الحركة الأمازيغية : الثورة الناعمة


في كتابه المترجم إلى اللغة العربية، “الحياة كسياسة : كيف يغير بسطاء الناس الحكومات في الشرق الاوسط” سلط الكاتب “آصف بيات” الضوء على بعض التيارات السياسية التي ساهمت في تغيير بعض القرارات والحكومات خاصة مصر وايران دون أن تكون لتلك التيارات والحركات قوة سياسية كأحزاب داخل البرلمان ومؤسسات الدولة. ويسمي آصف بيات هذه الظاهرة ب”فن الحضور” وهو لم يدرس المغرب والجزائر، ولكن ما جاء في كتابه ينطبق تقريبا على الحركة الأمازيغية، فهي ليس لها حزب سياسي منذ الحكم على الحزب الديموقراطي الامازيغي المغربي بالحل والبطلان سنة 2008، وليس لها مقاعد برلمانية ولا تمثيلية سياسية داخل الحكومة.

ولكنها في المقابل، تحقق مطالب كثيرة ومكتسبات مهمة، بالرغم من تردد الدولة وعنادها بمعية جميع الأحزاب في انزال القرارات على أرض الواقع(هذا موضوع آخر يحتاج إلى المزيد من الشرح).

الحركة الأمازيغية تمتاز بقوة التأثير في القرار السياسي لأن خطابها متماسك وواقعي، علمي ورصين، فهي افضل بكثير من لوبيات ومراكز التفكير الاستراتيجي التي تخلقها الدول بجانبها لتزودها بمقاربات علمية في القضايا الكبرى ذات الحساسية الكبرى والامتداد في المستقبل. بفعل ما انتجه العقل الامازيغي من تراكم فكري وسياسي طيلة عقود، أصبحنا اليوم نرى الدولة تتماهى مع مواقف وخطاب الحركة الأمازيغية في كثير من المواقف والقضايا، ونسجل البعض منها :

_ قضية التطبيع مع اسرائيل، سبق للأستاذ المرحوم دا حماد هو زعيم سياسي أمازيغي ان قال منذ سنوات أن مفهوم التطبيع غريب عن البيئة المغربية ولا يهم المغرب نهائيا كدولة وكشعب، وهو موضوع يهم العرب في فلسطين في علاقتهم مع دولة إسرائيل. لذلك كان يدعو المرحوم داحماد والكثير من الشباب في الحركة الأمازيغية إلى ضرورة إعادة فتح العلاقات الإسرائيلية المغربية، وتأسيس جمعية الصداقة الإسرائيلية الأمازيغية كنوع من الدبلوماسية الشعبية… وهذا الموقف الذي عبر عنه المرحوم الدغرني سنة 2006 حول التطبيع، هو ما يقوله الآن وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة في دفاعه عن القرار المغربي المتأخر جدا.

_ قضية الصحراء التي تدافع عنها الحركة الأمازيغية من موقع علمي صريح وثابت باعتبارها صحراء ليست “عربية” وبالتالي كل من يروج او يسعى لقيام جمهورية عربية فوق أرض أمازيغية فإنه يسعى إلى احتلال أرض ليست له. وبالتالي فبالرغم من أن الدولة لم تقم بالاشتغال على هذا المفهوم والبعد الذي تقترحه الحركة الأمازيغية في قضية الصحراء بشكل رسمي وصريح، لاعتبارات قد نفهم بعضها ولكن نجهل الكثير منها، فإن وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة قد سبق له أن صرح وأكد في لقاء دبلوماسي في الكوديفوار أن “الصحراء المغربية ليست عربية”. مرة أخرى الدولة تتماهى وتنهل من المنهل الامازيغي للدفاع عن الوحدة الترابية في المنتظم الدولي. ولا ننسى مطالبة السفير المغربي الدائم لدى الأمم المتحدة بالاعتراف بحكومة القبايل الأمازيغية الموجودة في المنفى وحديثه عن جرائم النظام الجزائري في حق الامازيغ في القبايل والمزاب…
_ قضية المغرب والعمق الافريقي، مؤخرا راجع المغرب بشكل جذري علاقاته مع الدول الأفريقية الشقيقة وعاد إلى منظمة الاتحاد الافريقي، بعد غياب طويل. وكان المغرب منذ مدة، لا يعتبر نفسه بلدا إفريقيا بسبب تقديس ايديولوجية العروبة والاسلام، وتبني القومية العربية وتكريسها في المقررات الدراسية والإعلام، ويتم تقديم المغرب على أنه ينتمي إلى الشرق الأوسط وليس الى إفريقيا، وهذه سياسة خطيرة جدا اضرت كثيرا بمصالح المغرب في أفريقيا وعلى علاقاته البينية مع دول إفريقيا، ولازال الكثير من المغاربة يعانون من مشكل التموقع والانتماء الجغرافي، حيث يعتقدون انهم ينتمون إلى الشرق العربي. وهذا ما كانت تعارضه بشدة الحركة الأمازيغية وتنادي إلى عودة المغرب إلى افريقيته وتخلصه من التبعية العمياء للشرق.

_ قضية إصلاح الشأن الديني، الحركة الأمازيغية كانت ولاتزال تنادي بضرورة العودة إلى الإسلام الامازيغي المتسامح والمعتدل والوسطي، وضرورة التخلص بشكل سريع وحاسم من الإسلام الوهابي المتطرف والاسلام السياسي الإخواني الحركي الذي يخلط السياسة بالدين. وقد فطنت الدولة واقتنعت بعلمية الخطاب الامازيغي وقوته ونباهته، وسارعت إلى تعيين المؤرخ الامازيغي احمد التوفيق الذي كان قريبا من إحدى الجمعيات الثقافية الأمازيغية، وأصبح اليوم اقدم الوزراء الذين عمروا طويلا في الحكومة منذ 2003، وهذا ما يعني أنه ناجح في المهام الموكولة إليه في تدبير قطاع معقد ومركب واستراتيجي. وما تقوم به وزارة الاوقاف والشؤون الدينية من إصلاح يلتقي في جله مع الخطاب الامازيغي في الحفاظ على الخصوصية المغربية فيما يتعلق بالتدين.

_ قضية الهوية والتعددية، منذ الاستقلال الى حدود سنة 2011 كانت هوية الدولة المغربية في جميع الدساتير هي هوية أحادية، أي “العربية الاسلامية”، وكانت الحركة الأمازيغية تطالب باستماتة طيلة عقود بضرورة التنصيص على الأمازيغية كهوية وكلغة رسمية في الدستور، وقاد هذا الحراك النضالي المتواصل إلى انخراط الامازيغ بكثافة في مسيرات حركة 20 فبراير التي أدت إلى التعديل الدستوري وترسيم اللغة الامازيغية والتنصيص في ديباجة الدستور على الهوية المتعددة للمغرب أمازيغية عبرية وأفريقية واندلسية وعربية… وهذا ما ينسجم مع الشعار الخالد للحركة الأمازيغية الذي تم نحته في أول دورة للجامعة الصيفية في أكادير سنة 1980، وهو “الوحدة في التنوع”، يعني وحدة المغرب في الاعتراف بتنوعه وتعدده الثقافي. فقد نجحت الحركة الأمازيغية في كسر الاحادية اللغوية والثقافية التي كانت الدولة واحزابها ونقاباتها تسعى إلى فرضها على الشعب بقوة.

_ نجحت الحركة الأمازيغية أيضا في تصحيح الكثير من المفاهيم السياسية العنصرية المغلوطة، وقادت نقاشات سياسية قوية من أجلها، مثل رفض مصطلحات من قبيل “الوحدة العربية” و”المغرب العربي” الذي تم تغييره باقتراح من الحركة الأمازيغية التي رسخت مفهوما جديدا وهو المغرب الكبير الذي تم ادراجه ضمن الوثيقة الدستورية، ولم تعد الأحزاب السياسية والتنظيمات المدنية تتجرأ على استعمال مصطلح “المغرب العربي”. حتى الدولة قامت بمراجعات كثيرة في هذا الشأن بعد فشل ما يسمى بالاتحاد المغرب العربي.

هي قضايا استراتيجية كثيرة ساهمت الحركة الأمازيغية وهي حركة معارضة تناضل خارج مؤسسات الدولة في إحداث ثورة هادئة في شأنها. بالنقاش العلمي والفكري والتدافع السياسي الجريء بعيدا عن الاملاءات الخارجية والداخلية، وهذا ما جعل خطابها يكون وطنيا بامتياز، لأنه يجب التمييز بين الوطن والدولة والسلطة فهي مفاهيم تعني أشياء مختلفة. هذه المكتسبات التي حققتها الحركة الأمازيغية هي التي دفعت بعض الأحزاب للتكالب عليها واستغلالها والركوب عليها وتوظيف رمزيتها في المعارك الانتخابية، مستفيدة من منع السلطة للتنظيم السياسي بمرجعية امازيغية الذي يقود اليوم ثورة ثقافية ناعمة وهادئة…


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments