من المخاطَب بدسترة الأمازيغية؟


قد يبدو هذا السؤال هزْليا أو حتى “غبيا” استنادا إلى بديهية أن الدستور، بقواعده العامة والملزمة، ككل القواعد القانونية الأخرى، يخاطب جميع المتمتعين بالأهلية القانونية، وعلى رأسهم الدولة التي هي أول من يلتزم بالدستور ويُلزم به. لكن إذا عرفنا أن الترسيم الدستوري للأمازيغية لا زال لم يُفعّل بالشكل الذي يجعل اللغة الأمازيغية هي “أيضا” لغة رسمية للدولة، حسب ما تنصّ عليه الفقرة الثالثة من الفصل الخامس من دستور يوليوز 2011، يكون السؤال معقولا وجدّيا. فإذا كانت الدولة هي المعنية الأولى بتطبيق الدستور وفرض تطبيقه، فإن ذلك يستتبع أن أثر هذا التطبيق سيظهر داخل مؤسساتها التي هي مظهر لحضورها ووجودها، وبها تشتغل وتمارس صلاحياتها الدستورية. والحال أن أثر ترسيم الأمازيغية، كأمر دستوري ملزم، لا وجود له بهذه المؤسسات كما لو أن الدولة غير معنية ولا مُلزَمة بتاتا بهذا الأمر الدستوري. ومن هنا وجاهة السؤال: من المخاطَب بدسترة الأمازيغية؟
فإذا لم تلتزم الدولة بإعمال نص الدستور الذي يقرّ أن «الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة»، فقد يعني ذلك أنها لا تعتبر نفسها هي المخاطبَة بهذا النص. ومن سيكون المخاطَب إذن؟ بالنظر إلى الجهة التي كانت تطالب الدولة بالترسيم الدستوري، وهي الحركة الأمازيغية، وبالنظر إلى التماطل الذي لا زال متواصلا في تفعيل هذا الترسيم منذ يوليوز 2011، تاريخ البدء بالعمل بالدستور الجديد المتضمّن لترسيم الأمازيغية، فقد يكون المخاطَب ليس هو الدولة، كما أشرت، وإنما الذين كانوا يطالبون هذه الدولة بدسترة الأمازيغية. وهنا تكون الدولة ليست هي المخاطبَة بالدستور، كما قلت، وإنما هي المخاطِبة به المطالبين بترسيم الأمازيغية. فكان يكفيها إذن أن “تخاطبهم” عبر الدستور لتقول لهم إنها استجابت لمطالبهم، ليُعفيَها ذلك من أية مسؤولية لتنفيذ المقتضى الدستوري. النتيجة أن هذا الغياب للأمازيغية بمؤسسات الدولة تجاهلا لأمر دستوري، يعني شيئا واحدا، وهو أن هذه الدولة أقرّت الترسيم الدستوري للأمازيغية، ليس من أجل أن تلتزم وتُلزم به داخل مؤسساتها، وإنما للتسويق الداخلي والخارجي أنها “استجابت” لمطلب دسترة الأمازيغية التي أصبح الدستور ينص عليها. ولا يهمّ بعد ذلك أن هذه الدسترة غائبة من مؤسسات الدولة. ولهذا إذا كان الدستور يقول بأن «الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة»، فإن مؤسسات الدولة تقول إنها ليست أيضا لغة رسمية للدولة. فهناك دستور نظري ينص على رسمية اللغة الأمازيغية، وهناك دستور عملي ينفي هذه الرسمية ليستمرّ معه إقصاء الأمازيغية كلغة للدولة ومؤسساتها. الأول موجّه إلى من كانوا يطالبون بالترسيم الدستوري للأمازيغية، ولا يعني في شيء الدولةَ ومؤسساتِها. أما الثاني فموجّه إلى هذه الدولة ومؤسساتها حتى لا تُدمج الأمازيغية في وثائقها الرسمية كلغة رسمية للدولة.
ما الغاية إذن من ترسيم دستوري للأمازيغية موجّه إلى الحركة الأمازيغية ولا يخصّ الدولة ومؤسساتها؟ هل الغاية هي أن يقوم بدور مصّاصة tétine تُلهي وتُسكت وتنوّم، كما تفعل المصّاصة الحقيقية التي يُلجأ إليها لإسكات وإلهاء وتنويم الرضّع المزعجين ببكائهم وصراخهم؟ وبالنظر إلى التماطل في التفعيل الجدي والحقيقي للترسيم الدستوري للأمازيغية لتكون لغة رسمية للدولة ومؤسساتها، فإن هذا الترسيم المعطّل تجتمع فيه كل وظائف المصّاصة الحقيقية لأنه “يمتصّ” المطالب الأمازيغية بعد أن استجاب ـ ظاهريا، أي دستوريا ـ لما كان يعتبر سقفا أعلى لهذه المطالب. ولهذا فهو بذلك يُسكت هذه المطالب ويُنوّم أصحابها ويُلهيهم عنها بـرشْف المصّاصة الفارغة. فهو يشبه بالفعل المصّاصة الفارغة لأنه بات فارغا من أي تفعيل حقيقي يعطي لهذا الترسيم وجودا حقيقيا ممتلئا وليس فارغا كالمصّاصة. وهو يقوم بوظيفة تشبه وظيفة المصّاصة لأنه خلقَ حالة من الانتظار قد يطول أمده إلى أجل غير مسمّى بحيث يصبح هذا الانتظار هو الغاية من الترسيم والبديل عنه، أي الانتظار من أجل الانتظار. وتلك إحدى وظائف المصّاصة الحقيقية عندما يمصّ الرضيع خواءها كبديل عن الحليب الحقيقي المغذّي.
وإذا كان انتظار تفعيل بعض القوانين والقرارات يؤخر تطبيقها والعمل بها، إلا أن ذلك لا يؤدّي إلى موت المستفيدين منها. وكمثال على ذلك نشير إلى أن القانون التنظيمي للإضراب، الذي نصّت على ترسيمه كحقٍّ جميعُ الدساتير المغربية منذ دستور 1962، لا زال لم يصدر بعدُ. وإذا كان انتظار هذا القانون لأكثر من ثمانٍ وخمسين سنة (نحن في 2021) يعطّل ممارسة العمال لأحد حقوقهم الدستورية، إلا أنه لا ينتج عن هذا الانتظار موتهم وهلاكهم. في حين أنه كلما طال انتظار التفعيل الحقيقي لرسمية الأمازيغية، لتستعمل كلغة رسمية للدولة، كلما ساهم ذلك في موتها و”موت” مستعمليها بعد أن لم يعد استعمالها الشفوي كافيا لوحده للحفاظ عليها وإعادة إنتاجها. والنتيجة أن كل تأخير للتفعيل الحقيقي لرسمية الأمازيغية هو بمثابة تسريع لعملية قتلها. والعلاقة السببية بين التفعيل الرسمي الحقيقي للأمازيغية، والحفاظ عليها وإعادة إنتاجها، تظهر في ضرورة التدريس الإجباري والموحّد للغة الأمازيغية حتى يمكن استعمالها كلغة رسمية، شفوية وكتابية، للدولة تستعمل في مؤسساتها ووثائقها الرسمية. وهذا التدريس هو ما يجعلها تحقّق دورة إعادة إنتاجها المدرسي الذي يضمن لها البقاء والانتشار. فالتفعيل الحقيقي لترسيم الأمازيغية يشترط تدريسها الإجباري والموحّد، والذي هو ضروري لإعادة إنتاجها المدرسي، الضروري بدوره لحمايتها من الموت والانقراض.
ولهذا إذا كان النهوض بالأمازيغية قد عرف تقدّما لا ينكر كما يظهر ذلك في الإعلام، واستعمال تيفنياغ على واجهات المؤسسات الرسمية، والبدء في مراجعة بعض المقررات المدرسية للتاريخ، وتزايد حضورها الرمزي في الفضاء العام…، إلا أنها لم تعرف أي تقدّم في ما هو أهم وضروري لبقائها واستمرارها وانتشارها، وهو تدريسها الإجباري والموحّد. وبدون هذا التدريس يكون كل ما أُنجز لصالح الأمازيغية كأنه لم يُنجز بعدُ. هذا التماطل في تدريس الأمازيغية، بالشكل الجدي، الإجباري والموحّد، هو ما يُبرز أن الترسيم الدستوري للأمازيغية كان بمثابة مصّاصة، بالمعنى الذي شرحت، لإطالة أمد الانتظار القاتل تدريجيا للأمازيغية كنوع من القتل الرحيم لها euthanasie.
وبإلقاء نظرة على المرسوم رقم 2.20.600 الصادر في 8 سبتمبر 2020، الخاص بتأليف اللجنة الوزارية الدائمة المكلفة بتتبع وتقييم تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية إعمالا للمادة 34 من القانون التنظيمي رقم 26.16، المكوّنة، كما جاء في المادة الأولى من هذا المرسوم، من السلطة الحكومية المكلفة بحقوق الإنسان؛ السلطة الحكومية المكلفة بالداخلية؛ السلطة الحكومية المكلفة بالشؤون الخارجية؛ السلطة الحكومية المكلفة بالعدل؛ السلطة الحكومية المكلفة بالأوقاف والشؤون الإسلامية؛ السلطة الحكومية المكلفة بالاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة؛ السلطة الحكومية المكلفة بالتربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي؛ السلطة الحكومية المكلفة بالثقافة والشباب والرياضة، بالإضافة إلى رئيس الحكومة كرئيس لهذه اللجنة، (بإلقاء نظرة) سنلاحظ أنها تتكوّن من نفس السلط الحكومية التي تماطل في التفعيل الرسمي الحقيقي للأمازيغية، بدليل أنها لم تفعل شيئا فيما يتعلق باستعمال الأمازيغية كلغة رسمية للدولة، بل رفضت حتى مجرد استعمالها الرمزي كلغة للدولة، كما يتجلى ذلك في إقصاء كتابتها على بطاقة التعريف الوطنية (انظر موضوع: “في تعلة إقصاء الأمازيغية من شروع البطاقة الوطنية” بالنقر هنا) وعلى النقود والأوراق المالية، وبمباركة من هذه السلطات الحكومية وأحزابها وبرلمانييها. وقمة العبث أن تنص الفقرة الثالثة من المادة الثانية لهذا المرسوم على أن هذه اللجنة تتولى «تتبع وتقييم تنفيذ مخططات العمل والبرامج القطاعية المتعلقة بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، والعمل على احترام الآجال المحدّدة لها». كيف لمن تسبّب في عرقلة تفعيل رسمية الأمازيغية أن يراقب تنفيذ هذا التفعيل؟ هذا يعني أن الذئب يكلّف بحراسة الشاة المسكينة. إنه تطبيق حرفي لمبدأ: “حاميها حراميها”، كما يقول المصريون. فهذه اللجنة، بالنظر إلى مكوّناتها الحكومية، التي كشفت في العديد من المناسبات عن مناوأتها للأمازيغية، هي في الحقيقة “لجنة بربرية”. وهنا يطرح السؤال: كيف للجنة “بربرية”، أي أجنبية عن الأمازيغية، بالمعنى اليوناني لكلمة “بربري” (انظر موضوع: “عندما يتحوّل الأمازيغ إلى برابرة يعادون أمازيغيتهم” بالنقر هنا) تعتني بالأمازيغية وتنهض بها؟ بل كيف لمثل هذه اللجنة، المنتمية إلى حكومة لا تخفي معارضتها عمليا للأمازيغية، أن تراقب مدى احترام هذه الحكومة للقرارات المتعلقة بتفعيل رسمية الأمازيغية؟ أي كيف للبرابرة أن يدافعوا عن الأمازيغية والأمازيغيين مع أن ما جعل منهم برابرة هو رفضهم لأمازيغيتهم وتنكّرهم لها؟
واللافت أن هذه اللجنة ليست خالية فقط من عناصر تنتمي إلى الحركة الأمازيغية، بل هي خالية حتى من ممثّل للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، سواء باعتبار هذا المعهد لا زال قائما ويؤدي مهامه بشكل عادي، أو باعتباره إحدى مؤسستي المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية طبقا للمادة 10 من القانون التنظيمي رقم 04.16. لماذا هذا الغياب لأي عنصر أمازيغي؟ لأن اللجنة، كما أوضحتُ، هي بربرية، أي أجنبية عن الأمازيغية ولا تنتمي إلى فضائها الثقافي واللغوي والهوياتي.
نستنتج مما سبق أن دسترة الأمازيغية هي موجّهة إلى الأمازيغيين كمصّاصة فقط، حسب ما سبق أن شرحت، وموجّهة إلى البرابرة كمقتضيات دستورية تُنفّذ بصيغة بربرية وليس أمازيغية. وهذا ما يفسّر أن لجنة تتبع تنفيذ تفعيل رسمية الأمازيغية هي لجنة بربرية وليست أمازيغية، كما كان يجب أن تكون.
والمفارقة العجيبة في مسألة دسترة الأمازيغية أنه كان يُفترض في هذه الدسترة ويُنتظر منها أن تحمي الأمازيغية من الموت الذي يتهدّدها، بعد أن توفّر لها شروط الحياة والنماء والاستمرار في البقاء. لكن غياب أي تفعيل جدي وحقيقي لهذه الدسترة، جعل منها أداة للقتل الرحيم للأمازيغية، أي القتل الذي لا يثير غضبا ولا احتجاجا لأنه “قتل رحيم” يمارس بلطف وبلا عنف.
ما الحلّ لإخراج الأمازيغية من دائرة الحلول البربرية التي لن تجلب لها إلا الموت الرحيم، لبدء التعامل معها عبر حلول أمازيغية حقيقية، تحافظ على حياتها واستمرارها في البقاء؟
خلال هذه المناقشة تحدّثت قصدا عن “الدولة” كمسؤولة عن تفعيل أو عدم تفعيل رسمية الأمازيغية، وليس الحكومة ولا البرلمان ولا الأحزاب، إلا بشكل عرضي وثانوي. وإذا ركّزت على الدولة فذلك لأبيّن، رغم أن الأمر بديهي وواضح، أن الحلّ هو دائما سياسي، يتمثّل في قرار للدولة، أي قرار يصدر عن أعلى سلطة في البلاد يُلزم بتدريس جدي وحقيقي للأمازيغية إعدادا لاستعمالها، الجدي والحقيقي كذلك، كلغة رسمية للدولة. لكن ما الذي سيدفع السلطة العليا إلى اتخاذ هذا القرار؟
هذا ما سنناقشه في موضوع آخر.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments