لتحيَ الأمية وليسقطِ الجهل
شاع الاعتقاد أن “الأمّي” هو من لا يعرف القراءة والكتابة، والمتفرّع عن الاعتقاد الأصلي أن الرسول (صلعم) كان “أمياّ” بهذا المعنى، كما شاع ـ مرة أخرى ـ فهْم ذلك من التعابير القرآنية: “النبي الأمي”، “بعث في الأميين رسولا”. ولتبرير أمية النبي محمد (صلعم)، شاع ـ أيضا ـ أن تلك الأمية هي من العلامات والمعجزات الدالة على صدق نبوته، والتي تثبت أن القرآن كلام الله لأنه لا يُتصوّر أن يصدر مثل ذلك الكلام عن أمي. مع أن كلمة “أمي” لا علاقة لها بجهل ولا معرفة بالقراءة والكتابة، وإنما هي كلمة عبرية في أصلها تعني “من ليس من بني إسرائيل”، مثل كلمة “أعجمي” في العربية التي تعني من ليس عربيا. “فالنبي الأمي” هو الذي لا ينتمي إلى بني إسرائيل، أي ليس يهوديا. وإذا كان القرآن يشدّد على ذلك فلأن جميع الأنبياء كانوا من بني إسرائيل باستثناء محمد (صلعم). وهذا واضح من الآية: “هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا”، أي في غير بني إسرائيل (تفصيل ذلك في كتاب لويس عوض: “مقدمة في فقه اللغة العربية”، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة 2006 ـ صفحة 147ـ 148). لكن هذا المعنى الخاطئ هو الذي انتشر وانتصر، لأن كتب التراث أشاعته ورسّخته، فأصبح شيئا غير قابل حتى للنقاش. وهذا المعنى هو الذي نقصده في هذه المناقشة عندما نتحدّث عن “الأمية” و”الأمي”.
بعد الاستقلال مباشرة، كانت الأمية، رغم أن التعليم العمومي كان قد بدأ مع الحماية الفرنسية، منتشرة بشكل كبير. لكن رغم الانتشار الواسع للأمية، في هذه المرحلة التي تلت الاستقلال، إلا أن الأمي كان يتعلّم ويتقن واحدة أو أكثر من المهارات والصنائع والحرف، كأن يعمل حدّادا، أو راعي غنم، أو مربّيا للماشية، أو فلاحا، أو نسّاجا، أو نجارا، أو بناء، أو جبّاسا، أو تاجرا… إلخ. كما كان يمكن أن يتقن ممارسات اجتماعية ترفيهية، كالرقص والغناء…
أما “الجهل”، كما أتناوله في هذه المناقشة، فليس هو نقيض “الأمية” ولا هو غياب للعلم والمعرفة. وقد تساعدنا المقارنة التالية بين “الأمي” و”الجاهل” على فهم الفرق بين الاثنين، وإدراك معنى “الجاهل” كما أستعمله في هذه المقالة.
الأمي عندما يصلّي لا يهتم بمن لا يصلي، لأنه يصلي لنفسه ولربه. أما الجاهل فعندما يصلي فهو يفعل ذلك كمواجهة وتحدٍّ للذي لا يصلّي، والذي يسميه “تارك الصلاة”. فهو يتصرّف كما لو أن الصلاة تستمدّ عنده مشروعيتها، ليس من ممارستها كشعيرة دينية، بل من علاقتها التضادية بمن لا يمارسها. الأمي يؤمن بخرافات متوارثة اجتماعيا، كحكايات الحيوانات عندما كانت تتحدّث إلى الأنسان، وكقصة “عيشة قنديشة”، وكعجائب وغرائب ألف ليلة وليلة أو سيرة سيف بن ذي يزن كما يسمعها من عند بعض “الحكواتيين”… وهي خرافات لا تضرّ أحدا، بل هي حكايات شعبية فيها فكاهة وأدب شفوي يُحكى للتسلية وللاعتبار. أما خرافات الجاهل فهي تُفزع وتُرعب، كخرافة “عذاب القبر” الذي يتحدّث عنه كحقيقة مؤكّدة. وهو لا يفعل ذلك للفكاهة والتسلية أو الاعتبار، بل لإثارة الذعر والهلع في النفوس. الأمي يؤمن بأن هناك حياة أخرى بعد الموت. لكنه لا يتدخّل في تفاصيل هذه الأمور الغيبية. أما الجاهل فموضوعه المفضّل هو الحديث عن جحيم الآخرة والإسهاب في وصف عذابها بتفصيل تقشعر منه الأبدان. إذا سألت الأمي: “ما الذي يشغل بال المغاربة أكثر من أي شيء آخر؟”، يجيبك: “غلاء المعيشة”. أما الجاهل فيجيبك: “تحرير فلسطين”. الأمي يؤمن أن الزلزال قضاء الله وقدره. أما الجاهل فيجزم أنه غضب وانتقام منه وعقاب يُنزله على ضحايا الزلزال لارتكابهم المعاصي والذنوب. الأمي قد يتصدّق على الفقراء ويساعد المعوزين لأنه يعتقد أنهم يستحقّون ذلك، وأن الإسلام يحضّنا على الإحسان إلى الضعفاء، وأن من واجبه أن يفعل ذلك. أما الجاهل، فهو عندما يتصدّق، فهو لا يفعل ذلك بدافع خيري وإنساني، بل بدافع حصد الحسنات وكسب الأجر والثواب. الأمي عندما يستعمل الجرّار أو الثلاجة أو آلة الغسيل…، قد يُثني، وبكل اعتراف عفوي، على مخترعي هذه الآلات من “النصارى”. لكن الجاهل يعتبرهم “كفارا” لا يستحقون شكرا ولا ثناء، رغم أنه يستعمل منتوجاتهم وأدويتهم، وقد ينفق مالا كثيرا للحصول على أوراق الإقامة عندهم. الأمي يحصل على رزقه بالكدّ والعمل. أما الجاهل فقد يحصل عليه بممارسة الرقية الشرعية، أو ما شابهها من ممارسات أخرى جهلية وتجهيلية، توفّر له ريعا مضمونا دون تعب ولا جهد. الأمي قد يلجأ، عندما يمرض، إلى العلاجات الطبية الشعبية، كالتداوي بالأعشاب. أما الجاهل فهو ينصحك بالرقية “الشرعية” و”الطب النبوي”. الأمي قد يلبس العباءة التي يسميها “العباءة المغربية”، وقد تضع زوجته، أو أخته أو بنته أو أمّه، غطاء يخفي الرأس وجزءا من الوجه، يسميه “اللثام” إذا كان ينتمي إلى جهة الشمال، أو “الملحفة” بالنسبة إلى جهة الجنوب، أو “الحايك” و”لعوينة” بالنسبة إلى جهة الشرق. أما الجاهل فهو يسمي العباءة المغربية باللباس الإسلامي، ويدعو إلى تغيير كل أنواع غطاء رأس المرأة بما يسميه “الحجاب الإسلامي”…
نكتفي بهذه الأمثلة من المقارنة بين الاثنين، والتي تبرز لنا أن الأمي ـ وهو كائن في طور الانقراض ـ هو إنسان يعيش على نوع من الفطرة، في حياته وسلوكه وتديّنه وعلاقاته بالآخرين… أما الجاهل فليس هو من ينقصه العلم، حسب تعريف “الجهل” كغياب للعم، بل هو من زاد عنده العلم على الحاجة. فهو جاهل بسبب العلم وليس بسبب غيابه. هذه “الزيادة” في العلم مستمدّة من أفكار خاطئة حول حقيقة الدين ومقاصده. وهو ما يضفي على هذا النوع من الجهل طابعا دينيا، كما في خرافة “عذاب القبر” والنصب باسم “الرقية الشرعية”، مما يجعل منه جهلا مقدّسا، الشيء الذي يسهّل انتشاره السريع بين الناس.
من أين يستمدّ الجاهل جهله المقدّس، أي أفكاره الخاطئة حول حقيقة الدين ومقاصده؟ قد يحصل عليها من الكتب، ومن “المشايخ”، ومن شبكة الأنترنيت… لكن السؤال الأهم ليس حول مصادر هذه الأفكار، وهي مصادر منتشرة ومعروفة ومتداولة على نطاق واسع، وإنما هو: ما الذي يهيئ الشخص لتقبّل تلك الأفكار وتبنّيها والدفاع عنها دون فحص ولا تمحيص، باعتبارها حقائق دينية ثابتة، وهو ما يجعل منها جهلا مقدّسا؟ لا شك أن للمؤسسة التعليمية، من خلال ما تشحن به التلاميذ والطلبة من تمجيد للتراث، وما تضمّه الجامعات من شعب خاصة بهذا التراث، دورا لا ينكر في إعداد العقول لتبنّي تلك الأفكار بسهولة، وبدون مناقشتها أو التشكيك في صحتها. فلو أن هذه المؤسسة علّمت التلميذ والطالب التفكير النقدي، الذي يسائل ما يُعتبر حقائق بديهية، ويفحص ويناقش كل الأفكار والنظريات والتفسيرات قبل تبنّيها والدفاع عنها، لما وجد الجهل المقدّس تربة خصبة للازدهار والانتشار.
ولا أقصد أن كل الأفكار والنظريات غير المطابقة للحقيقة والواقع، والتي تتخذ شكل معتقدات أو خرافات وأساطير، يجب رفضها واستبعادها لأنها غير حقيقية. وإنما ما يجب رفضه واستبعاده هو تلك المعتقدات الخرافية التي يكون ضررها جليا وقائما، مثل التي تحرّض على الكراهية، أو تدعو إلى تكفير الحاملين لفكر ودين مختلفيْن، أو تنتقص من شأن المرأة وتغمط حقوقها، أو تقدّم صورة مرعبة عن الدين وعن الله بالتذكير بعذابه الذي يبدأ من القبر… والضرر الأكبر لهذا النوع من الجهل المقدّس هو أنه يقف عائقا أمام أي تقدّم ونهوض. أما المعتقدات الدينية أو الخرافية والأسطورية التي لا تقيّد من حرية التفكير والنقد والمعتقد، المرتبطة بالمسؤولية طبعا، والتي تشكّل جزءا من التقاليد الاجتماعية المتوارثة، فليس من الضروري رفضها واستبعادها، لأن الإنسان لا يمكنه أن يعيش بلا معتقدات وبلا خرافات. فاليابانيون، مثلا، يؤمنون بأمور مغرقة في الخرافة، يرفضها المنطق ويدحضها العقل. لكنهم حافظوا عليها لأنها تراث لا يعيق التنمية والتقدّم، بدليل أنهم حقّقوا هذه التنمية والتقدّم دون الحاجة إلى التخلّي عن ذلك الجزء الخرافي من تراثهم. أما ذلك الجزء الخرافي من تراثنا، بطابعه الديني الذي يعطيه صفة الجهل المقدس، فهو يتعارض مع الشروط الاجتماعية والثقافية والفكرية لكل تنمية وتقدّم. وقد كان الجهل المقدّس في أوروبا، قبل ستة قرون، هو الذي يحكم ويشرّع، ويعزل وينصّب. لقد كان هو كل شيء. لكن الأوروبيين استطاعوا التحرّر من جهلهم المقدّس، دون الحاجة إلى القضاء عليه نهائيا. لقد عرفوا كيف يميّزون بين ما هو علم حقيقي درّسوه وشجعوا عليه، وما ما هو جهل عاديّ حاربوه بالتعليم الجيد والنافع، وما هو جهل مقدّس يستند إلى علم غير حقيقي، قلّصوا من مساحة تحرّكه وحدّوا من تأثيره وأفردوا له مكانه الخاص ومهامه الخاصة، بحيث لا يتدخل في تنظيم المجتمع، ولا في تفسير قوانين الطبيعة، ولا في علاج الأمراض، ولا في تسيير شؤون الدولة… أما نحن فإن التمييز الوحيد الذي نقيمه بين العلم والجهل المقدّس هو أن الثاني علم أسمى وأرقى من الأول.
الأمي الذي تحدثت عنه، والذي كان يعيش على نوع من الفطرة، ربما لم يعد موجودا، أو موجودا بعدد قليل جدا، لأن الأميين الذين كنت أعنيهم هم الأميون الذين عاشوا قبل ثمانينيات القرن الماضي. وهؤلاء لم يزولوا فقط لأن المدرسة العمومية حدّت بشكل كبير من انتشار الأمية، بل لأن الجهل، بالمعنى الذي شرحت، أصبح يستهدف حتى الأميين. فالأمي الذي ينتمي إلى هذه الفترة التي أشرت إليها، لم يكن يلجأ إلى “الرقية الشرعية” لأنها مصطلح لم يكن معروفا ولا منتشرا. أما اليوم، فحتى الأميون ـ وهم قلائل ـ أصبحوا من “الزبناء” المفضّلين لدى الرقاة، بسبب انتشار وهيمنة الجهل المقدّس. فإذا كانت المؤسسة التعليمية، حسب ما سبق أن قلته، تهيئ العقول لقبول وممارسة وإنتاج الجهل المقدّس، فإن الحاملين لهذا الجهل ينشرونه بين الأميين عن طريق “الشفوي” فيفسدون فطرتهم السليمة. وهكذا ينتصر الجهل ويهيمن. نعم لقد نجحت المؤسسة التعليمية في التقليص من الأمية إلى حدّ بعيد. لكنها، في المقابل، أنتجت الجهل، بل أخطر أنواع الجهل وهو الجهل المقدّس الذي يستند إلى الدين. فحتى بداية الثمانينيات من القرن الماضي، لعبت المدرسة العمومية بالمغرب دورا هاما في محاربة الأمية، وفي تكوين مفيد للمتعلّمين بتمكينهم على الخصوص بأدوات التفكير النقدي، الذي يُخضع كل حقيقة أو فكرة أو رأي لمسبار التحليل والفحص والنقد. أما بعد هذا التاريخ، فقد تحوّلت، لأسباب سياسة وإيديولوجية، المؤسسة التعليمية، بما فيها المدرسة العمومية والتعليم الجامعي، إلى مساهِم في إنتاج ونشر الجهل المقدّس، والذي كان التعريب أحد آليات هذا الإنتاج والنشر.
إذا امتدحتُ الأمية وذكرت بعض فضائلها، فليس لأنها قيمة في حدّ ذاتها، وإنما هي قيمة فقط عند مقارنتها بالجهل المقدّس. أما الأمية في حدّ ذاتها فهي العائق الأكبر لأي تقدّم ونهضة. فالمطلوب إذن اليوم، ليس العودة إلى الأمية، وإنما إصلاح المؤسسة التعليمية حتى تكون أداة لنشر العلم الحقيقي، وليس الجهل المقدّس الذي ينهل من علم زائف ومغشوش.
كاتب ومفكر وباحث ومناضل أمازيغي منحدر من منطقة الريف ومدير نشر جريدة تاويزا. ألف العديد من الكتب والمقالات التنويرية القيمة