شعراء “أحواش” .. حُمَاةُ القِيَم


تنطلق هذه الورقة من فكرة بسيطة للغاية لكنها، عميقة جدا، أشار إليها المؤرخ والأنثروبولوجي “كابريل كامب” المتخصص في تاريخ الأمازيغ بشمال إفريقيا، في كتابه القيم الموسوم بعنوان “الأمازيغ: “ذاكرة وهوية” “les Berbères :Mémoire et Identité”، تساءل كيف تمكن الأمازيغ من الوفاء للغتهم وثقافتهم وتقنياتهم التقليدية وعاداتهم، على الرغم من التحولات الكثيرة التي عاشوها في تاريخهم، وعلاقاتهم مع مختلف الشعوب كالبونيقيين والوندال القرطاجيين والرومان والأتراك والعرب… ولم ينصهروا كما انصهرت واندثرت الكثير من الشعوب القديمة، ثم قال “كابريل كامب”: صفوة القول إن الأمازيغ بقوا هم أنفسهم وهذا معنى أن تكون أمازيغيا”.

فماهي أسباب هذه الاستمرارية التي تبقى سر من أسرار التاريخ؟

الأمازيغية.. الثقافة قوة الاستمرارية

يَعتبر “كليفورد كيرتز” في كتابه “الضخم تأويل الثقافات” أن مفهوم الثقافة مُعقدٌ ومُتشعبٌ أكثر مما نتصور، فقد أشار إلى وجود ما يناهز 200 مفهوم للثقافة، ويعتقد أنه ليس من الواجب أن نرى الثقافة مجموعات من أنماط السلوك الملموسة، تقاليد وعادات والتقنيات والتعابير الفنية والأدبية، وطُرق اللباس والمعمار واللغة وكل ما ينتجه الانسان من معارف وأفكار وتقنيات… بقدر ما “يقتنع گيرتز” بفكرة “ماكس فيبر” التي تقول: “إن الإنسان هو حيوان عاقل في شبكات رمزية نسجها بنفسه حول نفسه”. لذلك يطرح “گيرتز” تصوره للعمل على الثقافة كأنها “شبكات”، ويردف قائلا: “وأرى أن تحليلها يجب أن لا يكون علما تجريبيا يبحث عن قانون بل علما تأويليا يبحث عن المعنى”. ويسعى “كيرتز” طبعا؛ في هذا المفهوم إلى تحقيق التراكم في البحث والتأويل للمفهوم الذي وضعه الإنثروبولوجي الإنجليزي “ادوارد تايلور” (توفي سنة 1917)، الذي حاول وضع تعريف شامل لمفهوم الثقافة، “وهي الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والأعراف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع”.

إلا أن كل أعمال الأنثروبولوجيين والباحثين المهتمين بالثقافة في حقول معرفية أخرى، مدينون للباحث الأمريكي الألماني “فرانز بواس”، (توفي سنة 1942) الذي جعل من الثقافة/ الثقافات ورشا علميا مستقلا مغريا للبحث والتحليل، وهو الذي أسس بأبحاثه الميدانية خاصة حول شعوب الإسكيمو علم “الأنثروبولوجيا الثقافية”. وقد شارك “فرانس بواس” في بعثة علمية ميدانية سنة 1883 إلى جزيرة “بافين” في منطقة “الإسكيمو” الوسطى، لإجراء دراسة جغرافية كباحث في الجغرافيا، وكان موضوع البحث هو دراسة أثر الوسط المادي على مجتمع “الإسكيمو”، لكنه بعد التحريات والملاحظات الميدانية، لاحظ واقتنع أن الثقافة هي المحدد الرئيسي لسلوك البشر وليس الوسط الجغرافي والمادي. وتأكد أن التنظيم الاجتماعي كان محكوما بالثقافة أكثر منه بالبيئة المادية. وبعد عودته إلى ألمانيا كرس جهوده البحثية والعلمية لدراسة الثقافة/ الثقافات، تحت إشراف “أدولف باستيان” في المتحف الأنثروبولوجي الملكي في برلين. ومنذ ذلك الحين بدأ في وضع اللبنات الأساسية لعلم الأنثروبولوجيا الثقافية لا سيما بعد انتقاله إلى أمريكا. وخلص “فرانز بواس” في أبحاثه الميدانية أن الاختلاف بين المجتمعات هو اختلاف ثقافي وليس عرقي. بعد تأكيده على الاستقلال النسبي للظواهر الثقافية، حيث كان فصله للعرق واللغة والثقافة مفتاحا لمقاربته. كما قام بتحيين شامل لمفهوم الثقافة ليشمل الحقول المادية والاجتماعية والرمزية.

وعلى هذا الأساس نقيس أهمية الثقافة في الحياة الاجتماعية لدى الأمازيغ، ونرى أن الثقافة الأمازيغية بالمفهوم “الگيرتزي” حابلة بالشبكات والمعاني والرموز. فالأمازيغية تمتاز بحيوية ثقافية قل نظيرها، تتمتع بوجود زخم هائل وتراكم ثقافي كبير، فالأمازيغية غنية بالإنتاج الثقافي والحضاري والمعماري، شديدة التنوع في اللغة والآداب والفنون. فبفضل عراقة الأمازيغ في التاريخ، فإنهم تمكنوا من بناء حضارة وإنتاج ثقافة متنوعة ومتعددة الأبعاد والتجليات. فالثقافة الأمازيغية هي خزان ثقافي متدفق بالتعابير والأنماط والأنساق والبنيات. وهذا ما يجعل الأمازيغية تتحدى كل ضغوطات التاريخ وتحولات المجتمع، وتستمر في الوجود والعطاء والإنتاج، لأنها تستمد مقومات ذلك من قوة الإبداع الثقافي وغزارته.

ومن أهم أنماط الإنتاج الثقافي التي جعلت الأمازيغية تتحدى عوامل الدهر، هي الفنون الجماعية، وما يحيط بها من منظومات فنية وثقافية أخرى أهمها الشعراء، “إمديازن” أو “إماريرن” ثم “الروايس”.. فالرقص الجماعي الأمازيغي بمختلف أصنافه وأنواعه يعتبر من بين منابع الغنى الثقافي التي تضمن استمرارية اللغة والثقافة الأمازيغيتين.

الفنون الجماعية: حيوية الرموز

يكاد يجمع الدارسون والباحثون للفنون الجماعية والرقص الأمازيغي على قدم وعراقة هذا الطقس الاحتفالي، وتوغله في الزمان لما قبل التاريخ، فما يعرف حاليا بـ”أحواش” و”أحيدوس”، هو تعبير احتفالي جماعي قديم، كان شائعا في كنف المجتمعات الأمازيغية القديمة، ويتحين مع التاريخ، وتعايش مع التحولات الاجتماعية والثقافية، ف”أحواش” كان منتشرا قبل دخول الإسلام إلى بلاد الأمازيغ، وله ارتباط وطيد بأشكال التدين القديمة في شمال إفريقيا وطقوس العبادة. فهو فعل ثقافي مستمر في الزمان والمكان، مما يجعل منه “مؤسسة اجتماعية” بمفهوم “دوركايم”، والتي تضم “كل المعتقدات وأنماط السلوك التي ينشئها وينتجها المجتمع”. ويضع “دوركايم” العديد من الشروط التي يستوجب توفرها في المؤسسة الاجتماعية، وعلى رأسها ضرورة الإنتاج الجماعي والمشترك، ثم استمراريتها في الزمان لمدة طويلة، وأيضا اخضاعها لضوابط وقواعد صارمة. وكل هذه الشروط متوفرة في “أحواش” كرقص جماعي أصيل ومستمر في التاريخ.

ويتميز الرقص الجماعي الأمازيغي باختلاف وتنوع في التسميات والإيقاعات والألحان إلا أنه يُعد نمطا فنيا واحدا، فـ”أحواش”، أو “أحيدوس”، أو “الهضرت” أو “الدرست”… كلها تعني نفس الدلالة الفنية والثقافية للتعبير عن فن جماعي متجدر ومتوارث. فوظائف “أحواش” ورمزيته متعددة ولها جوانب مختلفة. يقول الدكتور “عمر أمرير” في حديثه عن الشعر الأمازيغي: “إن الشعر حدس واستبصار وإلهام وقوة حضور البديهة. ولا يمكن أن يتجلى إلا في حالة طقوس ومعتقدات وتقاليد جماعية، يؤجج حماسها الشاعر والمتلقون في مكان وزمان يوحيان بأصول تعبدية -قبل الإسلام- للاحتفال الشعري الذي اختار له الأمازيغيون بعد إسلامهم اسما غاية في الدلالة إنه مصطلح “لهضرت” الذي يستحضر في الاحتفالية الشعرية “أحواش” جلال مصطلح وكرامة الحضرة”، (ص 83).

لا يوجد شك أن قدم أحواش وعراقته وتعلق الشعراء والمجتمع به، يحيل على رمزيته الدينية والتعبدية القديمة، وهذا ما جعل بعض المؤرخين الأجانب الذين تحدثوا عن تاريخ الأمازيغ بجبال الأطلس الكبير، عن طريق المشاهدات الرحلية أو عن طريق الاستعانة بالكتب القديمة، يرجحون أن رقصة “أحواش” وطريقة تنظيمها وايقاعاتها وطقوس العبور التي تتخللها في الزمكاني الذي تنظم فيه رقصات “أحواش”، وهو فضاء “أسايس” حيث يتخذ أحواش شكل نصف دائرة تتوسطه النار أثناء الليل وتحت القمر، يرجحون أن تكون لها علاقة بالطقوس التعبدية القديمة، لا سيما أن المؤرخ الإغريقي “هيرودوت” في حديثه عن الأمازيغ الذين سماهم بالليبيين، أشار إلى شدة ارتباطهم بآلهة الشمس والقمر والخصوبة. يقول “ليبولد جوستينار” المعروف بـ”القبطان الشلح” متحدثا عن أجواء أسايس: “ولَكَم تبدو بديعة تلك التجمعات الليلية، حين تضيئها شعل النار المتراقصة بطريقة شبه عجائبية وبينما ينشر الليل سكونه على محيط الدوار تواصل النجوم سباقها الخافت في السماء”.

إلى حدود القرن العشرين، ونحن نتابع جل ما كُتب من طرف ضباط الشؤون الأهلية والمخبرين والجواسيس في الأطلس الكبير وسوس والأطلس الصغير، قُبيل الحماية وخلالها، نلاحظ أن هؤلاء كلهم تحدثوا عن “أحواش” بكثير من الدقة والوصف الكثيف الذي أخذه “گيرتز” من البحث الإثنوغرافي. وعادة ما يرمزون إلى وجود علاقة وطيدة بين “أحواش” وطقوس العبور الدينية من خلال حضور بعض الرموز التعبدية في “الهضرت” سواء من حيث الشكل حيث تتخذ “الدرست” أو “أحيدوس” شكل الصلاة في الإسلام، أو عن طريق المقارنة مع أشكال التعبد القديمة المحلية التي كانت سائدة داخل المجتمع الأمازيغي لا سيما التجمهر حول النار والدوران حولها. في هذا الصدد يقول المستكشف الاسكتلندي “جوزيف طومسون” في كتابه “أسفار في الأطلس والجنوب المغربي” سنة 1888، أثناء زيارته لمنطقة تلوات ومكث بها 10 أيام، واصفا رقصة “أحواش” كما يلي: حوالي أربعين رجلا نصفهم يحملون في أيديهم دفوفا وهي الآلات الوحيدة المستعملة في الغناء، متحلقين على شكل قوس الدائرة ويقف أمامهم في خط مستقيم كأنه حبل القوس، عدد مماثل من النساء تقريبا. وعند الإشارة المعروفة لديهم، وببطء، ووجوه مبتهجة، يبد أن الإنشاد بنغمة المؤمنين المنادين للقوى المختفية، وبصوت مرتفع ترد النساء مكررة لهذا النغم… بعد ذلك يكون الغناء قويا بلحن غريب، لكنه دائما بوتيرة بطيئة وكثير من الوقار، متناغما مع إيقاع الدفوف، تقف النساء وقفة إقامة الصلاة، ووجوهن يعلوها الوقار، وأيديهن مغلقة على صدورهن”. ويظهر من هذا الوصف الدقيق لرقصة “أحواش” بمنطقة تلوات بالأطلس الكبير، أن المستكشف الاسكتلندي لاحظ أن “أحواش” يشبه كثيرا الصلاة، وأن الرجال والنساء أثناء أدائهم الرقصة يتحلون بخشوع تام كأنهم ينادون القوى الخفية. وتجدر الإشارة إلى التقارب الكبير بين رقصة “أحواش” و”العمارة” و”الحضرة” الصوفية، لا سيما لدى الطريقة الدرقاوية، وهي التي انبثقت من جبال الأطلس الصغير حيث ينتشر أحواش بمختلف أنواعه وأصنافه، وهي المنطقة الأكثر تعلقا بـ”أحواش”.

ويطلق على الرقص الجماعي الأمازيغي عدة تعبيرات وتسميات حسب اختلاف المناطق، مثل “أسگا”، و”أگوال” و”لهضرت” ثم “الدرست”، وضمن “أحواش” توجد تفرعات مثل “أحواش العواد”، و”أهياض” و”أهناقار” وغيرها… ومنه “أحواش” الذي تشارك فيه النساء مع الذكور، ونمط خاص بالنساء بمفردهن. غير أن تسمية “الهْضْرتْ” و”الدْرْسْت” هي الأكثر شهرة وانتشارا، فـ”الهضرت” تبين الجانب الوظيفي للاحتفال الشعري، فيما “الدرست” تبين الجانب الوظيفي الاجتماعي والسياسي للاحتفال نفسه. ويفسر الشاعر والباحث “إبراهيم أوبلا” في كتابه “أمارگ نوسايس” أن فنون أحواش تتكون من ثلاثة تعابير فنية وهي: التعبير بالكلمة الذي يحيل على الشعر، والتعبير بالصوت الذي يحيل على الغناء والإيقاعات والآلات، ثم التعبير بالحركة الذي يحيل على كل أشكال الفرجة والمسرحة وحركات الجسد التي يقوم بها الراقصون. وكل هذه التعابير ضرورية في تنظيم وأداء رقصة “أحواش”، ومن بين الشروط الأخرى التي يستوجب توفرها في “أحواش”، نذكر:

الزمان: الليل/ القمر

المكان: “أسايس”/” أنرار”، “أسراگ”، وهي فضاءات تحظى بالقداسة.

الجمهور: يعد ضروريا وسببا في وجود الاحتفال والشعراء، الأبعاد التواصلية..

اللباس: يجب أن يكون موحدا ومتناسقا ومتناغما مع لباس القبيلة، حيث يلعب أدوارا مهمة في الانتماء والتعبير عن الهوية؛

الشعراء: يسمون “إماريرن” أو “إمديازن”، لأن الفنون الجماعية هي الحاضنة لهؤلاء المبدعين، وهي فضاءات ابراز مواهبهم وقريحتهم، ينشدون أشعارهم وقصائدهم في “إسوياس” أمام الجمهور. لذلك فهم يلعبون دورا محوريا ومهما.

الشعراء الأمازيغ.. حماة القيم

كثيرة هي القيم التي يساهم الشعراء داخل فنون “أحواش” في الحفاظ عليها ونشرها وتشييعها، من بينها:

“إماريرن”.. حراس اللغة الأمازيغية

إن أول شيء يقوم به الشعراء الأمازيغ في إسوياس، هو الحفاظ على اللغة الامازيغية وتنميتها وصيانتها، فمعروف أن الأمازيغية محرومة من التعليم والتدريس في المدرسة منذ قرون، فهي لغة مُقَاوِمَةٌ كالإنسان الأمازيغي الذي ظل يقاوم في سبيل حريته وأرضه منذ الأزل، فأمام غياب المدارس لتعلم اللغة، بقيت الأسرة هي الضامن والحاضن الأساسي للغة الأمازيغية وسر من أسرار استمراريتها، ثم “إسوياس ن أحواش د أومارگ” هي التي تلعب دور المدرسة في تلقين اللغة إلى الأجيال وتنميتها وتطورها، لأن الشعر عند الأمازيغ يتميز بدقة البلاغة والخيال الواسع. وبما أن الثقافة الأمازيغية تتأسس على المنظومة الشفهية، فإن المتون الشعرية تتضمن أفكار كثيرة وتيمات متنوعة وتتناول مواضيع مختلفة، كما أنها تحتوي على نصوص أدبية رفيعة يتم استلهامها من الأساطير والقصص والحكايات القديمة، وكل هذه النصوص الشعرية يتلقاها الجمهور والمتلقي بشراهة ويحفظها ويتداولها في الحياة اليومية ويتم نقلها عبر الأجيال، ولا تزال قصائد العديد من الشعراء الأمازيغ متداولة في الأوساط الفنية والثقافية ولدى عموم الناس على الرغم من أن عمرها فاق عدة قرون. ولذلك يبقى الشعراء الأمازيغ، بمثابة حراس اللغة الأمازيغية يساهمون في استمراريتها وتطويرها وتنميتها.

“أحواش”.. قيم التنظيم والانضباط

عكس ما يشاع عن المجتمعات الأمازيغية من طرف بعض الكتابات الكولونيالية ومن يروج لأطروحاتها، بكونها مجموعات فوضوية تتخذ من “نظام السيبة” نموذجا لها، إلا أن المجتمع الأمازيغي حريص على النظام والتنظيم والانضباط، ووضع من أجل ذلك قوانين ودساتير محددة تقنن كل مجال من مجالات الحياة اليومية، ولو بطريقة شفهية، فالبنيان الجماعي الأمازيغي، كان يتميز بدقة التنظيم، فقد تم ضبط البنيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بإحكام تام، فكل شيء يخضع للقانون، (يسميها البعض بالأعراف) مثل التنظيم السياسي، الانتخابات، الرعي والسقي والحرث والحرب، وأگدال، (جني التمار)، إلخ… كذلك الرقص والفرح والفن يخضع للنظام. فدخول أسايس للرقص في “أحوايش” ليس متاحا لمن هب ودب، وإنما يخضع لضوابط وتقنيات ومعارف، يستوجب تعلمها واتقانها، “في تلك الفترة لم أكن أستطيع بعد أن أشارك في الأمسيات الكبرى التي يحضرها كبار الشعراء وكبار الموقعين على الآلات، كنت أشارك في اللقاءات الثانوية والمحلية جدا، والمحدودة كذلك، لكنني من خلال تلك اللقاءات كنت أتعلم المبادئ الأولية للتوقيع على الآلة وللنظم كذلك”. (المرحوم الرايس إحيا بوقدير يتحدث عن بداية مساره الفني، “في ذاكرة الموسيقى الامازيغية”).

“أحواش ن تامونت” وتصفية النزاعات:

تحدث “روبير مونتاني” في كتابه الشهير الأمازيغ والمخزن، عن دور “أحواش” في نسج التحالفات وتصفية النزاعات البينية وتبديد الصراعات المتواجدة تاريخيا بين اللفوف، وقد حضر “روبير مونتاني” لمثل هذه المناسبات بحضور المواسم الدينية لأقطاب الصوفية الأمازيغ، خاصة سيدي حماد أموسى نتزروالت. فلاحظ “مونتاني” أن الصراع بين الأحلاف المتنازعة ينتقل من الحرب والسياسة إلى الشعر حيث يتنابز الشعراء بذكر ملاحمهم التاريخية وتمجيد الانتصارات… ونذكر هنا أشعار كثيرة بين حلفي “تاحگات وتاكيزولت”… ويلعب الشعراء دورا حاسما في عقد الصلح وانهاء الصراعات التي تكون في الغالب ممزوجة برقصات أحواش.
فـ”أحواش” يحافظ على قيم تامونت/ الوحدة والتعاضد وتوحيد الصفوف وتقوية اللفوف، ونبذ الصراعات.. وله وظائف اجتماعية وسياسية كثيرة. أهمها الروابط والعلاقات الاجتماعية القائمة بين الراقص والمتلقي، حسب ما يؤكده “ألفريد شوتز” في كتابه “الموسيقى الجماعية: دراسة في الروابط الاجتماعية”. حيث تتأسس العلاقات والشبكات بين الأرواح كما يساهم أحواش في إعادة ترتيب العلاقة بين الأجسام مع بعضها البعض ومع الفضاء الذي يتم فيه الرقص في تفاعل وانصهار تام مع الجمهور.

قيم الدفاع عن الأرض

تعد قضية الدفاع عن الأرض قضية محورية ومركزية في منظومة الشعراء وخطابهم الشعري، فرقصة أحواش هي في العمق قضية حربية، يقدم فيها الممارس فنون الدفاع والقتال دفاعا عن النفس وعن الأرض، لذلك نجد أشكال الرقص وحركاته وتعبيرات الشعراء والممارسين للرقصة، تكون مرتبطة أشد الارتباط بالأرض. فطريقة تحرك وتموج الفنانين الراقصين أثناء “الدرست” أو “أحيدوس”، شبيهة إما بتحرك الفرسان واستعدادهم للغارة والحرب، وإما تكون شبيهة بالسنابل في الحقول، كما أن حركات الفانين تحاكي كل الأعمال والأشغال التي يقوم بها المزارعون أثناء الحرث أو الزرع أو الدرس، لأنه في الغالب يتم تنظيم رقصات “أحواش” بعد الانتصار في الحروب، أو خلال فصل الربيع والصيف حيث يتم جمع المحصول الزراعي. لهذا نرى أن فنون “أحواش” هي تعبير عن الثقافة الزراعية والرعوية لدى الأمازيغ القدماء، فنلاحظ أن القصائد التي يتم نظمها أثناء “أحواش” غالبا ما تنشد الخير والخصوبة، وهيمنة هذه الثيمات في التراث الشفهي والشعري في جميع مناطق سوس لدليل ناصع على ذلك.

ولتقديم الصورة أكثر، نستحضر هنا قصيدة جمعها وكتبها “جوستينتار” من شاعر ينتمي إلى سفوح جبال الأطلس الصغير بقبيلة آيت حماد، وهو الشاعر الرايس “أوبيدار نْ توكارت، آيت حمد”.

فهذه القصيدة ترجمها “جوستينار” إلى الفرنسية… وتم نظمها في حوالي سنة 1918 بعد أن خضعت حركة “القايد الگندافي” الذي كان حينئذ ممثلا للمخزن على سوس.

وفي هذه القصيدة يلح أنظام على الگندافي بعدم الزحف بعيدا وعدم تجاوز حدوده في سهل تزنيت، وعدم صعوده إلى جبال غزولة/ إبودرارن، مذكرا إياه بهزيمة سلفه القايد “الگلولي”.

جاء في القصيدة:

القايد الطيب أَوينْ دَارِي لُوصِيتْ

مْقارْ اغْ تُوگْرتْ رَادَاكْ نِينِي صاحْتْ

مَانْ إيرُورْ ويجَانْ نْفلْاَوْنْتْ

غِيلي غْ نْسْرْسَا أَضَراسْ إعمر

إيگا گيسْ سيدي حْمَادْ أمُوسى لْحْرْكَات

لانْ أَكْ گيسْ آيتْ أزرايفْ كُولوتْن

أسْ لِي غْ سْنْ إكا أگلولْ سْ لْحْركَات

إوأ تيغمي أغْ حَضْرْن إيغْواغن..

القصيدة طويلة تضم حوالي 70 بيتا، وجهها الشاعر إلى القائد المخزني الذي يريد الهجوم على أرض قبائل الجبل/ أدرار، مذكرا إياه بالانتصارات التي حققها أبناء الجبال في دفاعهم عن الأرض. وهذه وظيفة تقليدية للشعراء حيث يقمون باستنهاض همم الرجال والنساء للدفاع عن الأرض، كما يروي الشعراء الأمازيغ بطولات وأمجاد الأسلاف لكي يحفظها الأجيال ويتوارثونها، والكثير من الملاحم والانتصارات في المعارك التاريخية تم حفظها عن طريق ما نظمه الشعراء من أشعار. ويشبه “جوستينار” شعراء الأمازيغ بـ”رواة الملاحم” في اليونان القديمة و”التروفيريون” عصور الوسطى في أوروبا.

صفوة القول، إن الرقص الجماعي الأمازيغي، “أحواش” و”أحيدوس”، يعد في الحقيقة، بمثابة مخزون ثقافي ضخم للخبرات والمعارف والتقنيات، وهي خبرات مستمدة من أسفل المجتمع، فهو أرقى أشكال التعبير الثقافي الذي ينبض بالحياة والحيوية، كما يعبر في الآن نفسه عن الهوية والفرادة، إنه بخلاصة أفضل ما يغذي العبقرية الثقافية الأمازيغية.


0 Commentaires
Inline Feedbacks
View all comments