بين “التطبيع” و”التضبيع” و”التبضيع”
من خلال قراءة متأنية في القرار السياسي الأخير ونص البلاغ الذي تضمنه، يتضح أن لا علاقة للموضوع بخطاب “التطبيع” وسردياته الدعوية والإيديولوجية والسياسية؛ فالمغرب لا “يطبع” بل يواصل ويستأنف علاقاته الثقافية والدبلوماسية العريقة والدائمة مع اليهود المغاربة، ويحقق انتصارا وطنيا ودوليا لوحدته الترابية.
فمصطلح “التطبيع”، من حيث دلالاته وسياق بروزه وأبعاده السياسية والإيديولوجية، لا يمكن أن يوظف ويسقط على العلاقات المغربية الإسرائيلية، أو بالأحرى المغربية اليهودية، وعلى القرار السياسي الناضج والمهم الذي اتخذه المغرب؛ للأسباب والتوضيحات الآتية:
يرجح أن نحت وتوظيف مصطلح “التطبيع” يعود إلى حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات “BDS” التي وضعت هذا التعريف خلال تسعينيات القرن الماضي، حيث اعتبرت التطبيع هو المشاركة في أي مشروع أو مبادرة أو نشاط، محلي أو دولي، مصمم خصيصا للجمع، بشكل مباشر أو غير مباشر، بين فلسطينيين أو عرب وإسرائيليين، أفرادا كانوا أم مؤسسات، ولا يهدف صراحة إلى مقاومة أو فضح الاحتلال وكل أشكال التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطيني. وأهم أشكال التطبيع هي تلك النشاطات التي تهدف إلى التعاون العلمي أو الفني أو المهني أو النسوي أو الشبابي، أو إلى إزالة الحواجز النفسية.
ومن المعلوم أن ما يسمى بالصراع العربي الإسرائيلي مرّ بمراحل وأزمنة عرفت أحداثا عديدة؛ منها حروب طاحنة خلال سنوات 1948 و1956 و1967 و1973 بين إسرائيل ومصر وسوريا، ومحاولات للتقارب وتحقيق السلام ومبادرات لاستئناف العلاقات الدبلوماسية من طرف دول عديدة منها مصر والأردن، مند اتفاقية “كامب ديفيد” سنة 1978، واتفاقية أوسلو سنة 1993. وخلال هذه المراحل كلها، كانت وضعية المغرب وأدواره السياسية والدبلوماسية والثقافية تحظى بتميز واضح عن الإطار التقليدي للعلاقات العربية والصراع العربي – الإسرائيلي في أبعاده القومية والدينية والعرقية، ومصوغاته الخطابية والتدبيرية؛ وهو ما سمح له بلعب أدوار مهمة في سياق الخروج من مراحل الحرب والمواجهة المباشرة والعداء الأصلي إلى مرحلة الحوار والتقارب والبحث عن سبل الحل وتحقيق السلام.
من المعلوم، أيضا، أن المغرب باعتباره من أعرق البلدان على المستوى السياسي والثقافي والحضاري، خاصة بإفريقيا والشرق الأوسط، عرف عبر تاريخه حضور المجموعات اليهودية والثقافة العبرية التي تشكل بعدا من أبعاد الثقافة المغربية المتعددة كما تم الإقرار بذلك في دستور 2011.
ومن المؤكد، أيضا، “وجود روابط خاصة تجمع الجالية اليهودية من أصل مغربي، بمن فيهم الموجودون في إسرائيل، بالمغرب وبملك المغرب”، كما جاء في بلاغ الديوان الملكي، علما أن عدد هذه الجالية ذات الأصول المغربية يقدر بحوالي مليون فرد، وتوجد في دول عديدة في العالم، وأعداد منها تزور المغرب باستمرار خاصة في بعض المناسبات الدينية أو في إطار الأعمال والسياحة، وعبر رحلات من أوروبا وأمريكا وكندا….، مما يتطلب اليوم “تسهيل الرحلات الجوية المباشرة لنقل اليهود من أصل مغربي والسياح الإسرائيليين من وإلى المغرب”، كما جاء بكل وضوح في نص البلاغ.
في حالة المغرب، وعلى عكس الدول العربية، لا يتعلق الأمر بـ”التطبيع”، أي المشاركة في مشروع أو مبادرة محلية أو دولية، تجمع المغاربة والإسرائيليين، كما جاء في التعريف. كما لا يتعلق الأمر ببدء العلاقات بين البلدين، بل هو “استئناف الاتصالات الرسمية الثنائية والعلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وتطوير علاقات مبتكرة في المجال الاقتصادي والتكنولوجي، والعمل على إعادة فتح مكاتب للاتصال في البلدين، كما كان عليه الشأن سابقا ولسنوات عديدة، إلى غاية 2002″، كما جاء بالحرف وبكل وضوح في نص بلاغ الديوان الملكي.
لتوضيح لبس السرديات الصراعية التقليدية “كالتطبيع”، وشحنتها الإيديولوجية التي غدت وجدان وهوية المواطنين والعديد من التيارات السياسية والإيديولوجية والدينية لعشرات السنوات، خاصة التي بنت خطاباتها ومشاريعها وأوهامها على توظيف هذا الصراع و”تبضيعه”؛ ولتوضيح طبيعة العلاقة ومميزاتها وواقعية القرار وأبعاده المستقبلية، في جانبه الأول المرتبط باستئناف العلاقات والاتصالات الرسمية وتسهيل سفر الجالية اليهودية لزيارة وطنها، مع استحضار البعد الإنساني والموقف المتوازن للمغرب في هذا الصراع، حيث أكد البلاغ أن “المغرب يدعم حلا قائما على دولتين تعيشان جنبا إلى جنب في أمن وسلام، وأن المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي تبقى هي السبيل الوحيد للوصول إلى حل نهائي ودائم وشامل لهذا الصراع”.
أما الجانب الثاني من هذا القرار السياسي الكبير، والذي يحاول البعض تجاهله أو المرور عليه على الرغم من أنه هو موضوع القرار السياسي وصلبه، وهو اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بسيادة المغرب على كامل ترابه، وافتتاحها قريبا لقنصلية بمدينة الداخلة، وبداية علاقات اقتصادية وجيو- إستراتيجية كبيرة، فهو انتصار سياسي ودبلوماسي كبير، يضع مفهوم الوطنية والمواطنة، والمصلحة والولاء الفعلي للعديد من المكونات السياسية والإيديولوجية والثقافية على المحك، خاصة التي أعلنت بكل صراحة رفضها الواضح للقرار وتفضيلها “للسرديات والمقدسات الدعوية والإيديولوجية” على حساب المصالح الفعلية والتعاطي الواقعي مع مصالح المغرب؛ ومنها شبيبة حزب العدالة والتنمية، وحركة التوحيد والإصلاح، التي أعلنت “اعتبارَ ما أقدم عليه المغرب تَطوراً مؤسفاً وخطوةً مرفوضةً”، “داعية الشعب إلى التكتل للتصدي ومناهضة التطبيع”! وهذا، في حقيقة الأمر، هو عين “التضبيع” و”التبضيع”، للإشارة فـ”التضبيع” من الضبع و”التبضيع” من البضاعة…
باحث في الشأن الأمازيغي، رئيس الجامعة الصيفية أكادير