والوراقة، 1973.

ابن خلدون عبدالرحمان، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم ومن عاصرهم من السلطان الأكبر، دار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر، 1963.

حسن بن محمد الوزان، وصف افريقيا، ترجمة محمد حجي، محمد الأخضر، دار الغرب الاسلامي 1983.

احمد ابن خالد الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الاقصى، دار الكتب العلمية، 2010.

محمد اليدالي، نصوص من التاريخ الموريتاني، تحقيق محمد ولد باباه، بيت الحكمة، قرطاج 1990.

الناني ولد الحسين، صحراء الملثمين،دراسة لتاريخ موريتانيا وتفاعلها مع محيطها الاقليمي خلال العصر الوسيط، دار المدار الاسلامي 2007.

سيدي محمد الخليفة الكنتي الرسالة الغلاوية، تحقيق ودراسة حماه الله ولد السالم، منشورات مؤسسة الشيخ مربيه ربه، ع 26، 2007.

الشيخ موسى كمرا، تاريخ قبائل البيضان، تحقيق حماه الله ولد السالم، 2009.

رحال بوبريك، دراسات صحراوية، دار أبي رقراق للطباعة والنشر, ط 2 2008.

عبدالله بوشطارت.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments