“التضبيع” في تجريم “التطبيع”
يبدو أن الحماس الذي صاحب الإعلان عن تسجيل مقترح ما سمي بـ”قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني” من طرف أربعة أحزاب (العدالة والتنمية، التقدم والاشتراكية، الاتحاد الاشتراكي والاستقلال) بمكتب مجلس النواب في 30 يوليوز 2013، (يبدو أن هذا الحماس) قد بدأ يخبو ويفتر وينطفئ شيئا فشيئا، معلنا بذلك أن المقترح هو نفسه بدأ يموت ويختفي وينتهي، وخصوصا بعد أن بدأ المسؤولون في المؤسسة التشريعية “يتهربون” من هذا المقترح الذي أصبح مزعجا لهم.
هل كانت هذه الأحزاب، صاحبة المبادرة، تجهل هذه النتيجة، التي آل إليها مقترحها؟ لا نعتقد ذلك. فلماذا تقدم مقترح قانون وهي تعرف أن مصيره سلة المهملات؟ لأن كل حزب، من هذه الأحزاب الأربعة، لا يريد أن يترك أي حزب آخر، “يفوز” وحده بهذه “البطولة” التاريخية الفذة. فكانت الرغبة في “التنافس” على هذه “الغنيمة” هي الدافع الحقيقي للموافقة على تقديم هذا المقترح. ذلك أن ظهور حزب سياسي كمدافع عن القضية الفلسطينية بالمغرب يكسبه “شعبية” زائدة ومؤكدة. لماذا؟ لأن من إفراط تكرار أن القضية الفلسطينية قضية وطنية، أصبح جزء من الشعب المغربي يؤمن أن الدفاع عن هذه القضية هو بمثابة دفاع عن حقوقه وقضاياه.
وهنا يحضر المفهوم الشعبي ـ ما دام الأمر يتعلق بالشعب ـ “للتضبيع” لتفسير هذا السحر الذي تمارسه فلسطين على عقول وقلوب المغاربة.
“التضبيع” لفظ مصاغ من كلمة “الضبع”، الحيوان المعروف. وفي الاعتقاد الشعبي أن الشخص “المضبّع” هو المنقاد، الخاضع، التابع والمطيع، الفاقد لحرية الإرادة والقرار والاختيار نتيجة تناوله مخ الضبع. ويقصد به في الغالب الزوج الذي تدس له زوجته مخ الضبع في الطعام فيصبح، بعد أكله، دمية في يدها لا يعصي لها أمرا ولا يرفض لها طلبا.
في المغرب، منذ الاستقلال والطبقة السياسية “تغذي” المغاربة، عبر الإعلام والمدرسة على الخصوص، بمخاخ “ضباع” المشرق العربي حتى أصبحوا منقادين ومطيعين وتابعين ومصدقين لكل ما تشتم منه رائحة العروبة العرقية، كـ”النسب الشريف”، و”القضية الفلسطينية”، و”الانتماء العربي”، و”المغرب العربي”، فاقدين القدرة على الاستقلال الهوياتي والإيديولوجي والمذهبي، تماما كالزوج المسحور و”المضبّع”.
يمثل مقترح “قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني” قمة “تضبيع” المغاربة والاستخفاف بعقولهم وذكائهم. ومن حسن الحظ أن هذا القانون “التضبيعي” لن يرى النور ولن يعرف طريقه إلى التطبيق، وإلا لشكّل هرما من الغباء، وجبلا من البلادة والأفن والسفاهة السياسية، تصم جبين المغرب إلى الأبد.
كيف وصل الاستلاب “والتضبيع” بالطبقة المثقفة والسياسية بالمغرب إلى الحد الذي أصبحت معه تختلق معارك زائفة ووهمية، تواجه فيها “عدو العرب” حتى تقنع نفسها أنها “عربية”؟ فهل لا بد، حتى تقتنع هذه الطبقة بانتمائها “العربي”، أن تكون أكثر عروبة من العرب الحقيقيين؟ أليس هذا دليلا على أنها ليست عربية وإلا لتصرفت كما يتصرف العرب الحقيقيون، بدون غلو ولا حماس زائد إزاء القضايا العربية؟ ألا يعني هذا السلوك “المتطرف” في عروبته أن هذه الطبقة تشك في انتمائها “العربي”، وهو ما يكشف عن عدم قناعتها بعروبتها التي تبالغ، أكثر من العرب الحقيقيين، في الدفاع عن قضاياها ومشاكلها؟ (انظر موضوعنا: “عندما يكون الغلو في الانتماء إلى العروبة دليلا على الانتماء إلى الأمازيغية” على رابط “هسبريس” http://www.hespress.com/writers/85870.html).
هذه الطبقة ـ ببلدها المغرب ـ لا تحارب الفساد، ولا تقاوم الاستبداد، ولا تناهض التخلف، ولا تثور على الظلم. ولهذا فهي تختلق معارك “دونكيشوطية” (نسبة إلى “دون كيشوط” الذي كان يحارب الطواحين الهوائية) حتى تظهر أنها طبقة “محاربة” و”مقاومة” و”مناهضة” و”ثائرة”. معركة “التطبيع” هي بالفعل معركة “دونكيشوطية”، وذلك لأنها:
ـ معركة لم يطلب أحد من هؤلاء “الدونكيشوطيين” إعلانها والمشاركة فيها،
ـ معركة لا تعني المغرب والمغاربة، لأنها معركة غير موجودة أصلا مثل معارك “دون كيشوط” مع الطواحين الهوائية،
ـ بل هي معركة لا تعني حتى الفلسطينيين الذين يطالبون إسرائيل بفتح المعابر حتى يدخلوا للعمل بها والتجارة معها،
ـ نتيجة مباشرة “للتضبيع” الذي أصاب هذه الطبقة، والتي لا تألو جهدا من أجل تعميمه إلى كافة المغاربة عندما تعمل على إقناعهم/”تضبيعهم” أن فلسطين فضية وطنية تهم الجميع.
في المجتمعات غير “المضبّعة” ، الطبقة المثقفة والسياسية هي التي تقود المجتمع نحو الحداثة والتقدم والتحرر والتنوير والديموقراطية. أما عندنا في المغرب، فإن أحد العوائق الكبرى أمام الحداثة والتقدم والتحرر والتنوير والديموقراطية، هو وجود هذه الطبقة “المضبّعة” و”المضبِّعة” (بكسر الباء)، التي بدل أن تنشر قيم الحداثة والديموقراطية والتحرر والتنوير، تنشر قيم “الشذوذ الجنسي” (بمعناه الهوياتي) و”التضبيع” التي تستلب عقل ووجدان الإنسان المغربي الذي يحوله هذا “التضبيع” إلى جندي يحارب في جبهة وهمية ومن أجل قضايا وهمية، معرضا عن قضاياه الوطنية والحقيقية.
الدليل على أن معركة “التطبيع” هي مجرد “تضبيع”، هو أن “التطبيع” بين المغرب وإسرائيل عرف تقدما كبيرا في ظل الحكومة الحالية التي تدعي محاربة “التطبيع”، إذ بلغ «ارتفاع حجم المبادلات بين المغرب واسرائيل بنسبة تفوق 130 في المائة في ظرف سنة واحدة» (موقع اليوم24، بتاريخ 7 فبراير 2014). ولم يسبق لإسرائيليين أن حظوا بتكريمات وأوسمة كما حظوا بها في فترة حكومة بنكيران “الإسلامي” المناهض “للتطبيع”. فأين هي “مناهضة” التطبيع أيها “المضبّعون”؟
لو كان “المضبّعون”، أي الداعون إلى تجريم “التطبيع”، صادقين في دفاعهم عن الحق الفلسطيني لانتقلوا إلى ميدان المعركة الحقيقية في فلسطين لمواجهة الجيش الإسرائيلي. أما وأن يكتفوا بالإدلاء بتصريحات لقناة الجزيرة على عزمهم تجريم التطبيع، تاركين الفلسطينيين “يغرقون” وحدهم في الاحتلال، فذلك هو “التضبيع” بعينه. وهو “تضبيع” مزدوج لأن فيه كذبا على الفلسطينيين ، و”تضبيعا” للمغاربة في نفس الوقت.
إنـ”المضبّعين” المغاربة يتعاملون مع القضية الفلسطينية كما يتعامل دعاة التعريب مع اللغة العربية: فكما أن التعريبيين لا يحبون العربية ولا يدرّسونها لأبنائهم لكنهم يفرضونها على أبناء الشعب حتى يظهروا كمدافعين عن هذه اللغة التي يتخذونها رأسمالا إيديولوجيا، فكذلك “المضبّعون” الداعون إلى تجريم “التطبيع” لا يفعلون شيئا من أجل حل القضية الفلسطينية لأنهم يريدونها أن تبقى “قضيتهم” الأبدية التي يتخذون منها رأسمالهم الذي “يضبّعون” به المغاربة.
من جهة أخرى، كيف يدعو هؤلاء “المضبّعون” إلى تجريم “التطبيع” في الوقت الذي يطالب فيه الفلسطينيون بإزالة الجدار العازل الذي أقامته إسرائيل لمنع الفلسطينيين من الدخول إليها، حتى يمكنهم الدخول إليها بكل حرية؟ فالرافض “للتطبيع” إذن هم الإسرائيليون وليس الفلسطينيون الذين يناشدون العالم للضغط على إسرائيل لحملها على فتح المعابر حتى يدخل الفلسطينيون إلى إسرائيل ويشتغلوا في معاملها ويتاجروا معها بيعا وشراء، وتصديرا واستيرادا. أليس تجريم “التطبيع” سياسة “مناهضة” للفلسطينيين وتضر بمصالحهم وحقوقهم؟
فما يجب إذن تجريمه ليس هو “التطبيع”، بل هو “التضبيع” الذي يمارسه دعاة تجريم “التطبيع” على المغاربة. ويبلغ هذا “التضبيع” ذروته عندما يربط هؤلاء “التطبيع” بالأمازيغية والأمازيغيين. فيقدمون بذلك الدليل على أن وراء الدعوة إلى تجريم “التطبيع” نزعة عنصرية معادية للسامية.
وهو ما يفسر سهولة ربط “التطبيع” بالأمازيغية لسهولة الانتقال من عنصرية العداء للسامية إلى عنصرية العداء للأمازيغية. ولهذا سكت “المضبّعون” عن “النكتة” العنصرية للمقرئ أبوزيد الإدريسي، بل منهم من دافع عنها باستماته وصدق، لأن العنصرية تجاه الأمازيغيين يعتبرونها شيئا “طبيعيا” جدا. وليس الأمر إذن صدفة أن نجد جل “المضبّعين”، أي أصحاب مبادرة تجريم “التطبيع”، هم من الأمازيغوفوبيين المناهضين للحقوق والمطالب الأمازيغية.
كاتب ومفكر وباحث ومناضل أمازيغي منحدر من منطقة الريف ومدير نشر جريدة تاويزا. ألف العديد من الكتب والمقالات التنويرية القيمة