أحمد عصيد : المغاربة والوعي بالانتماء إلى إفريقيا
يجتاز المغرب مرحلة حاسمة في سيرورة بنائه الديمقراطي، مما يجعله يسعى من خلال قواه الحية إلى وضع الأسس المستقبلية عبر توضيح الاختيارات ومأسستها، وإذا كان ذلك قد تم بنسبة كبيرة في دستور 2011، الذي اعترف باللغة الأمازيغة لغة رسمية، ونقل المغرب من منظومة الأحادية إلى اختيار تدبير التنوع، إلا أن العديد من الأمور التي فصل فيها الدستور ظلت مثار نزاع وصراع في المجتمع، بسبب ضعف تفعيل المكتسبات الجديدة، وكذا بسبب صعوبة تغيير العقليات في غياب التحسيس والتوعية الضروريين.
ومن بين أهم مكتسبات الدستور المغربي المراجع الاعتراف بالمكونات المتعددة للهوية الوطنية، رغم ما رافق ذلك من ارتباك والتباس واضطراب في التعبير بسبب ترسبات الماضي القريب والبعيد، حيث وضعت الهوية العربية الإسلامية قبل الأمازيغية رغم أن هذه الأخيرة أسبق تاريخيا، كما اعتبر المكون الإفريقي مجرد “رافد” من الروافد، في الوقت الذي لا يمكن فيه التشكيك في الجغرافيا، باعتبارها الامتداد المادي الذي نعيش فوقه، فالمغاربة أفارقة الهوية بانتمائهم إلى الأرض التي تحدد قبل غيرها من العوامل والمكونات هوية السكان، وإفريقيتهم لم يكتسبوها وهم خارج إفريقيا، حتى تكون مجرد “رافد” لهويتهم، بل اكتسبوها وهم على الأرض الإفريقية.
غير أن هذا الاعتراف الدستوري رغم ما أحاط به من تحايلات لفظية وتدليس بلاغي يظل اعترافا هاما بالنظر إلى ما كانت عليه الإيديولوجيا الرسمية من قبل، والتي جعلت المغاربة يشكون في انتمائهم القاري لعقود طويلة، ويشعرون بعدم اطمئنان لهويتهم الإفريقية الضاربة بجذورها في الأرض المغربية. وبهذا الصدد ما زلت أذكر حوارا سرياليا غريبا جرى بين أستاذين في قاعة الأساتذة بإحدى الثانويات قبل عشرين سنة، حيث كان النقاش محتدما بين الإثنين بسبب خلاف نشب بينهما حول ما إذا كان المغرب بلدا إفريقيا أو عربيا (!؟)..
ويمكن إيراد أهم العوامل لهذا الجحود المحض إيديولوجي تجاه الهوية الإفريقية للمغاربة في العوامل التالية:
ـ العامل الجغرافي الذي يعود إلى وجود الصحراء الكبرى التي فصلت منذ قرون طويلة المغرب عن بلدان جنوب الصحراء، مما أدى إلى جعل التوغل في اتجاه الجنوب مليئا بالمخاطر بسبب شساعة الصحراء ووعورتها. غير أن هذا العامل لم يمنع من جعل الصحراء نفسها معبرا وقنطرة في اتجاه الجنوب في لحظان عديدة من التاريخ.
ـ انفتاح البوابة الشرقية بعد انتشار الإسلام في هذه الربوع، مما خلق امتدادا حضاريا وثقافيا للمشرق في شمال إفريقيا، وكان العامل الديني من أكبر الأسباب التي جعلت المغرب مشدودا منذ قرون إلى المركز الثقافي المشرقي، وأدت بالتالي إلى جعل أواصر الارتباط بين المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء أقل زخما مما كانت عليه في شمال إفريقيا.
ـ عدم الإلمام باللغات الإفريقية (غير الأمازيغية) من طرف المغاربة، في مقابل استعمالهم للغة العربية في دواليب الدولة وفي الثقافة الكتابية، وبقاء قبائل الأدغال الإفريقية على ثقافاتها القديمة الأصلية، متحصنة في حزامين اثنين حزام الصحراء وحزام الغابات الاستوائية.
ـ مشكل الصحراء وانسحاب المغرب من منظمة الوحدة الإفريقية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، حيث زاد هذا القرار من عزلة المغرب إفريقيا، وسمح للدبلوماسية الجزائرية بالعمل بنجاح ضد المصالح المغربية في إفريقيا.
غير أن هذه العوائق التاريخية والجغرافية لم تمنع المغاربة رغم ذلك من المغامرة عبر القوافل التجارية في اتجاه الجنوب، الذي كانوا يصدرون إليه بضائعهم ويستوردون منه المواد التي تنقصهم.
ولقد أدى التفاعل مع العمق الإفريقي جنوب الصحراء إلى تأثير ملموس في التشكيلة السكانية المغربية، كما تعمق الطابع الإفريقي للثقافة المغربية من خلال التبادل الذي اتخذ أبعادا متعددة دينية وثقافية وتجارية مع مناطق الساحل وبلدان جنوب الصحراء التي كان المؤرخون يسمونها “بلاد السودان”.
واليوم، في إطار الصحوة السياسية والثقافية للمغرب الإفريقي، كيف نتصور استعادة إفريقيتنا ؟ وما هو السبيل لجعل الوعي بالانتماء إلى إفريقيا جزءا من الوعي الوطني العام لدى المغاربة ؟
ـ إن أول خطوة ينبغي أن تصاحب هذا الاتجاه السياسي والاقتصادي المغربي الحالي نحو جنوب الصحراء هو إعادة النظر في المقررات والبرامج الدراسية، بغرض إرسائها على أساس الانتماء الإفريقي للمغرب، ورد الاعتبار تبعا لذلك لعدد كبير من المعطيات التاريخية والجغرافية والأنثروبولوجية المتعلقة بدول جنوب الصحراء، وربط الكثير من الظواهر الثقافية المغربية بجذورها الصحراوية ـ الإفريقية.
ـ تعميق البحث العلمي في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، وتمكين الباحثين المغاربة من توفير المعطيات الضرورية والوثائق اللازمة لإعادة نسج علاقات جديدة مع بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، مبنية على أساس الانتماء المشترك للقارة السمراء.
ـ تفعيل الطابع الرسمي للغة والثقافة المغربيتين، باعتبارهما إرثا إفريقيا عريقا، وذلك بهدف تغيير العقليات وإعادة تأسيس علاقة المواطن المغربي مع محيطه المادي.
ـ تجاوز الإيديولوجيات الهوياتية الإقصائية التي قدمت من المشرق في سياقات سابقة، والتي جعلت من المغرب بلدا شرقيا وجزءا من “أمة” افتراضية تكتسي أحيانا طابع العرق “الأمة العربية” وأحيانا طابعا عرقيا ـ دينيا “الأمة العربية الإسلامية”، والعمل في مقابل ذلك على بناء فكر مغربي متوازن منبثق من عمق إفريقي وممتد في اتجاه العالمين الغربي والمشرقي.
وثمة ثلاثة عوامل يمكن اعتبارهما مساعدة على هذا التوجه الجديد:
ـ تراخي المغرب وفتوره في علاقته بدول الجامعة العربية، ويظهر هذا الموقف في تجنب المغرب حضور القمم العربية، واعتباره ذلك إجراء غير مُجد.
ـ شعور المغرب بضرورة فك العزلة الإفريقية التي أوقعه فيها مغادرته لمنظمة الوحدة الإفريقية منذ عقود.
ـ اعتبار المغرب عمقه الإفريقي مجالا خصبا للاستثمار وإبرام تعاقدات اقتصادية مع شركاء جدد، تسمح له بالانتقال نحو نموذج اقتصادي مغاير وأكثر دينامية.
أحمد عصيد كاتب وشاعر وباحث في الثقافة الامازيغية وحقوقي مناضل من اجل القضايا الأمازيغية والقضايا الإنسانية عامة